الخطبة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله، نَحمده ونستعينُه ونستغفِرُه ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يهْدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوْم الدِّين.
أما بعد: أيها الناس / أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوَى الله ذِكرَى لكلّ أوّابٍ ونجاةٌ للعبادِ من العَذاب(( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ))
أيّها المسلِمون/ تسعَد المرأةُ المسلِمة باقتِفاءِ أثرِ خَيرِ نِساءٍ عِشنَ في أفضلِ القرون وتربَّين في أَجلِّ البيوتِ بيتِ النّبوّة، أعلَى الله مَكانتَهن، وأجَلَّ قَدرَهن، ونزَل القرآن بالثّناءِ عَليهنّ، قال عزّ وجلّ: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ)) زَوجاتٌ مبارَكات، ونِساء عظيمَات.
أُولاهنّ المرأة العاقِلَة الحاذِقة ذاتُ الدين والنسب خديجة بنت خُويلدٍ رضي الله عنها، نشأت على التخلُّق بالفضائلِ والتحلِّي بالآداب والكرَم، واتَّصفت بالعفّة والشرف، كانت تُدعَى بين نساءِ مكّةَ بالطاهرة. تزوَّجَها المصطفى صلى الله عليه وسلم فكانت نِعمَ الزوجة له، آوَته بنفسِها ومالها ورجَاحةِ عقلها، وفي أحزانِه صلى الله عليه وسلم كان يأوِي إليها ويبُثّ إليها همومه. نزل عليه الوحيُ أوّلَ نزوله فرجَع إليها يرجُف فؤادُه من هَول ما رأى، وقال لها: ((ما لي يا خديجة؟! لقد خشِيتُ على نفسي)) فتلقَّته بقَلبٍ ثابت وقالت له: كلاَّ والله، لا يخزيك الله أبدًا.
لاحَ الإسلام في دارِها فكانت أوّلَ من آمن من هذه الأمة، قال ابن الأثير رحمه الله: "خديجة أوّلُ خلقِ الله إسلامًا بإجماعِ المسلمين، لم يتقدَّمها رجلٌ ولا امرَأَة"
عظُمَت الشّدائِدُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم في مطلَع دعوتِه، واشتدَّ الإيذاء، فكانت له قلبًا حانيًا ورأيًا ثاقبًا، لا يسمَع من الناسِ شيئًا يكرهه ثم يرجِع إليها إلاّ ثبَّتته وهوَّنت عليه، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : ((آمنت بي إذ كَفَر بي النّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزَقني الله ولدَها إذ حرمني أولادَ النساء)) رواه أحمد.
عظيمة بارّةٌ بزوجِها وأمّ حنون، جميع أولادِ النبيّ صلى الله عليه وسلم منها سوَى إبراهيم، أدبُها رفيعٌ وخُلُقها جَمّ، لم تراجِعِ المصطفى صلى الله عليه وسلم يومًا في الكلامِ، ولم تؤذِه في خِصام، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم (أتاني جبريل فقال: بشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب ـ أي: لؤلؤ مجوَّف ـ، لا صخَبَ ولا نصَب)) متفق عليه
كانت راضيَةً مرضيّة عند ربِّها، يقول صلى الله عليه وسلم: ((قال لي جبريل: إذا أتتك خديجة فأقرِئ عليها السلام من ربِّها ومنّي)) متفق عليه قال ابن القيّم رحمه الله: "وهي فضيلةٌ لا تُعْرَف لامرأةٍ سِواها". أحبَّها الله وأحبَّتها الملائكة وأحبَّها النبيّ صلى الله عليه وسلم.وفي بَيتِ الصّدقِ والتّقوَى ولِدَت عائشة بنتُ أبي بكر الصديق رضي الله عنها، ونشأت في بيتِ الإيمان، فأمُّها صحابية، وأختُها أسماء ذاتُ النطاقين صحابيّة، وأخوهَا صحابيّ، ووالِدُها صِدّيق هذه الأمة. ترَعرَعت في بيتِ عِلم، كان أبوها علاَّمةَ قريشِ ونَسَّابَتها، منحَها الله ذكاءً متدفِّقًا وحفظًا ثاقِبًا، أحبَّها النبي صلى الله عليه وسلم ، وما كان ليحبّ إلا طيّبًا، يقول عمرو بن العاص : أيّ النّاس أحبّ إليك يا رسول الله؟ قال: ((عائشة)) قلت: فمن الرجال؟ قال: ((أبوها)) رواه البخاري
لم يتزوَّج بِكرًا غيرَها، ولا نزَل الوحيُ في لحافِ امرأةٍ سواها، عَفيفةٌ في نفسها، عابِدة لربِّها، بُهِتَت رضي الله عنها وعُمرُها اثنَا عشرَ عامًا، قالت: فبكَيتُ حتى لا أَكتحِل بنوم ولا يَرقأ لي دَمع، حتى ظنَّ أبواي أنّ البكاءَ فالِقُ كبِدِي، واشتدَّ بها البلاء، قالت: حتى قلَصَ دمعي فلا أحسّ منه قطرة. قال ابن كثير رحمه الله: فغارَ الله لها، وأنزَل براءتها في عشرِ آيات تتلَى على الزمان، فسمَا ذكرُها وعلا شأنها؛ لتسمَعَ عَفافها وهي في صباها. فشَهِدَ الله لها بأنها من الطيّبات، ووعَدَها بمغفرةٍ ورزق كريم. فالذين يشتمون أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق التي نزلت براءتها من السماء على خطر عظيم، فإن تضمن ذلك قذفها فهو كفر بالإجماع، وإن كان دون ذلك فهي كغيرها من الصحابة، خطر عظيم، على أنها طيبة؛ لأنها زوجة لأطيب الطيبين؛ لأن الله تعالى يقول: ((وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)) وذمها رضي الله عنها قدح في الشرع الذي وصلنا من طريقها رضي الله عنها .
وفي مرضه صلى الله عليه وسلم لم تزل ساهِرةً عليه، تمرِّضُه وتقوم بخدمتِه، حتى توفِّيَ في بيتها وليلَتِها وبين سَحرِها ونحرِها.
اللهم أرزقنا حبك وحب نبيك وأمهات المؤمنين وصحابة رسولك أجمعين .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني الله وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
وأما القوّامَةُ الصّوّامة – عباد الله - فهي حفصةُ بنت أميرِ المؤمنين عمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه، نشَأت في بيتِ نُصرةِ الدين وإظهارِ الحق، سَبعةٌ مِن أهلها شهدوا بدرًا.
وأما سَودةُ بنت زمعَة رضي الله عنها فهي الجليلةً النبيلَة، والتي رزِقَت صفاءَ السّريرةِ ، أوّلُ من تزوّجَ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خديجَة، وانفردَت به نحوًا من ثلاثِ سنين، وَهَبت ليلتها لعائشةَ رضي الله عنها رِعايةً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم تبتَغِي رِضَا ربِّها.
زينبُ بنت خُزيمة الهلاليّة، ذات البذلِ والمسارعة في الخيرات .
والمهاجرة المحتسِبَة أمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيانَ رضي الله عنها، ليس في أزواجِهِ مَن هي أقربُ نسبًا إليه منها، ولا في نسائِه مَن هي أكثرُ صَداقًا منها، ولا فيمَن تزوَّج بها وهي نائِيَة الدارِ أبعَدَ منها، عقَدَ عليها وهي في الحبَشَة فارّةٌ بدينها، وأصدَقَها عنه صاحِبُ الحبَشَة وجهَّزها إليه.
والصّابِرة الحيِيَّة أمّ سلمة رضي الله عنها هندُ بنت أبي أميّة مِنَ المهاجرات الأوَل يقينُها بالله راسِخ، توفِّيَ عنها زوجها أبو سلمة فقالت دعاءً نبويًّا، فعوَّضها الله برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّ المساكين زَينبُ بنتُ جَحش بنت عمّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نَعِمت بالحسَب والنّسب والشرف والبَهاء، والعابدة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها من بني المصطلِق، أبوها سيِّدٌ مطاع في قومه، وهي مبارَكَة في نفسها وعلى أهلها.
والوجيهةُ صفيّة بنت حيَيّ رضي الله عنها، مِن ذرّيّة هارونَ عليه السلام، كانت شريفةً عاقلة ذاتَ مكانةٍ ودين وحِلم ووقار .
فتلك - عباد الله – مختصر من سيرةِ الخالداتِ في الإسلام أمّهات المؤمنين، مَناقبهنّ مشرِقة، جمعنَ بين المحاسِنِ والفَضائل فرضي الله عليهن وعلى صحابة رسول الله أجمعين .
ألا وصلوا على البشير النذير ، والسراج المنير ، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير ، فقال جل من قائل عليما : (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )) وفي الحديث الصحيح ، قال صلى الله عليه وسلم : (( من صلى علي صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشرا ))
المفضلات