يا زمان الوصل في الجهراء
فهد عافت
الجهراء، لم تعد كما هي، كان ذلك متوقعا، وطبيعيا، بالنسبة الى غائب، طال غيابه، حتى أن عشرين عاما تكاد تنقضي، مشعلة (صوابر) الضيف، الذي كان من أهل البيت، بالأبيض، لولا الصبغ، غير أن العاشق، ومعشوقته (الجهراء)، هل يمكن لي استئذانكم، بحذف الهمزة، قبل أن نكمل، فقد عرفتها دائما (الجهرا)، حسنا: كلاهما، العاشق، والمعشوقة، كبرا كسبا أشياء، وخسر كل منهما رهانات أخرى، كبرت (الجهرا)، توسعت، واتسعت، زحفت بعمرانها، في كل اتجاه، باستثناء البحر، تقريبا.
وتغيرت معالمها، (الشعبيات الجديدة) لم تعد جديدة، صارت أقدم، مما يتوقع أي أحد، كبر العسكر (البدون)، وكبر صغارهم وتزوجوا،
وأنجبوا، صفة (البدون) نفسها كبرت، منذ زمن بعيد، صارت (غير محددي الجنسية)، عدد كبير منهم بلا عمل، ومن حصل منهم على عمل، لم يحصل على راتب، يكفي للإيجار، الأمر الذي سوّر الجدران الخارجية، لهذه البيوت الصغيرة، بكميات هائلة من الصفيح المرتبك، في محاولة، للاستفادة، من المسافات الفاصلة، بين البيوت، والشوارع، احتجت فعلا، الى أقل من ساعة، حتى أعرف لماذا نظر إلي سائق تاكسي المطار، تلك النظرة، عندما قلت له: (الجهرا، الشعبيات الجديدة)!، أقول للصغار، الذين يقرأون لي الآن، إننا كنا نسميها
(الشعبيات الجديدة)، تفريقا لها عن (الشعبيات القديمة)، التي سبقتها في البنيان، بسنوات، متخذة المكان الأفضل تقريبا، في (الجهرا)، لكنها كانت أصغر، بغرفة، وأقل اتساعا بأمتار، هذه (الشعبيات القديمة) مسحت من الجغرافيا، وبقيت في التاريخ مسحتها الجرافات، وحلت محلها بيوت رائعة، لأناس آخرين، يحملون أوراقا ثبوتية أعلى شأنا، من الدم المنذور لحماية البلاد! حاولت التعرف على مكان منزلنا القديم في (الشعبيات القديمة، قطعة واحد)، لم يكن ذلك ممكنا في الليل، لكنني في الصباح، تعرفت إليه، لم يكن الليل هو السبب، لكن منطقة كاملة أخرى، بنيت بجمال أخاذ، بين (قطعة واحد)، وملاعب كرة القدم، قريبا من( مزرعة الصباح)، هكذا كنا نسميها، دون وجود أي لافتة تحدد الاسم هي لا تزال قائمة، وهذا شيء حسن، بالنسبة الى عاشق قديم، يريد تذكر صباه، حيث كان يصطاد العصافير، من أعشاشها، في أعالي الشجر، المتمايل خلف الأسوار، في تواطؤ تام، مع شيطنة الصغار،
(رغم كل هذا التواطؤ، فقد ظللت عاجزا عن إصابة الهدف، كان محزنا بالنسبة لي، افتقاري إلى مهارة الصيد)، كانت (مزرعة الصباح) بالنسبة لنا، نحن الصغار، تحمل من التناقضات، أكثر مما تحتمل عقولنا، فهي من الداخل مرعبة، ومخيفة، كان أهالينا، يخيفوننا، ويشددون في التحذير، من دخولها، فليس هناك سوى (الإيرانيين)، المزارعين، الذين لا يحظون بثقة الأهالي، الذين يؤكدون لصغارهم دائما، أن الداخل إلى هناك مفقود، ما لم يكن كبيرا في السن، للدرجة التي تسمح له بشراء الكراث، دون حذر، من اختطاف، أما من الخارج، فقد كانت (مزرعة الصباح) أمنية كل قلب، وأمانه، فهي من جهة، ملاعب كرة قدم كثيرة، وواسعة، ويمكن للصغار جدا، الذين لا يمكن إشراكهم في اللعب، الاستمتاع بمشاهدة العصافير، واصطيادها، بـ(النّبّاطة)، كان ولد خالي (صبّار) أكبرنا، وأكثرنا شجاعة وعزما وكان أيضا أفضلنا صيدا للعصافير، كان قادرا في كل يوم على اصطياد أكثر من عشرين عصفورا، وكثير منها كان يبقى حيّا، وكان (صبّار) كريما جدا، يوزع علينا هذه العصافير، حسب هواه، وحين كان الأمر يستلزم عراكا
و(هوشة) مع صغار آخرين، كان (صبار) زعيما حقيقيا وقائدا فذا، كان كريما وشجاعا، لكنه لم يكن عادلا، فقد حرمني أسبوعا كاملا من أي عصفور لأنني دهست بقدمي دون قصد عصفورا صغيرا أهداه لي
وفي الجهة الأخرى من المزرعة كانت (سينما الجهرا) بعيدة قليلا جدا عن واحدة من زوايا المزرعة تلك الزاوية التي إن تبعت السور الممتد منها إلى الطرف الآخر لقيت ( مدرسة المعتصم) المدرسة الابتدائية، التي سبق لي أن ذكرتها، في قصيدتي (أشياء: جدران على كتابة):
(يا قميص وبنطلون اليوم الاوّل للدراسه
يا تحيّات العلم،
يا: مع ـ حمد ـ قلم،
يا لإيلاف قريش
و...
قل هو الله أحد
كانت الجهرا عشيش
وكانت البلد بلد:
إن توافقت اختلف
إن تآلفت اختصم
رن الجرس
آه يا أولى ألَف
يا كراسي المعتصم
ماتت فرس)
أما (سينما الجهرا) فقد حزنت كثيرا و بشكل ودرجة لم أتوقعهما أبدا، حين لم أجد أثرا لها، رغم أنني كنت على علم بأنه قد تمت إزالتها، فقبل سنوات وصلتني رسالة على البريد الإلكتروني تؤكد ذلك، كانت صاحبة الرسالة ( جهراوية) متعصبة في ما يبدو، وكانت تريد تقديم تعزية مناسبة لي، بعد قراءتها لقصيدتي (سينما الجهرا):
( فـ سينما الجهرا
كان الواحد يدفع مية فلس لـ'عنتر: يغزو الصحرا'
ميّه وخمسين فلس لعنتر: 'يغزو الصحرا'
ميتين فلس لعنتر يغزو
الصحرا,
والمتغطرس من ظلمتها ينبت شمسين
(طبعا غزو الميتين احسن من غزو الميّه وخمسين!)
فـ سينما الجهرا
مية فلس لعنتر: يغزو الصحرا
ميتين فلس لعنتر: يغزو الصحرا
ميتين وخمسين لعنتر: يغزو النعمان بن المنذر
ويرجع داحس والغبرا
وفـ الاعياد ويوم الجمعه يغزو كسرى!
لكن لو ما عندك تدفع ايش راح يجرى؟:
أبداً
يسحب عنتر كرسي عند الباب ويجلس يقرا
يقرا فـ أرقام مفكّرته
يوطا خدّ امّه بالنعل
وعنتر تتخنزر عنترته
تُفرك عبله بين اثنين
وعنتر لا ينكر معرفة الخزي ولا يعرف منكرته
عنتر سينما الجهرا هذا:
عبد لمن يدفع تذكرته !!)
المفضلات