خطبة جمعة بعنوان
( آخر جمعة في رمضان )
خطبتها سابقا وهي خطبة الغد إن شاء الله
عبدالله بن فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الحمدُ للهِ ما انتظمتْ بتدبيرِهِ الأمُورْ ، وتوالتْ بحكمتِهِ السّنينُ والشهورْ ، وسبحتْ بفناءِ صنعتِهِ أسرابُ الطُيورْ، وسعَ المُقترفين بعفوِهِ وغُفرانِهْ ، وعمَّ المُفتقرين بفضلِهِ وإحسانِهْ ،خرتْ لعظمتِهِ جباهُ العابدينْ ، فطوبى لمن عبدْ ، واعترفتْ بوحدانيتِهِ قُلوبُ العارفينْ ، فويلٌ لمنْ جَحَدْ ، كم سُئلَ فأجزلْ ، وكم عُصي فأمْهلْ ، لا راتقَ لما فتقْ ، ولا فاتقَ لما رتقْ ، ولا رازقَ لمن حرمْ ، ولا حارمَ لمن رزقْ ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسلم تسليماً كثيراً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
أيها النّاسُ ، بالأمسِ القريبِ ، كُنّا نستقبلُ هذا الشهرَ المباركَ ، ويبشرُ بعضُنا بعضاً بقدومِهِ ، واليومَ : نوشكُ أنْ نودّعَ هذا الشهرَ الكريمَ ، ولقد يسّرَ اللهُ منه صبابَهْ ، وبقيَ في حرثِهِ ثلاثُ ليالٍ أو أربعُ ، هنَّ من أفضلِ لياليه ، قد تكونُ ليلةُ القدرِ في إحداهُنّ ، فلا تَكِلُّوا عن بلوغِ غايتِهِ ، ولا تركِسُوا قبلَ نهايتِهِ ، ولا يصرفنكم عن طلبها حساب الحاسبين ، وإيهام الواهمين ، فلو كانت ليلة القدر معلومة بالحساب ، لأرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، ولحسبها حبر الأمة بن عباس ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وغيرهم ، وكل ماورد في شأنها رؤى في المنام أريها النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنسيها ، كما في حديث أبي سعيد في البخاري ، وأروها جمع من الصحابة في السبع الأواخر كما في البخاري من حديث بن عمر وورد في حديث عائشة أنها في العشر الأواخر وورد عنها أنها في أوتار العشر الأواخر ، وورد من حديث بن عباس أنها ليلة أربع وعشرون ، وورد عنه أنها لتاسعة تبقى لسابعة تبقى لخامسة تبقى لثالثة تبقى والأحاديث كلها في البخاري ، وهنا أود أن أذكر أنها إذا حسبت من آخر الشهر على حديث بن عباس وكان الشهر ثلاثين يوما صارت في الأشفاع وليست في الأوتار وقد ذكر الحافظ بن حجر رحمه الله في فتح الباري ستا وأربعين قولا في تعيين ليلة القدر ، ورد رحمه الله على من جعلها دائما ليلة الأحد ، أو دائما ليلة الجمعة كأبي الحسن الحولي المغربي ، قال بن حجر رحمه الله ، وكلاهما لا أصل له ، بل مخالف لإجماع الصحابة في عهد عمر ، إنتهى كلامه رحمه الله ، ومن قال أنها ليلة الثلاثاء دائما ، فقد شابه قول أبي الحسن المغربي ، فليرجع إلى كلام ابن حجر رحمه الله ، في الفتح المجلد الرابع ، ولينظر سعة الخلاف بين الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان ، ولم يتطرقوا للحساب ، إنما للنصوص ، وهم رضي الله عنهم أحرص منا عليها ، ولو كان هناك سبيل لمعرفتها بالحساب لسلكوه ، أو بينوه ، بل كلنا نود لو علمناها ، فلما لم يتبين شيء من ذلك في أصل الشريعة ، علم أن تحديدها بالحساب مبني على إدخال أشهر رمضان بالحساب ، وهذا غلط عظيم قد تكلمنا عنه في أول رمضان ، لأننا متعبدون بالرؤية لا بالحساب ، والله عز وجل قال ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يّـس:39) فالقمر قدره الله منازل ، كل ليلة في منزلة ، ولا يكون أول الشهر حتى يعود القمر كالعرجون القديم ، وهذا لا يمكن حسابه ، فطالما أن دخول الشهر لا يثبت إلا بالرؤية ، كما ورد عن النبي صلى الله هليه وسلم ( صوموا لؤيته وأفطروا لرؤيته ) وحديث ( لا تصوموا حتى ترو الهلال ولا تفطروا حتى تروه ) فلا تثبت ليلة القدر بالحساب أبدا ، والصحيح أننا لانعلم متى هي ، واعلموا أنَّ زبدةَ عامِكم في شهرِكم هذا ، وزبدةَ شهرِكم في عشرِكم هذهِ ، وزبدةَ عشرِكم أوتارُها ، وزبدةَ أوتارِها ليلةُ القدرِ ، فمنْ فازَ فيها ، ووفِّقَ لقيامِها ، فهو لعمرو اللهِ من الفائزين ، وممن باعَ الدنيا بالدينِ ، ورغبَ في جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ ، أعدت للمتقين ، ومن فرَّطَ في نيلِها ، وقصَّر في طلبِها ، فثكلتْهُ أمُّه ، وتربتْ يداهُ ، وتعِس وانتكسَ ، وإذا شيكَ فلا انتقشَ ، فيا عبادَ اللهِ ، إشحذوا الهممَ ، وأفيقوا المراقدَ ، وأسرجوا خيولَ عزائمِكم ، وصارعوا الأجرَ في معتركاتِه ، وعالجوا الخيرَ في عُرُصاتِه ، فإن اللحاقَ بالفضائلِ إذا ولَّتْ ، وألقتْ ما فيها وتخلَّتْ ، طلبٌ للمستحيلِ ، ومسابقةٌ للزمنِ ، ومحاولةٌ لجمعِ الضدينِ ، ولقاءِ المستحيلينِ ، فلا يزالُ الخيرُ لكم واجماً ، والغيثُ عليكم غائماً ، فاستغيثوا الرحماتِ ، واطرقوا الخيراتِ، واستزيدوا من الحسناتِ ، وسبحان من جعلَ لكلِّ أجلٍ كتابًا، ولكلِّ عملٍ حسابًا، وجعلَ الدّنيا سوقًا يغدو إليها النّاسُ ويروحونَ، فبائعٌ نفسَهُ فمعتِقُها أو موبِقُها ، مضَتْ ليالٍ غرٌّ بفضائلِها ونفحاتِ ربِّّها، فَهنيئاً من أعماقِ النفسِ ، ومن شِغَافِ القلبِ ، لمن كانَ في زمرةِ الصَّابرينَ الصَّادقينَ ، الصَّائميَنَ القائميَنَ ، الرَّاكعينَ ، السَّاجدينَ ، أسألُ اللهَ ، أن يتقبَّلَ منَّا ومنكم صالِحَ الأعمالِ ، كأنّ رمضانَ ضربُ خيالٍ ، هذا هو شهرُكم، وهذه هي نهايتُهُ، كم من مستقبلٍ له لم يستكمِلْهُ ، وكم من مؤمِّلٍ أن يعودَ إليه لم يدرِكْهُ، فاغتنِموا ما بقي منه بمضاعفةِ الطّاعاتِ، فأيّامُ رمضانَ تسارعُ مؤذنةً بالانصرافِ والرّحيلِ، وحياتُكَ أيها المغرورُ ، أنفاسٌ معدودةٌ وآجالٌ محدودةٌ، وإنّ عمُرًا يقاسُ بالأنفاسِ لسريعُ الانصرامِ ، وشديدُ الإنهزامِ ، فاحذَرْ الاغترارَ بالسّلامةِ والإمهالِ ، ومتابعةَ سوابغِ المُنى والآمالِ، فالأيّامُ تُطوى والأعمارُ تفنَى، فاستلِفِ الزمنَ وغالِبِ الهوى ، واجعَلْ لك فيما بقيَ من الليالي مدَّخرًا فإنّها أنفسُ الذّخرِ، وربما أفضلُ الشهرِ ، واغتنِمْ آخِرَ ساعاتِهِ بالدّعاءِ، ففي رمضانَ كنوزٌ غاليةٌ، وسلِ الكريمَ فخزائِنُهُ ملأى ، ويداهُ سحَّاءَ الليلِ والنّهارِ ، وتعرضْ لسحائبِ رحمتِهِ في دُجى الأسحارِ، لحظاتُ رمضانَ الأخيرةُ نفيسةٌ، ولعلّكَ لا تدرِكُ غيرَه، وافتَحْ صفحةً مشرقةً مع مولاكَ، واسدِلِ الستارَ على ماضٍ نسيتَهُ وأحصاهُ اللهُ عليكَ، وعاهِدْ نفسَكَ في هذا الشّهرِ بدوامِ المحافظةِ على الصّلواتِ الخمسِ في بيوتِ اللهِ وبرِّ الوالدينِ وصلةِ الأرحامِ وتطهيرِ مالِكَ عن المحرّماتِ والشّبهاتِ وحفظِ لسانِكَ عن الكذبِ والغيبةِ وتطهيرِ القلبِ من الحسَدِ والبغضاءِ وغضِّ البصرِ عن المحرّماتِ والقيامِ بشعيرةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ، واستدركْ هفواتِ الفواتِ، فالترحُّلُ من الدنيا قد دنا، والتحوّلُ منها قد أزِفَ، والرشيدُ من وقفَ مع نفسِهِ وقفةَ حسابٍ وعِتابٍ، يصحّحُ مسيرتَها ويتداركُ زلّتَها، وأتبِعِ السيّئةَ الحسنةَ تمحُها ، قالَ جلّ وعلا: (إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ) [هود: 114]، ويقولُ النبيُّ : {اتّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأتبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلقٍ حسن} رواهُ الترمذي. ومَنْ عزمَ على العودِ إلى التّفريطِ والتقصيرِ بعدَ رمضانَ , فاللهُ يرضى عمّن أطاعَهُ في أيّ شهرٍ كانَ ، ويغضَبُ على من عصاهُ في كلِّ وقتٍ وزمانٍ ، ومدارُ السعادةِ في طولِ العمرِ وحُسنِ العملِ ، يقولُ المصطفى : {خيرُ النّاسِ من طالَ عمرُهُ وصلُحَ عملُهُ}. ومداومةُ المسلمِ على الطاعةِ دونَ قصرِها على زمنٍ معيّنٍ أو شهرٍ مخصوصٍ أو مكانٍ فاضلٍ من أعظمِ البراهينِ على القبولِ وحسنِ الاستقامةِ. وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدومُها وإن قلَّ، والمغبونُ من انصرَفَ عن طاعةِ اللهِ، والمحرومُ من حُرِمَ رحمةَ اللهِ ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني اللهُ وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التواب الرحيم .
الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا مزيدًا.أمّا بعد: أيّها المسلمونَ، فإنّ مِن مسالكِ الإحسانِ في ختامِ شهرِكم إخراجَ زكاةِ الفطرِ، ففيها أُلفةُ القلوبِ وعطفُ الغنيِّ على أخيهِ الفقيرِ، فرضَها رسولُ اللهِ طُهرةً للصّائمِ منَ اللغوِ والرفثِ وطُعْمةً للمساكينِ، ومقدارُها صاعٌ من طعامٍ من غالبِ قوتِ البلدِ، ووقتُ إخراجِها الفاضلُ يومَ العيدِ قبلَ صلاةِ العيدِ ، ويجوزُ تقديمُها قبلَ ذلك بيومٍ أو يومينِ ، ومَنْ أخرجَها بعدَ صلاةِ العيدِ لم تكنْ إلا صدقةً من الصدقاتِ ، فأخرِجوها طيّبةً بها نفوسُكم، وأكثروا من التكبيرِ ليلةَ العيدِ إلى صلاةِ العيدِ تعظيمًا للهِ وشكرًا له على التّمامِ، قالَ عز وجل: (وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].واشكروا ربَّكم على تمامِ فرضِكم، واحرصوا على صلاةِ العيدِ فإنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرَ الرجالَ والنساءَ حتى الحيَّضَ وذواتَ الخدورِ أمرهُنَّ بالخروجِ للصلاةِ ، وحضورِ الخيرِ مع المسلمينَ ولكنَّهُ أمرَ الحيَّضَ باعتزالِ المصلى ، وليكنْ عيدُكم مقرونًا بتفريجٍ لكربةٍ وملاطفةٍ ليتيمٍ ، وصدقةٍ على مسكينٍ ، وابتهجوا بعيدِكم بالبقاءِ على العهدِ وإتْباعِ الحسنةِ الحسنةَ ، وإيّاكم والمجاهرةَ في الأعيادِ بقبيحِ الفعالِ والآثامِ ، يقولُ أحدُ السلفِ: كلَّ يومٍ لا يُعصَى اللهُ فيه فهو عيدٌ، وكلَّ يومٍ يقطعُهُ المؤمنُ في طاعةِ مولاهُ وذكرِهِ فهو عيدٌ ، اعلموا أيها المسلمون ، أنّ اللهَ أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيّه فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].اللهمّ صلّ وسلّم وزد وبارك على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين
المفضلات