الفكر الليبرالي
فإن كلَّ دينٍ صحيح؛ جاء مرشداً للإنسان، وهادياً له إلى طريقِ الحق، ومكمِّلاً لما فيه من النقائص التي تعتريه، فهو مخلوقٌ إن تجرد عن الإيمان بالله والانقياد لأوامره واجتناب نواهيه؛ كان في أسفل سافلين، فهو - بلا إيمانٍ وطاعة - يعيش طبيعةً بائسة: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... " (1).
وإن من أكبر الجرائم التي قد يرتكبها الإنسان: استجابته لعدوه الشيطان، ليبدأ معه رحلةَ التحريف والضَّياع، وينساقَ خلف رَكْبِ الأهواءِ والرَّغبات، فيُقدِّمها على نصُوصِ الشرع المُطهَّر، ودلالاته الواضحة، وحقائقه النيِّرة، ليفقد الإنسانُ تلك المعايير التي بها يَعرف الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والهدى من الضلال.
ومن هنا يَكثر التخبُّط والزيغ، وينقاد الفكر تبعاً للأهواء، وتَخضع العقيدة تحت لواءِ العقل الإنساني، الذي إن ابتعد عن نور الوحي وآثار النبوة؛ وقف حائراً أمام الحقائقِ والأسرار والمعارف، وعاش فوضىً حياتية بعيدة كل البعد عن العبوديةِ الخالصةِ المتجرِّدة لله تعالى.
ومن نتائج استجابة الإنسان للشيطان؛ خرجت لنا تلك المذاهبُ المنحرفة، والأفكارُ المخدوعة، التي تعتمد - اعتماداً كلياً - على النظرةِ النقديةِ الفلسفيةِ لكلِّ ثابت، وتتقنَّع بمبدأ الحريَّةِ والانفتِاح، وتركضُ خلف العدو الكافر بدعوى التطور والتقدم. ومن تلك المذاهب: ( الليبرالية ) (2).
والليبرالية تفيضُ بالمبادئ والأفكار المتناقضة التي لجأ إليها أربابُ هذا الفكر؛ لأجل الهروبِ من قيود الاستعباد المزعوم، حتى أظهروا أقوالاً عجيبة، وقواعدَ مضطربة، تجعل الإنسانَ يعيش في حَيرةٍ وشك، يصير معها الحقُّ باطلاً، والباطلُ حقاً، وتتلاشى معها المبادئُ والقيم، وينقطع بها عن مصادر التلقي في الدين الحق، فيعيش في جهلٍ وانحراف.
ومن تلك المبادئ قولهم بـ( نسبية الحقيقة )، وهو ما سيأتي تفصيله وبيانه، وتحليله وتشخيصه، ونقده وتقويمه، سائلاً الله أن يمدني بالعون والسداد، وأن يشكر سعي من كان خلف هذا البحث، إشرافاً وتوجيهاً، ودلالةً وعوناً، اللهم آمين.
تعريف الليبرالية
لم يتفق صنَّاع الليبرالية والمنظِّرين لها على تعريفٍ يُحدد معناها بوضُوح، لكنهم اتفقوا على وصفها بـ " الحرية المطلقة "، يقول دونالد سترومبرج: « إنَّ كلمة الليبرالية مصطلحٌ عريض، وغامض، ولا يزال إلى يومنا هذا على حالةٍ من الغموض والإبهام » (3).
و « الليبرالية فكرةٌ ليست من صنع عَقلٍ بشري واحد، ولا وليدةَ بيئةٍ ثقَافيةٍ أو ظروفٍ زمَنيةٍ واحدة، فقد تعددت تعريفاتها بعد أن استقرت فلسفةً فكرية غربية وضعية، تنزع إلى المادية والفردية والتحرر من كل قيدٍ أو ثابت، إلا ثابت عدم الثَّبات » (4).
والليبرالية هي - في الأصل - مصطلحٌ أجنبيٌّ مُعرَّب، مأخوذ من (Liberalism ) في الإنجليزية، و (Liberalisme ) في الفرنسية، وهي تعني: (التحررية)، ويعود اشتقاقها إلى (Liberty ) في الإنجليزية، و (Liberte ) في الفرنسية، ومعناها الحرية (5).
تقول الموسوعة البريطانية: « وحيث إن كلمة Liberty (الحرية) هي كلمةٌ يكتنفها الغموض فكذلك هو الحال مع كلمة (ليبرالي) ».
وقد جاء في موسوعة ( لالاند ) الفلسفية تعريف الليبرالية بأنها: « الانفلات المطلق بالترفع فوق كل طبيعة ».
وقد عرَّفها المفكر اليهودي (هاليفي) بأنها: « الاستقلال عن العلل الخارجية، فتكون أجناسها: الحرية المادية والحرية المدنية أو السياسية، والحرية النفسية والحرية الميتافيزيقية (الدينية) ».
وعرفها الفيلسوف الوجودي (جان جاك روسو) بأنها: « الحرية الحقة في أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا ».
وعرفها الفيلسوف (هوبز) بأنها: « غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء » (6).
وعرفها المفكر (برنيس) بأنها: « الاستقلال الناتج عن غياب الإكراه، سواء كان ببواعث مادية خارجية، أو بواعث داخلية أخلاقية، والناتج أيضاً عن قوة إعمال العقل ».
وجاءَ في موسوعة (ويكيبيديا) الإلكترونية وصفُ الليبراليةِ بأنها: « حركة وعي اجتماعي وسياسي داخل المجتمع، تهدف لتحرير الإنسان فرداً وجماعة من القيود الأربعة (السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية)... وتعترض الليبرالية على تدخل الدين في الأمور الشخصية بشكل عام، وهي بهذا مقاربة للعلمانية بشكل كبير » (7).
وفي (موسوعة المورد العربية) عُرِّفتْ الليبراليةُ بأنها: «معارضة المؤسسات السياسية والدينية التي تحدد من الحرية الفردية، وهي تطالب بحق الفرد في حرية التعبير وتكافؤ الفرص » (8).
وجاء في (الموسوعة الميسرة) بأنَّ الليبرالية هي: «مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي» (9).
وهكذا نرى أن تعريفات الليبرالية تتفق على أنها انكفاءٌ على النفس مع انفتاحٌ على الهوى؛ بحيث لا يكون الإنسان تابعاً إلا لنفسه، ولا أسيراً إلا لهواه، وهو ما اختصره المفكر الفرنسي (لاشييه) في قوله: « الليبرالية هي الانفلات المطلق ».
وكذا فإن لليبرالية جوهرٌ أساسي يتفق عليه جميعُ الليبراليين في كافةِ العصُور مع اختلافِ توجُّهَاتهم وكيفيةِ تطبيقها كوَسيلةٍ من وسَائلِ الإصلاح والإنتاج، هذا الجوهرُ هو: « أنَّ الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهى , الباعث والهدف , الأصل والنتيجة في حياة الإنسان , وهي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر، وشرح أوجهه والتعليق عليه » (10).
فالليبراليةُ تدعو إلى الحريةِ المطلقة التي لا تعترفُ بدينٍ ولا شرعٍ ولا نصٍ مُقدَّس ولا عادَاتٍ ولا تقاليد، وتجرُّ الإنسانَ كي ينصاعَ إلى الهوى والشهوة، وتجعله قائماً على الحظوظِ الشخصيَّة ونبذ الأصول المتينة، والقواعدِ الرَّصينة، التي منها انطلق سلفُ هذه الأمَّة في فهمِ الدين وعبادةِ رب العالمين.
نسبيَّة الحقيقة
أولاً / تعريف " نسبيَّة الحقيقة ":
النسبيةُ - بشكلٍ عام - هي مبدأ فلسفي يرى أنَّ كلَّ وجهاتِ النظر صحيحةٌ شرعيةٌ متساوية، وأنَّ كل الحقائق نسبيةً إلى الفرد. وهذا يعني أن كلَّ الأوضاعِ الأخلاقية، والأنظمةِ الدينية، والأشكال الأدبية، والحركاتِ السياسية؛ حقائقٌ نسبية للفرد.
« وفي النسبية مقياس السلوك هو ذواتنا، فما هو الحق والعدل في عين شخص ربما لا يكون حقاً وعدلاً في عين شخص آخر. ولا أحد يستطيع أن يزعم أنه هو على الحق والصواب أو الحقيقة المطلقة » (11).
يقول أحد الكتَّاب: « كيف لنا أن نقرر حقيقة الحقيقة، أهي مطلقة أم نسبية؟ سؤال حيرني كثيراً، وأضحى يشغل تفكيري نهاراً وليلاً، هل يمكن أن نقود الحقيقة في مسارها؟ أو ليست الحقيقة أيدولويجية يتم تيسيرها برغبة ما نحو صفة وحراك وخطاب معين؟!. لو كانت الحقيقة متمثلة في كائن لبحثت عن مكنوناتها وأوصافها وشموليتها.
لو كانت الحقيقة كيانا ملموسا لصعب أيدلجته وتحويره وتسييسه، لكنها مدلولات تخيلية تتسم بالمراوغة وكل ما هو غير حقيقي. أهي وعي حر متمرد على قيوده؟! أسئلة كثيرة هبت هي وغيرها فجأة لتعلن انتماءها إلى مستودع مكنون من الأسرار والمعطيات، منجم يستوعب المقدس، ويحتضن الملكية، وينادي بمحاكمة الخطيئة » (12).
فيُقال: إنَّ الحق الذي يدعيه (زيد) من الناس شيءٌ غيرَ الحق الذي يدّعيه (عمرو)، فأيهما أحقّ بالحق؟! وأيهما أولى بالاتباع؟! وأيّهما الذي يملك الحقيقةَ المطلقة، فيملك معها تخطئةَ غيره، والقطعَ بضَلال مذهبه؟!.
وهذه التساؤلات ونحوها أثارها الفلاسفةُ قديماً، ونوقشت كثيراً في كتبهم وملتقياتهم، فطرقتْ أسماع الناس مقولة: (الحقيقة المطلقة لا يطالها أحد)، أو (لا أحد يحتكر الحق والصواب)، أو (ليس ثمةَ إلا الحقيقةُ النسبية)، أو (الحق المطلق لا يملكه أحد)، وغيرِها من العبارات المشابهة.. « وفحواها: أنه لا أحد يمكنه القطع بأن معتقده هو الحق، وأن معتقدَ غيره خطأٌ قطعاً، وأقصى ما يمكنه الجزم به أن رأيه صوابٌ يحتمل الخطأ، وأن رأي غيره خطأ يحتمل الصواب، وهو ما يُسمى بنسبية الحقيقة » (13).
فنسبيةُ الحقيقة تقتضي أنْ « ليس هناك أحد يقول أن منهجي وطريقي هو المنهج الصحيح الوحيد، لذا يجب أن لا نقهر أحداً على قبول منهج ما أو طريقة معينة » (14).
يقول الأستاذ بسطامي سعيد حول " نسبية الحقيقة " وبيانِ ملامحها: « هل حقائق الدين نسبيَّة؟.. إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة بغض النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها، قالت العصرانية: "ولكن إدراك حقائق الدين مسألة نسبية، فليس هناك صواب مطلق، وإن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري". والكاتب الذي قرأت له هذا القول لا يقدم دليلاً أو حجة، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية، وليست نظرة شاملة كاملة وإن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته، وبحسب اهتماماته والزاوية التي ينظر منها.
وقضية النسبية (Relativism ) في الحق (truith ) أو في الأخلاق (ethich ) قضية فلسفية، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن عرف الإنسان الفلسفة، وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا تتعقد وتتشابك الآراء، والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث، وهل استطاعت الفلسفة يوماً ما أن تحل لغزاً؟!.
وفي بساطة نتساءل ما المقصود بأن الحقيقة نسبية؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعمله قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكاً شاملاً، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذا الفترة القصيرة من عمرها على الأرض.
وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة، وكل ما عنده من حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها، فأول ما يواجه هذا القول من نقد أن يُسأل: ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قُدمت الأدلة على صدقه وأثبتت أنه حقيقة، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها، وهو اعتراف ينقض ما قُدمت الأدلة لإثباته، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي أيضاً ولا يمكن القطع والجزم به، فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول إن الحقيقة نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وعصورهم؟!
الأهم من ذلك أن يُسأل: هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين، أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه، بل هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة "ذوق"، لا تقوم على منهج علمي محدَّد، أو معايير منضبطة؟!.
إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدَّد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك.
قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص، أو قد يحدث خطأً في الفهم، أو يحدث خطأ في الاستنباط، ولكن هذه مسألة أخرى، ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف بالدليل والبرهان، أما إطلاق العموميات، والقول بأنَّ حقائق الدِّين مسألة نسبية يدركها كلٌ على حسب المعرفة المتاحة، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية ! فقول لا تسنده حجَّة، ولا يمكن قبوله » (15).
ويقول الأستاذ غازي التوبة: « نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة، وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة » (16).
ثانياً / منشأ القول بـ" نسبية الحقيقة ":
هذا القولُ أنشأه الفلاسفة السوفسطائيون (17) - وعلى رأسهم الفيلسوف بروتاغوراس - الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد؛ حيث كانت اليونان تغرق في بعضِ الأفكارِ المتباينة، والمذاهب المتنوعة؛ فلجؤا إلى هذا القَولِ في تأييدِ الآراءِ المتناقِضَة؛ إما شكاً في الجميع، أو تخلصاً من جُهد طلب الحقيقة.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « حُكي عن بعض السوفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد » (18).
يقول الدكتور علي سامي النشار: « نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة: "إن الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكَّاك بعد، فطبقوها على الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو مستقرة، بل كل شيء –كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر » (19).
وقد أظهر أفلاطون هذا المبدأ، فقال: " تظهر الأشياء لي، كما توجد بالنسبة لي، وتظهر الأشياء للآخرين، كما توجد بالنسبة لهم " فالنسبية تقرر أنه لا يوجد هناك حقيقةٌ مطلقة، فما أعتقده فهو حقيقة بالنسبةِ لي، وما تعتقده هو الحقيقة بالنسبةِ لك، فليس هناك خطأ.
يقول الدكتور عمر الطباع عن السوفسطائيين: « وكانت هذه الجماعة تنكر وجود حقائق ثابتة، وتدعي أن الحقيقة نسبية » (20).
« لقد عبَّر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه: "عن الحقيقة" الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله: "إن الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعاً" وفي هذه العبارة القصيرة تكمن الثَّورةُ الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر.
إنها تعني بالنسبة لنظريةِ المعرفة أنَّ الإنسانَ الفرد هو مقياسُ أو معيار الوجود، فإن قال عن شيءٍ إنه موجود فهو موجود بالنسبة له، وإن قال عن شيء إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له أيضاً، فالمعرفة هنا نسبية، أي تختلفُ من شخصٍ إلى آخر بحسب ما يقع في خبرةِ الإنسان الفرد الحسيَّة، فما أراه بحواسي فقط يكون هو الموجودُ بالنسبة لي، وما تراه أنتَ بحواسِّكَ يكون هو الموجود بالنسبة لك، وهكذا.. » (21).
* موقف العلماء من السوفسطائية.
لقد قسم علماءُ الإسلام السوفسطائيين - كما يقول الشيخ أحمد شاهين - إلى ثلاثةِ أقسام: « العِندية، والعنادية، واللاأدرية: فالعندية ترى أن حقائق الأشياء تابعة لعقائد المؤمنين بها؛ لأنهم أقيسة الحقائق. والعنادية تجزم بأن لا حقائق في الكون؛ لا في ذاتها ولا بالقياس إلى المؤمنين بها. وأما اللاأدرية فهي التي تتوقف عن الحكم في كل شيء؛ فهي لا تجزم بوجود ولا بعدم » (22).
ويقول الشيخ عبدالقادر بدران في حاشيته على "روضة الناظر": « وهم فرقٌ ثلاث: إحداهن اللاأدرية؛ سموا بذلك لأنهم يقولون لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه، بل نحن متوقفون في ذلك. الثانية: تسمى العنادية نسبة إلى العناد؛ لأنهم عاندوا فقالوا لا موجود أصلاً، وعمدتهم ضرب المذاهب بعضها ببعض، والقدح في كل مذهب بالإشكالات المتجهة عليه من غير أهله.
الثالثة: تسمى العندية نسبة إلى لفظ "عند"؛ لأنهم يقولون أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس، فكل من اعتقد شيئاً فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده » (23).
لقد استشعر علماءُ الإسلام خطرَ هذه الفكرة السوفسطائية الفلسفية، والتي تَخلط الحقَّ بالباطل، وتزرع الشكَّ في عقائدِ المسلمين، وتساوي بين الإسلام وغيره من الديانات المحرَّفة والباطلة بدعوى التماس الحقيقة.
لا سيما وأنَّ هناك من المنحرفين من يَزرع هذه الفكرة وينشرها؛ وعلى رأسهم غُلاة المتصوِّفة أهل وحدة الوجود، ممن يقول قائلهم؛ وهو ابن عربي: " فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك الأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها؛ فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد " (ابن عربي، سميح الزين، ص101) (24).
وقد ردَّ عليهم الإمام ابن حزم - رحمه الله - في كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل "، والمهم منه الرد على فرقة " العِندية " لكونها الفرقةُ التي يُقلِّدها دعاةُ النسبية. قال رحمه الله: « ويقال - وبالله التوفيق - لمن قال هي حقٌ عند من هي عنده حق، وهي باطلٌ عند من هي عنده باطل: إن الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل، وإنما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً، سواء اعتُقد أنه حق، أو اعتقد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدوماً موجوداً في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال.
وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق، فمن جملة تلك الأشياء التي تُعتَقد أنها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق بطلانُ قولِ من قال إن الحقائق باطلة، وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق. وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء، فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق !!، مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة، إذ حسُّه يشهد بخلافها. وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المتنطِّعين على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق » (25).
وقال الموفَّق ابن قدامة - رحمه الله - رادَّاً على من نُقل عنه مثلَ هذا القول من العلماء: « وقول العنبري: "كل مجتهد مصيب". إن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده، فمحال؛ إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقاً، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها. فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية؛ فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات » (26).
وقال - أيضًا -: « قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب ما يروق لهواه » (27).
وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: « هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة؛ يعني: أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه... وأما كون آخره زندقة فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب وإن شاء أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفر وزندقة » (28).
وقد تحدَّث عنهم الإمامُ ابن الجوزي - رحمه الله - في " تلبيس إبليس " قائلا: « قال النوبختي: قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها، فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مراً، ويجده غيره حلواً. قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه، محدث عند من اعتقد حدوثه، واللون جسم عند من اعتقده جسماً، وعرض عند من اعتقده عرضاً. وهؤلاء من جنس السوفسطائية؛ فيقال لهم: أقولكم صحيح؟ فسيقولون: هو صحيح عندنا، باطل عند خصمنا. قلنا: دعواكم صحة قولكم مردودة، وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم ! ومن شهد على قوله بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه » (29).
ويقول العلامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله -: « أعظم الناس انحرافاً عنهما – أي الكتاب والسنّة - ملاحدة الفلاسفة، و زنادقة الدهريين، وهم أكبر أعداء الرسل، في كل زمان ومكان.. »، ثم بين رحمه الله أنهم أصّلوا أصولاً ووضعوا قواعد من عند أنفسهم زادت انحرافهم انحرافاً فقال: « أعظمها - أي هذه الأصول - أصلٌ خبيثٌ منقولٌ عن معلّمهم الأول (أرسطو) اليوناني المعروف بالإلحادِ والجحد لرَبِ العالمين والكفرِ به وبكتبه ورسله، وهذا الأصل الذي تفرع عنه ضلالهم: أنه من أراد الشروع في المعارف الإلهية، فليمحُ من قلبه جميع العلوم والاعتقادات، وليسع في إزالتها من قلبه، بحسب مقدوره، وليشك في الأشياء، ثم ليكتفِ بعقله، وخياله ورأيه » (30).
ثالثاً / " نسبية الحقيقة " في الفكر الليبرالي:
ومبدأ " نسبية الحقيقة " في الفكر الليبرالي، قائمٌ على أساسها العَام الذي هو (الحرية)، فإنَّ إشكالية هذا الفكر قبول التلوُّن والتعدد الصوري، فهو قائم على عدم الجزم والقطع، وهذه مهمة الفيلسوف الليبرالي في حل المشكلات، يقول (رسل): « إن الفيلسوف الليبرالي لا يقول: هذا حق، بل يقول في مثل هذه الظروف: يبدو لي أن هذا الرأي أصح من غيره » (31).
ويعتقد الليبراليون أن توسيعَ الخلاف، والتعدديةُ في الآراءِ والأفكار ظاهرةٌ إيجابيةٌ تنمِّي الفِكَر، وتقوِّي الرأي، وتُظهر الإبداع. ومن لوازم حريةِ الفكر عندهم: اعتقاد عدم امتلاك (الحرية المطلقة)؛ لأن دعوى امتلاكِ هذه الحقائق يمنع من التفكير الحُر، فالإيمانُ المطلق الذي لا يعتريهِ أدنى شَكٍ لا يتوافق مع الفكر الليبرالي الذي لا يبني عقيدةً محددةً يقينية؛ لأن ذلك يُناقض حريةَ الفِكر والمناقشة حَسْبَ وجهةِ نظرهم (32).
يقول الكاتب يوسف أبا الخيل متحدثاً عن (مُسلَّمة) تفرضها الضرورة المنطقية: « ألا وهي مفهوم أو فلسفة (نسبية الحقيقة) التي تعني أن الحقيقة بما هي (كل مطلق متعال) فالفرد إزاءها لا يملك فيما يملكه من معارف ومعتقدات ومشارب وآراء واتجاهات فكرية إلا جزءاً من هذه الحقيقة الكلية التي تتعدد جزئياتها ومفرداتها بتعدد زوايا النظر للموضوع المراد بحثه، هذا الجزء من الحقيقة الذي يملكه الفرد قد يماثل أو يقل أو يزيد عما يملكه الآخر المختلف، ولكنه في النهاية يظل جزءاً يزيده ويثريه ولا يلغيه » (33).
ويقول محمد بن علي المحمود: « رفع الوصاية عن الفرد، ومنحه حريته، وتهيئة البيئة الحرة التي تطلق مكنونات طاقته الخلاقة من عقالها، كل ذلك تمنحه الليبرالية للمجتمع الليبرالي، مجتمعات وأفرادا » (34).
* أقوال بعض الكتَّاب الليبراليين حول " نسبية الحقيقة ".
يقول تركي الحمد: « لن تكون متقدماً أو صاحب أمل في التقدم؛ إذا قبلت الرأي على أنه حقيقة، والحقيقة على أنها مطلقة وليست نسبية » (من هنا يبدأ التغيير، تركي الحمد، ص 347).
ويقول الكاتب يوسف أبا الخيل في سياق حديثه عن السبيلِ الأمثل لمكافحةِ ما سمَّاهُ بـ" الرؤية الحادة الإقصائية ": «.. ولذا فمن أجل حصره في زاوية التعرية لأهدافه وما يتطلع إليه من إجهاض لأية بارقة أمل من التطور، فلا يجب إشعاره أننا نسعى لإحلال صوت إقصائي آخر بديل له، بل بدلاً من ذلك يجب أن تكون آلية الحراك التي نبشر بها تحمل مزيداً من إفساح المجال لكافة الآراء بما فيها صوت ذلك التيار ما دام ملتزماً بشروط الاجتماع البشري، التي يأتي على رأسها الإيمان بأن للآخرين ذات الحق التي له في إبداء الآراء والتماهي مع يترتب عليها من معتقدات، وما دام ملتزماً بإعطاء الفرصة للآخرين - وإن لم يكن مقتنعاً بذلك - ليدلوا بدلوهم في الشأن الاجتماعي كافة، وإشعاره أن زمن احتكار الحقيقة - بما فيها الحقيقة الدينية - قد ولى زمانه وليس ثمة طريق آخر إلا مشاركة الآخرين وفقاً لنسبية الحقيقة التي يمسك كل طرف بجزء من خيطها.. » (35).
ويقول أبا الخيل حول التسَامح بين الثقافتين الأوروبية والعربية: « تباين التأصيل الفلسفي لمفهوم التسامح بين الثقافتين الغربية والعربية كان له أثره الكبير على الواقع السوسيولوجي والأبستومولوجي بين الثقافتين، ومن ثم امتد أثره إلى جميع مناحي الحياة الأخرى لكل جانب.
فبفضلها استطاعت أوروبا أن تخرج من آحاديتها المظلمة وما ترتب عليها من أوضاع خاصة تلك الحروب الدينية المرعبة في القرنين السادس عشر والسابع عشر التي تسببت فيها الأورثوذكسية الكاثوليكية التي قامت على تسنين عقيدة واحدة لا يسمح لأحد كائنا من كان بالاتصال بالله تعالى خارج تعاليم أساقفتها إلى فضاء فلسفة عصر التنوير التي دشنت تأصيل مبدأ نسبية الحقيقة التي يقر فيها الفرد أنه لا يملك (إن ملك) إلا جزءا بسيطا من الحقيقة يماثل ربما ما يملكه الفرد الآخر أو يزيد أو ينقص ولكنه يظل نسبياً ومن ثم فقبول هذا الآخر لم يعد مجرد زخرف من القول أو مجرد مفردة كرم يتفضل بها فرد على آخر » (36).
ويقول: « هذه النظرة الإقصائية تأتي بلا شك نتيجة حتمية لتربية طويلة على اعتبار قول وحيد ووسمه بالطابع الشمولي القاطع بحقيقته ويقينيته بلا اعتبار لأية أقوال أو مذاهب أخرى في المسألة المطروحة للبحث إلا باعتبارها ضالة عن الطريق السوي أو مبتدعة في حال التلطف مع أصحابها، لو أننا أشعنا في مرافئ ثقافتنا على اختلاف أنواعها مبدأ نسبية الحقيقة في الأقوال والأعمال والتخريجات والتفسيرات لما كانت هذه حال قطاع كبير ممن يقتاتون على ثقافتنا ويدعون الأحقية بتمثيلها » (37).
ويقول منتقداً (الثوابت) تحت مسمَّى (النظام المعرفي) داعياً إلى استحضار الشَكِّ أمام العقل الناقد بدعوى (نسبية الحقيقة): « يعرف النظام المعرفي (الإيبيستيمولوجيا) بأنه الطريقة أو الآلية أو النظام التي يستقي بها مجتمع ما أو لنقل ثقافة ما النظرة للكون والحياة والعلاقات الفيزيقية والميتافيزيقة بشكل عام.
ولكل ثقافة معينة نظام معرفي خاص بها، وتكاد أن توصف به الحضارة المؤسسة على تلك الثقافة، فيقال مثلاً للحضارة العربية بأنها (حضارة النص) بينما توصف الحضارة اليونانية بأنها (حضارة العقل) وهكذا، وعلى ذلك فإذا كانت الحضارة الإسلامية تتميز بأنها حضارة نص فذلك يعني أنها تعتمد في نظرتها للكون والحياة والعلاقات الإنسانية والاجتماعية على ما توفره النصوص الثقافية بشكل عام سواء الدينية منها أو ما أضيف إليها من مراكمات إنتاجية (تفسيرية وتأولية واجتهادية عامة)، وبالتالي فإن نظامها المعرفي يوفر نظرة نقلية تجاه مكونات الحياة، لكنه قد لا يلقي بالاً لما قد توجبه موجبات العقل تجاه موضوع معين إذا كان يستشف منها (نظرياً على الأقل) اختلافها مع النظرة التي تُستشف من النصوص.
في الحضارة اليونانية كان النظام المعرفي السائد فيها هو النظام البرهاني القائم على فحص مكونات الأمر المعروض للبحث، ومن ثم الحكم عليه أو فيه من زاوية عقلانية بحتة تعتمد النظر والتأمل ومقارنة الأشياء ببعضها وإعطاء رأي غير قاطع فيها باعتبار أن الفكر البشري قائم على الترجيح بين البدائل المتاحة مما يعطي فرصة مستمرة لعرض البديل المقترح على مشرحة النقد المستمرة بحيث يتم الاستغناء عنه عند ما يتقادم به الزمن، ويصبح غير قادر على مسايرة العصر، ميزة النظام المعرفي البرهاني أنه غير متقيد بمقيد ميتافيزيقي فهو يعمل وفق معطيات العقل، وبالتالي ففيه فرصة للخطأ والصواب، وبالتالي تتوفر المراجعة المستمرة التي تعتمد على نظام التغذية المرتدة للمعلومات (back Feed ) ».
ثم يقول: «.. العنف ومن ثم التطرف ينتج غالباً من اعتقاد المجتمع عموماً (وهو ما يربى أفراده عليه بالطبع) بأنه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة عموماً، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم وردهم لحياض الحقيقة المطلقة » (38).
ويقول كذلك: « إنَّ السلوك الثقافي المعاش يظل مشدوداً إلى التصنيف الثنائي المفصول بين حدوده بشكل حاد وكامل، سلوك يعتمد على تصنيف الرؤى والمعتقدات، بل وحتى وجهات النظر العابرة التي تتصل بالواقع المعاش سياسياً واقتصادياً واجتماعياً إلى ثنائية الحق والباطل، فالحق ما نحمله وندين به، والباطل ما يدين به أو يعتقد به مخالفنا، وتبعاً لذلك يتم تصنيف الناس إلى متبعين ومبتدعين، وإلى ملتزمين وغير ملتزمين، وإلى ضُلاَّل ومؤمنين، وإلى عقائد صحيحة وعقائد ضالة، ليصل الإنسان المبرمج على ثقافة القطع في الحلقة الأخيرة من سلسلة العنف والإقصاء إلى تصنيف الناس إلى مسلمين وكفار، ومن ثم الوصول إلى ما يترتب على تلك الحلقة الأخيرة من ضرورة التخلص من شوائب الكفر والضلال بما فيها ممثلوه ليبقى الإسلام الخالص المتماهي معه من قبل من تبرمجوا على تلك الثقافة حاضراً وفق رؤية خاصة وتخريج خاص للإسلام، لا على أنه الإسلام نفسه كما أنزله الله تعالى على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام » (39).
ثم يستكمل أبا الخيل حديثَه داعياً إلى نشر ثقافة الشك، فيقول: « لذا لا بد للإنسان - ولا يتأتى ذلك له للأسف غالباً إلا في العيش في جو ثقافي فلسفي - أن يشك ولو مرة واحدة، وهذا الشك لا أعني به الشك المدمر، أو الشك الدوغمائي بطبيعته، أو الشك لمجرد الشك، بل إنه شك يجد له جذوراً من داخل المنظومة الإسلامية نفسها، إذ نجد أبا حامد الغزالي يقول وهو في أوج مرحلة من حياته الفلسفية: "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال" كما كان يقول: "الشك أولى مراتب اليقين" إنه شك يأتي بالذات من مراعاة نسبية الحقيقة على المستوى الاجتماعي والثقافي بوجه عام، شك يعطي دفعاً للشاك أن لا يتحمس أو يتمعر وجهه أو تنتفخ أوداجه عندما يتعايش مع من يخالفه توجهاته، إذ إن هذا الشك يتيح لذلك الإنسان الشاك استحضار تساؤلات من قبيل: ولماذا لا تكون وجهة نظر فلان هي الصواب؟ أو لماذا لا تكون تلك الرؤية أو ذلك التأويل أو التفسير أو التخريج لذلك الفرد أو الجماعة أو الفرقة تحمل على الأقل شيئاً من الصحة في باطنها؟ ولماذا مثلاً لا تكون الرؤية التي أحملها أو تلك التي حُمِّلتها ليست قاطعة ويشوبها الشك وعدم اليقين؟ في مثل ذلك الجو الثقافي المشبع والمربى على نسبية الحقيقة - النظرية على الأقل - لا يملك الإنسان إلا أن يكون متسامحاً مع غيره؛ لأنه لا يحمل اليقين على قطعية ما تناهى إليه نظره، وما برمجته عليه ثقافته طوال عمره » (40).
ويقول عبدالله بن بجاد العتيبي مقرراً ذات المبدأ: « إذًا فلا بد كمنطلق لعملية التنوير والإصلاح أن يدخل الشك في آلية العقل العربي الإسلامي الحالي أن يشك في قضية جوهرية "هل هو قادر على العمل الآن؟ هل آلياته ومناهجه ومنظومته المعرفية صالحة للتعامل مع الزمن الراهن » (41).
أما إبراهيم البليهي فيرى أنَّ (نسبية الحقيقة) هي من الأمور البدهية، فيقول: « من البدهي أنه لا يوجد إنسان يمتلك كل الحقائق امتلاكاً كاملاً، وإنما يتمسك كل فرد بما يظنه كذلك فينتقي من النصوص والبراهين والمواقف والأحداث ما يُقنع به ذاته ويستمر على انتقائيته، حتى تضطره المواقف المغايرة الضاغطة في أن يعيد فحص أفكاره، فإذا وضع كل طرف أفكاره تحت مجاهر التحليل اقترب الجميع من لب الحقيقة تحت أضواء المكاشفة الاضطرارية المتبادلة » (42).
ويقول الكاتب يوسف أبا الخيل: « فإن المتعصب عندما يقوم بإدراك موضوع ما (رؤية عقدية مثلا) إدراكاً إيجابياً متعاطفاً معها فإنه لا يأخذها على أنها مجرد أحد المعطيات النسبية للحياة الإنسانية، أو أنها مجرد رأي ينضاف إلى آراء أخرى عديدة لكل منها الحق في خوض غمار تأويله الخاص لذلك الموضوع المثار، لا بل إنه حينما يدركها إدراكاً إيجابياً محباً فسينظر إليها باعتبارها حقيقة وحيدة كاملة ناصعة البيان دامغة الحجة لا تضاهيها حقيقة أخرى في تماهيها مع المطلق، أما عندما يدركها في جانبها السلبي (رؤى الآخرين المخالفة) فسيراها ثاويةً في أقصى يسار الحقيقة عارية من كل ما يمت إليها بصلة، متفاصلة مع كل ما يتصل بالخير أو الجمال أو الفاعلية أو الإبداع الإنساني مفاصلة نهائية لا رجعة فيها، ويترتب على تلك النظرة (اللاواعية) أنه سيعتبر كل من يشاركه الإدراك بجانبيه (الإيجابي تجاه رؤيته المذهبية والسلبي تجاه رؤى الآخرين) فهو السعيد سعادة لن يشقى بعدها أبدا، بنفس الوقت الذي يرى فيه كل من لا يشاركه إدراكه ذلك على أنه هالك لا محالة » (43).
ويقول - أيضاً -: « يأتي التعصب الديني كما المذهبي على رأس الأسباب التي تهوي بالإنسان سريعاً إلى مرحلة الوحشية البشرية التي تحدث عنها هوبز، إذ أن هذا التعصب يتخلق بداية في رحم آحادية الفكر الناتج من انعدام التعددية الفكرية والدينية، مما يؤدي إلى قناعة الإنسان بأن دينه أو مذهبه هو الوحيد المتوافر على كلية الحقيقة وما سواه من الأديان أو المذاهب فلا تمتلك ذرة يقين أو حقيقة، وهذه هي البذرة الأولى للعنف، أما سقيا هذه البذرة فيأتي من اليقين التام الذي يتوافر عليه الإنسان الآحادي جراء انعدام فضيلة "نسبية الحقيقة" بأن عليه واجب إدخال الآخرين في حمى يقين دينه أو مذهبه، ولكن لأن من يخالفونه دينه أو مذهبه كُثُر ولا طاقة له بالتالي بهدايتهم ولأن معظمهم مرتدون عن الإسلام في نظره فلا عذر له عند ربه سوى إزهاق أرواحهم لزفهم إلى نار جهنم وبئس المصير » (44).
ويقول محمد المحمود: « تحرير وعي الأفراد ومن ثم إرادتهم كفيل بتحرير وعي الإنسان- المجتمعي. فضلا عن كوننا لا نمتلك تغيير المجتمعي إلا من خلال الفردي، أي خضوع لشروط الواقع، وخضوعا لشرط الصوابية النسبية التي نرتادها » (45).
* رابعاً / انتشار القول بالنسبية:
إنَّ هذه الفلسفة النسبية منتشرةٌ في الثقافةِ الليبرالية بشكلٍ عام، وفي الفكرِ الغربي المعَاصر تحديداً، وهي تظهر في رفضِ الإله، ورد الثوابت والأنظمة والقوانين، وإنكار الحقيقة المطلقة. وقد أدَّت هذه الفلسفةُ إلى انتشار الأمراض المعرفية، والأخلاقية، والسلوكية وغيرها.
فمبدأ: (كلُّ فرد على حق) أو (لا توجد حقيقة مطلقة) أو (هذا حق عندك وليس عندي) وعبارات أخرى غير منطقية تحمل ذات المعنى؛ المقصود منها تسويغُ أعمال الشر وإعطائها نوعاً من القبول الذاتي والاجتماعي، بدعوى الحرية التي يقوم عليها منهج الليبرالية.
ويمكن أن نتساءل: لماذا اكتسبت النسبيةُ مكانةً رفيعةً لدى بعض أربابَ المجتمع الحديث؟
إذا نظرنا إلى الوَاقع وجدنا أن هناك بعض العَوامل التي ساهمت في قبول النسبيةِ وانتشارها، ومنها:
1. النجاحُ العملي الذي زاد في اعتقاد فكرة أن الإجابات الحقيقية توجد في العِلم. لذا يعتقد البعض من الناس أن ما يقوله العلماء - مهما يكن ذلك القول - هو صحيح. وإذا لم يستطع العلم أن يجد جواباً لشيء ما فإنه ببساطة ستُكتشف الحقيقةُ لاحقاً. فالناس يؤمنون بالعِلم والمطلق فقط فيما نعرفه الآن. والذي ربما يكون غير حقيقي لاحقاً. وهذا يُقَوِّض الحقيقةَ المطلقة.
2. مع القَبول الواسع لنظريةِ التطور، فالإله أُزيح بعيداً خارجَ المنظومة الفكرية، وبدون اعتقادِ وجود الإله المقرِّر للحقيقة والباطل؛ فإن الإنسانَ سيكون بديلاً عن الإله ويقرر ما هو الحق وما هو الباطل.
3. مواجهة الثقافات المتنوعة والمتفاوتة، فهذه المواجهة تجعلنا أكثرُ انسجاماً وقبولاً لفكرة وجود أكثر من طريقٍ لعمل شيء ما. والإيمانُ بتعدد الثقافات لا يشترط ببطلان هذه الفكرة لكنه يعمل على تقويض أو إنكار الحقيقة المطلقة.
4. زيادةُ الفلاسفةُ النسبيين، وخصوصاً المنتمين إلى حركةِ العصر الجديد الذين يقولون: إنه لا يوجد حقيقَة مُطلقة، وأنَّ كل شيءٍ بإمكانه أن يخلق واقعه.
5. التحرُّر من القِيَم الأخلاقية، والقيودِ الاجتماعية، فالنسبية تُقرر مذهبَ: دعه يعمل ما يشاء. (46).
« وقد وجدتُ شبهةَ (نسبية الحق) هذه مؤثرة حتى في بعض الشباب المتدينين. قال لي أحدهم: إذا كنا نحن نرى أنفسنا على حق فهم أيضاً يرون أنهم على حق. قلت له: وماذا في هذا؟ إن الحق واحد، سواء كان متعلقاً بدين أو بدنيا؛ لأنه وصف لواقع ولا يمكن أن يكون الواقع على صفتين متضادتين » (47).
* خامساً / نقض القول بـ" نسبية الحقيقة ":
لا يمكن لأيِّ مجتمعٍ أن يعيشَ بلا حقائقَ مطلقة مشتركة بين أفراده، فبدون الحقيقةِ المُطلقة سيُنشأ الصِّراع، ويتولَّد النزاع، وتتَصادمُ الآراء، ويحدثُ الشَّرخ الاجتماعي، والتمزق الثقافي، وبالتالي سقوط المجتمع أو ضعفه على أقل الأحوال.
إن من الأمور الطبيعية حدوثُ اختلافٍ في تقييم الأمور وكيفيةِ التعامل معها، ولكن يظل هذا الاختلاف والتفاوت تحتَ مظلةٍ عامة متفق عليها، « فقد يختلف الآباء في تربية أبنائهم ولكنهم في الغالب يتجهون إلى نفس الهدف. فالحقيقة العامة متفق عليها ولكن الأساليب في التعامل مع هذه الحقيقة قد يختلف.
إن الحقائق المطلقة كثيرة جداً لا يستطيع العقل أن يردها وهي تشهد على زيف النسبية فمن ذلك أن الإنسان لا يوجد نفسه من العدم فهذه حقيقة مطلقة » (48).
وإن « هذه المقولات التي تقرّر بأنه لا أحد يحتكر الحقيقة ليست صواباً بإطلاق، ولا خطأً بإطلاق، بل فيها نسبة من الخطأ وأخرى من الصواب، إلا أن نسبةَ الخطأ فيها كافيةٌ لنقض أصل الإيمان؛ لأن أصول الإيمان مبنية على القطعية واليقين، فأنت إن لم تقطع يقيناً بصحة توحيدك لله فلست بمؤمن في شريعة الله، وأنت إن لم توقن يقيناً لا ظن فيه فضلاً عن الشك بأن الله فرد صمدٌ لا شريك له في ملكه وخلقه فلست بمؤمن في دين الله، وإن أنت لم توقن يقيناً لا تردد فيه بأن القرآن معصوم من التحريف والتبديل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، وأن الوحي قد انقطع بموته فلست بمؤمن في دين الله، وقلْ مثل ذلك فيما سوى هذا وذاك من أصول الدين وقطعياته » (49).
وإن القول بـ" نسبية الحقيقة " « يفضي إلى المساواة بين قطعيات الشريعة وظنياتها، ومن ثَمَّ تصبح أركان الإيمان مما يسع فيه الخلاف، فتخرج بذلك عن دائرة الثوابت القطعية، كما أن في العمل بإطلاقها منافاةً لمقتضى الإيمان؛ إذ مقتضاه التصديقُ التامُ، واليقينُ المطلق بأركان الإيمان وأصول العقيدة، وآيات القرآن تغذي في أهله الشعورَ بامتلاكهم للحقيقة المطلقة، وأنهم على الحق المبين إلى درجة اليقين، وأن غيرهم مبطلون يتبعون باطلاً؛ كقوله: " فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ " [النمل: 79]، " وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ " [فاطر: 31]، وقوله تعالى: " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [آل عمران: 85]، ولا يجوز لمثلِ هذه العقيدة المبنيَّة على اليقين المُطلق أن تخضع للمساوماتِ والمداهنات؛ فمجرد الشك بأنها هي الحق، أو أن غيرَها من ملل الكفر قد يكون هو الحق، أو هو حق مثلها؛ لهو خطرٌ يزلزل الإيمان من أصوله، " فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ " [يونس:94] » (50).
قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - في موافقاته: « الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك. ولا يصلح فيها غير ذلك » (51).
وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: « الدليل أن الحق في جهة واحدة: الكتاب والسنّة والإجماع » (52).
وقد ذكر الإجماع على ذلك العلامة الشوكاني رحمه الله في كتابه إرشاد الفحول (53).
ولو لم يكن ثمةَ حقيقة مطلقة يمتلكها أحدٌ فيحتكر فيها الصواب؛ لكان أمرُ اللهِ بلزوم الحقِّ واتِّباعه عبثاً لا معنى له؛ لأنه على ضَوءِ هذا المبدأ حقٌ لا وجود له إلا في الذِّهن، وأما في الواقع فهو نسبيٌ يصح أن يكون حقاً في عقلٍ، باطلاً في عقل آخر!، والله تعالى يقول: " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [الأنعام: 153] ولنتساءلْ: أين هذا الصراطُ المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه إذا كانت الحقيقة نسبية؟!، وأين هي تلك السبل الضالة التي حذرنا من اتباعها إذا كانت الحالة كذلك؟!.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: " فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " [البقرة: 213]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: « قال الربيع بن أنس: " فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ " أي: عند الاختلاف، أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل عند الاختلاف » (54).
ثم إنه لو كانت الحقائقُ كلُّها نسبيةً، ليس فيها شيءٌ مطلقٌ لا يصح لأحدٍ أن يحتكر الصواب فيها؛ لما جاز أن يُهلِك اللهُ سبحانه الأممَ السابقة على تكذيب رُسلها؛ ولو كانت الحقائق كلها نسبيةً ليس فيها قطعيٌ يقينيٌ لما جاهد النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكفارَ على أصول الإيمان، ولعذرهم على مخالفتهم.
« ألم يأمر الله موسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام أن يأخذا الكتاب بقوة، والذي لا يتحقق إلا بالتصديق اليقيني والإيمان القطعي بما فيه من الأحكام القطعية: " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ " [الأعراف: 145]، " يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ " [مريم: 12] » (55).
وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما: (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر )) قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله - مبيناً هذا الحديث: « إن المجتهد يكلف إصابة الحكم، وإنما لكل مسألة حكم معين يعلمه الله، كلف بالمجتهد طلبه، فإن اجتهد فأصابه كان له أجران وإن أخطأه فله أجر على اجتهاده، وهو مخطئ، وإثم الخطأ محطوطٌ عنه » (56).
وقد بيَّن شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن الحقَّ في حقيقةِ الحال واحدٌ لا يتعدد، ولكن لذلك تفصيل، ملخصه: أن المجتهد في الأمور الاجتهادية الظنّية إن أخطأ حكم الله فهو مصيب من جهة ومخطئ من جهة أخرى، وله أجرٌ على اجتهاده كما نص عليه الحديث. فهو مصيب باجتهاده وبذله الوسع في الوصول للحكم الشرعي؛ وذلك لكونه بذل ما أمر الله به، فالحكم الذي وصل إليه باجتهاده وجب عليه فعله شرعاً، ولا يأثم بعدم موافقة حكم الله وذلك لاجتهاده، وإن كان هو في نفس الأمر مخطئ في إصابة حكم الله الذي يعلمه الله، والذي هو واحد في قول المجتهدين لا يتعدد. ومتى علم وتبين له من الشرع ما ينقض اجتهاده أثم بالإعراض عنه وعدم العمل به (57).
لذلك لابد من تخصيص عموم هذا المبدأ (نسبية الحقيقة) بأن يُستثنى من عمومه أصولُ الدين، وقطعياتُ الشريعة، وهي: كل ما جاء في الكتاب والسنة قطعيَ الثبوت قطعيَ الدلالة، مما لا يحتمل تأويلاً.
وتبقى المقولة بعد ذلك صحيحةً في ظنيَّات الشريعة مما يحتمل التأويل ويَسُوغ فيه الاجتهاد واختلف فيه العلماء، وهذه هي التي عناها الإمامُ الشافعي - رحمه الله - بقوله: " قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقولُ غيري خطأٌ يحتمل الصواب ".
ومثل هذه الأمور الظنية لا تحتمل القطعية في التصويب والتخطئة، ولا يجوز أن يكفّر فيها المخالف، ولا أن يتهم بسببها في ديانته وأمانته، ولا يجوز أن يُستحل فيها عرضه، أو يُنتقصَ من كرامته وحقوقِه، فضلاً عن استحلال دمه.
وقد خالف بعضهم قولَ سلفِ الأمة فقالوا: إن الحق يتعدد، وهو تابع لاجتهاد المجتهد، فما أدَّى إليه اجتهادُه فهو الحقُّ في الأصول والفروع، وبعضُهم حَصَر تعدد الحق في الفروع دون الأصول.
وهذا القول نقضه أئمةُ الدين، وأعلام الملّة، وعلماء الشريعة، وردوه بالنصوص الشرعية، قال العلامة الشوكاني - رحمه الله -: « من قال إن كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعدداً بتعدد المجتهدين، فقد أخطأ خطأً بيناً، وخالف الصواب مخالفة ظاهرةً » (58).
وقال أيضاً - رحمه الله -: « وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون حكم الله متعدداً بتعدد المجتهدين، تابعاً لما يصدر عنهم من اجتهاد، فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله عزّ وجلّ ومع شريعته المطهّرة؛ هي أيضاً صادرةٌ عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل، ولا عضدته شبهةٌ تقبلها العقول، وهي أيضاً مخالفة لإجماع الأمة، سلفها وخلفها » (59).
وقد ساق الشوكاني - رحمه الله - كلاماً للقاضي يردُّ فيه على مقالةٍ للعنبري والجاحظ، حيث نُقل عنهما القولُ بتعدد الحقِّ في الأصول والفروع: « إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد؛ فقد خرجتما من حيّز العقلاء، وانخرطتما في سلك الأنعام، وإن أردتم الخروج من عهدة التكليف ونفي الحرج - كما نُقل عن الجاحظ - فالبراهين العقلية من الكتاب والسنّة والإجماع الخارجة عن حدِّ الحصر ترد هذه المقالة » (60).
وقال ابن قدامة - رحمه الله - راداً على ما ساقه الغزالي في المستصفى من قولِ الجاحظ برفع الإثم عمَّن اجتهد فأخطأ في الأصول: « أما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا، وكفر بالله تعالى » (61).
وهذا القول - أي القول بتعدد الحق - قولُ كثيرٍ من أهل الكلام وأهل البدع، وبهذا نعلم أن الحقَّ واحدٌ لا يتعدد في الأصول والفروع على ما سبق ذكره.
إذاً فإنَّ التسليم بمبدأ (نسبية الحقيقة)، وأن الحقيقةَ المطلقة لا يملكها أحدٌ، وأن الحقائق التي يؤمن بها البشر نسبيةٌ محتملةٌ للخطأ كاحتمالها للصواب على سواء، لهو تسليم يناقض أصول الدين الحنيف، وقواعد الشرع المطهر، وأدلة الوحي الكريم.
وبالنظر إلى مبدأ " نسبية الحقيقة " في الفكر الليبرالي نجده يَغرق في تناقضاتٍ عديدة، منها:
1. إذا كانت الحقيقةُ نسبيةٌّ؛ فإن عبارة "كل حقيقة نسبية" تعتبر عبارة مطلقة، والنسبيةُ ترفض المطلق، فالعبارة متناقضة في ذاتها، وعليه فإن مبدأ "كل حقيقة نسبية" باطل.
وكذا فإن القول بـ"نسبية الحقيقة" يرفضه الواقع، فهناك حقائق كثيرة مطلقة لا تحمل النسبية اتفاقاً، فالشمس محرقة، والسماء فوقنا، والإنسان ناطق نامي وغير ذلك من الحقائق التي يصعب حصرها.
2. أن ما كان حقاً لديك ليس حقاً لدي: فالحق لدي أن النسبية باطلة، فإذا قلت لي: لا، هذا ليس صحيحاً. فهذا يلغي المبدأ الذي قررتْه النسبية، وعليه فإن النسبية باطلة.
وإذا قلتَ: نعم. وأقررت بقولي، فالنسبية باطلة.
وإذا قلتَ: إن ذلك حقاً عندي فقط أن النسبية باطلة، فإن هذا يعني أنني أعتقد ببطلان النسبية، وإذا كان اعتقادي صحيحاً، فكيف يمكن أن تكون النسبية صحيحة.
3. أنه ما مِن أحد يستطيع أن يعرف أي شيء من غير شك: فإذا كان هذا صحيحاً، فإننا نعرف أننا لا نستطيع أن نعرف أي شيء من غير شك، فبالتالي معرفتنا هنا مطلقة وهذا دحض ذاتي.
4. النسبية لا تقدر على إنكار ما يتناقض مع الحقيقة ذاتها. فالنسبية تحمل التناقض الذاتي، فالكل لديه الحقيقة فلا ينبغي أن يكون هناك إقناع الآخرين بما تحمله أنت من أفكار ومعتقدات فما تراه حقيقة لا يحق لك أن تقنعهم حتى يروا أن ما لديك هو الحقيقة. (62)
ختاماً: يقول العلاَّمة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله -: « كثر على ألسنةِ بعض الكتَّاب أنه لا تجوز تخطئة المخالف، وأنه يجب احترام الرأي الآخر، وأنه لا يجوز الجزم بأن الصواب مع أحد المختلفين دون الآخر.
وهذا القول ليس على إطلاقه؛ لأنه يلزم عليه أن جميع المخالفين لأهل السنة والجماعة على صواب ولا تجوز تخطئتهم، وهذا تضليل؛ لأنه يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم: (( وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: هم مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )).
ويلزم على هذا القول أيضاً أن المخالف للدليل في مسائل الاجتهاد لا يقال له مخطئ، ولا يُرَدُّ عليه، وهذا يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم: (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد))؛ فدل على أنَّ أحدَ المجتهدين المختلفين مخطئ، لكن له أجرًا على اجتهاده ولا يُتابع عليه؛ لأن اجتهاده خالف الدليل، وإنما يصحُّ اعتبار هذا القول، وهو عدم الجزم بتخطئة المخالف، في المسائل الاجتهادية التي لم يتبين فيها الدليل مع أحد المختلفين، وهو ما يعبر عنه بقولهم: " لا إنكار في مسائل الاجتهاد "، و " الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد "، وهذا من اختصاص أهل العلم وليس من حق المثقفين والمفكرين الذين ليس عندهم تخصص في معرفة مواضع الاجتهاد وقواعد الاستدلال أن يتكلموا ويكتبوا فيه.
ولو كان لا يُخَطَّأ أحدٌ من أصحاب الأقوال والمذاهبِ لكانت كتب الردود والمعارضات التي ردَّ بها العلماء على المخالفين كلها مرفوضة، ولما كان لقوله تعالى: " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ " [النساء: 59] فائدة ولا مدلول؛ لأنه لا تجوز تخطئة المخالف، وهذا لازم باطل؛ فالملزوم باطل... وقد ردّ الله - سبحانه وتعالى - على أهل الضلال في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وشرع لنا الردّ عليهم؛ إحقاقاً للحق، وإزهاقاً للباطل. ولولا ذلك لشاع الضلال في الأرض، وخفي الحق، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً » (63).
وفقنا الله للحق، ووقانا شر الفتن، وجعلنا من عباده الصالحين، آمين.
المصدر: موقع الإسلام اليوم
المفضلات