كان الإمام أحمد - رحمه الله - إذا مر في الشارع يسير بين الحمّالين حتى لا يشار إليه بالبنان ..
حتى يظنه الناس حمالا - شيالاً وعتالاً - فلا يشيرون إليه بالبنان
تعرفون صاحب النقب يوم أن حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا من الحصون فترة طويلة , وذات ليلة انسل أحد المجاهدين وتسلق سور الحصن , ونزل على الحراص , وقتل الحارص وفتح نقبا في السور , ودخل الجيش الإسلامي , واحتل الحصن , ونادى طويلا .. نادى مسلمة طويلا : أيكم صاحب النقب ؟ فلم يتقدم إليه أحد , وذات ليلة وإذا بفارس ملثم يدخل خيمة مسلمة ويقول : أتحب أن تعرف من صاحب النقب ؟ قال : نعم , قال : بشرط ! أن لا تذكر اسمه لأحد وبشرط أن لا تثيبه ولا تجازيه , قال : نعم . قال : أنا صاحب النقب , ولم يذكر اسمه ثم فر هارباً .
فكان بعدها مسلمة كلما توجه إلى القبلة بالدعاء يقول : ( اللهم احشرني مع صاحب النقب ) .
أعمدة البناء .....
هذه النفوس الصادقة والنماذج الرفيعة هي التي كانت تحفظ المجتمع الاسلامي من الإنهيار ... يوم أن كانت الشهوات تتسلط على الأمراء وعلى الحكام ! كان الذي يحفظ المجتمع من الإنهيار , ويحفظ الأرض من الإهتزاز , ويحفظ الناس من التمزق والشتات , هذه النماذج الرفيعة التي بقيت طيلة المجتمع الإسلامي منبثة وبنسب قد تقل أو تكثر ... هذه تمثل أعمدة البقاء لهذا البنيان الذي يسمى " المجتمع المسلم "
وهذه الأعمدة الإسمنتية المسلحة قد يكون عدادها أربعة ولكنها تمسك - وعلى قرونها تمسك - بنيانا ضخما قد يصل إلى مائة طابق أو يزيد أو يقل
وكلما خلا المجتمع من الصادقين ... وكلما اختفت هذه النماذج الرفيعة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم ( الأخفياء الأتقياء الأبرياء ) - رواه ابو حاتم والبيهقي والحاكم
كلما اختفت تدريجيا من المجتع - كلما بدأ المجتمع يتآكل وينهار ويتشتت ويتمزق . ولذا , فليست مشكلة الإسلام اليوم سوى قلة الصادقين بين العاملين لله , سوى قلة الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين يتصدرون لقيادة الأمم , ويتصدرون لتوجيه السفينة , فإذا أمسكت السفينة يد صادقة قادتها إلى شاطئ السلام بشراع الأمان وبيد القوى الأمين ..
المجاهد الصادق الذي لا يعرف اسمه ..... ( الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا ) , غابت ملامح وجوههم وراء غبار المعركة , وغطى صليل السلاح وقذائف الطائرات والدبابات على مسامعهم فلا تسمع الغثاء , وليس عندهم وقت لاستماع غيبة أو تجسس أو نميمة أو ريبة , فالأمر أعظم من ذلك .. الأمر جلل , الأمر أكبر من أن يلتفت إلى نقيق ضفادع أو إلى نعيق غربان , إن الأمر أعظم من ذلك
وكلما قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الحسن الذي رواه أحد أصحاب السنن ( مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصلح خُصاً لنا قد وهي - قد ضعف - خصا من القصب ومن الخشب - فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أظن الأمر إلا أعجل من هذا "
أنتم مشغولون بتصليح خُصّكم ؟ , إن الأمر - أمر الآخرة - أعجل من هذا . ومن هنا كانت الآخرة تشغل حياتهم , كانت رقابة الله تكف أنظارهم عن كل شيء , هم ينظرون إلى الدنيا من قمم عالية , وما أصغر الدنيا للذين يحلقون في أجواء السماء .. ألم تركب الطائرة ؟! إن أرض المطار كبيرةة في نظرك وأنت على الأرض , فإذا غادرت أرض المطار تختفي العمارات الشاهقة تدريجيا, ثم تختفي كل الأرض نهائيا , إن الآن تحلق في الفضاء , وتشق عنان السماء , وتجاوز الجوزاء , ولذا لم يبق لك في الأرض تعلق ولا ارتباط .
هكذا كان السلف ... هكــــــذا كان الصادقون .. هكذا كان الصالحون
مــــنــــقـــوول (مجلة الشجرة الطيبة )
المفضلات