ومن البر مايكون عقوقا
-----------------------------------------
مُنذ بزوغ فجر إدراكه وهو يعدّ نفسه مسئولا عمّن حوله. .
في كل شيء . .
تراكم هذا الإدراك إلى أن أصبح معضلة لديه، فيرى أن كل ما يقدمه يكون ناقصا.. وان كل ما يبذله لا يرقى إلى طموحه
وسارت عجلات عربة الزمن به .. فأصبح صاحب أسرة ومنزل ومتطلبات ، ولازالت تراكمات الطفولة والشباب تلاحقه ، فأمّن لأهله [ والديه وإخوته ] المأوى وتناسى عائلته ، أمن لهم وسيلة النقل الفارهة ونسيء نفسه وعائلته ، يبر بهم كثيرا على نفسه وعائلته . .
عاش حياة صعبه يعاني من مطرقة البر بأهله وسندانه الضرر بعائلته من غير قصدٍ منه
وفي أوجّ هذه الصراعات مع النّفس .. انتبه إلى صوت زميلة الجالس بمقعد الطائرة بجانبه وهو يحدثه بالانجليزية يصعب فهم مخارج حروفها المدغمه بلكنة فرنسية جنوب إفريقيه
قال له: صاحبي إننا قريبا سوف تحط طائرتنا بالعاصمة وهذا احد أحلام حياتي، هل أنت مسرور لذلك مثلي.
لم يجبه على سؤاله ، بل أشار برأسه مفاده [ نعم ]
فتح نافذة الطائرة لكي يلقي النظر على المنظر خارج الطائرة –إكراما لزميله - ولم يشاهد ما يساعده على تلاشي الصراع داخل نفسه..
كانوا ضيوفا لصاحب الفخامة ، وكان الفندق جميلا والخدمة به أجمل ، ولم يهتم بشيء عدا بتفقد كاميرا النيكون ذات العدسة المقرّبة ، وفي الصباح اخذوا الجميع لرؤية منزل صاحب الفخامة ، ومرشدهم مهتم كثيرا في شرح أين كان يجلس فخامته وهنا كان يأكل وهنا كان يمشي ، أحس بالضجر من هذه الجولة فخرج منها وأصبح يسير في أرجاء المدينة يصور ما يهم ومالا يهمّ . .
عندما رأى الجولة انتهت انظم إليه وعاد أدراجه إلى الفندق ..
كان اليوم الذي يليه يوما حرا ، الجميع يفعل ما يشاء ، في ذلك الصباح تفقد آلة تصويره فلم يعثر على صور لمنزل فخامة الرئيس وقرر أن يذهب ويقف خارج الأسوار ويصور كل شيء من الخارج بعدسته ذات التقريب العالي . وهو منهمك في تصوير كل شيء ، شعر بأصابع تمتد إلى كتفه وتخبره أن عليه التوقف وان هناك من يطلب حضوره على وجه السرعة ..
نظر إلى محدّثه ، فإذا البدلة السوداء لباسه ولا يستطيع رؤية عينيه المختفية خلف نظارة سوداء قاتمة ، ورأى سلكا معدنيا موصولا بأحد إذنيه ، علم صاحبنا أن الأمر جلل ..
قال : لم أفعل شيئا وببراءة الإنسان الشرق أوسطي ، اقسم بأنه لم يصور نساء و .. و ..
قاطعه ذو البدلة السوداء ، قال لا عليك ، هو يريدك ونحن لا نريدك
لم يفهم منه شيئا عدا انه فهم بإشارة يده أن عليه السير أمامه نحو بوابة فناء منزل فخامته ، مشى ولا يدري كيف قدميه تسير به ، وعندما دخلوا داخل الفناء ، طلب منه صاحب البدلة السوداء الاستدارة والوقوف ، ثم اخذ بتمرير جهاز كشف المعادن وتفحص آلة التصوير ، ثم طلب منه مواصلة المسير للداخل
أثناء مسيرة للداخل.. لاحظ أن صوت وقع خطوات من خلفه بدأت تتلاشى شيئا فشيئا، عندما دخل من البوابة قابلة فناء كبير شاهد شخصا بالداخل جالس لا يكاد يرى معالمه ثم اتجه إليه..
وبالمنتصف.. مر على كلبٍ أسود كثيف الشعر حول الحواجب والفكّين .. جالساً بمنتصف الصالة ، انحرف قليلا لليسار ليكون بعيدا عنه وعندما دنى من صاحب الكرسي ، عرف أن الذي أمامه هو الرئيس .
لا يدري ما يقول ولا يستطيع العودة ، كل ما استطاع أن يفعله هو الوقوف شاخصا أمامه لا ينطق ولا يتحرك ، ابتسم الرئيس وقال له صباح الخير ، لم يرد عليه صاحبنا ، ثم طلب منه الجلوس على أريكة بجانبه..
قال : رأيتك واقفا خارج أسواري ، أثناء نزهتي بالحديقة مع كلبي . . فطلبت من حراسي تحري أمرك، فجلبوا لي معلومات كثيرة عنك، لكن ما أثار استغرابي أن من بين تلك المعلومات.. أنك كنت من ضمن جولة يوم أمس والآن تعود لتصوير المكان من الخارج وكنت بالأمس بالداخل ؟
قال له صاحبنا: فخامة الرئيس أننا كنّا نتجول في أثرك، وهذا أمر لا يعنيني أين تأكل وأين تنام وأين تجلس.. هنا قاطعه فخامته وقال: إذا ما هو المهم لديك؟!
جاوبه صاحبنا: أكثر ما يشغل تفكيري هو البحث عن إجابة كيف أتجنّب أن أضر من غير قصد؟ جاوبه فخامته بلفظ [ ارجوا المعذرة ] مفادها انه لم يفهم المقصود من سؤاله..
قال له صاحبنا : لو سألك أحدا من خاصتك هل أنت بارًا بشكلٍ عام ؟ فكان جواب فخامته : بنعم
واستطرد موضحا، أنا باراً بكلبي [ بارني ] لدرجة أنني أعتبره ابني الذي لم أنجبه، وبارا باهتمام شعبي، وبارا بجميع مصالح بلادي داخليا وخارجيا..
قاطعة صاحبنا : هل تفيدني عن برّك لبلادك خارجيا ؟ ، عندما سمع سؤال صاحبنا تقاربت عينيّ فخامته وتجعد جبينه .. ثم قال :
نعم ، لقد بسطت نفوذي وتواجدي في بقاعٍ كثيرة كان من قبلي يكتفون بجني ثمارها واخذ خيراتها وتصلهم بدون عناء ، أمّا أنا فحققت ما لم يحققه غيري ، ملكت هذه الأراضي برجالي وعتادي ..
قال صاحبنا: ما اسمعه أن شعبك أصبح عاطلا، وان اكبر شركات بلادك أعلنت إفلاسها، وان جنودك ضاقت بهم المقابر . . قاطعه فخامته [ قف ] لا تُكمِل. إنني اعترف بان كلامك صحيحا ولكن أنا لم اقصد الإضرار بشعبي ولا التضحية ببلادي وكنت مخلص النيّة على أن اكون باراً لهم ، بل حدث هذا كله من غير قصد مني . تلك الشعوب مسالمة عبر الزمن ولا أعلم ما حدث ولازال كبار مستشاريّ يحاولون فهم ما حصل !!
نظر فخامته إلى صاحبنا ولاحظ ابتسامة مخفيه بوجهه، فعَلِم أنه أجاب عن سؤاله .. ولكن بذكاء فخامته المعهود حاول أن يخرج من هذا المأزق !!
فسأل فخامته صاحبنا : هل أنت على ما يرام؟ أجدك غير مرتاحا بجلستك وكذلك خطواتك غير متزنة أثناء سيرك نحوي ؟
قال له صاحبنا : نعم يا فخامة الرئيس أن علّتي في جزمتي مقاسها كبير على قدمي وتُسبب لي ألماً شديداً.
ثم انحنى .. لنزعها.
حركه بطرف سبابة فخامته ، كانت كفيله لان يجد حول صاحبنا جيشا من ذوي البدلات السوداء ، فوقف على قدميه مذهولا مستسلما وينتظر ما يقرر فخامته ، ثم أشار بنفس السبابة إلى باب الخروج من المنزل ، فأحاطوا به وخرجوا به خارجا ..
ولازال صاحبنا يعاني إلى يومنا هذا ولازال يبحث في دور الكتب ولدى الفلاسفة عن كيف يتجنب الضرر بغير قصد.
انتهت
/
/
بعضاً من الضوء . . يكفل تلاشي الظلام من حوله ،
وبعضا من التذكير يوقظ الحواس للذهاب بجولة.
وبعضاً من السرد . . يُشعر الإنسان أن بعض الأمور لا يمكن وزنها بميزان، بل يعالجها العقل وتفرزها التجارب وتصقلها كثرة المحاولات
اخوكم
ابو سلطان
المفضلات