امرأة مهضومة السيرة
اسماء بنت ابي بكر رضي الله عنها وأرضاها! إنها واحدة من اللواتي لا نعرف عنهن إلا أيسر اليسير من الفضل رغم أنها واحدة من أبرز اللواتي أضأن تاريخ الإسلام بما قدمن له من بذل لقد كانت - رضي الله عنها وأرضاها - نعم البنت ونعم الزوجة ونعم الأم، وقبل كل ذلك نعم المرأة المؤمنة!
وليس في ذلك غرابة، فهي بنت الصديق، الذي لو وُضع إيمانه في كفه وإيمان الأمة في كفة لرجحت كفته!
لقد تزوجت من الزبير حواري رسول الله صلي الله عليه وسلم، وحملت منه بعبد الله وهو أول مولود للمهاجرين في المدينة فعنها رضي الله عنها أنها حملت بعبد الله بن الزبير قالت فخرجت وأنا متم (أي قد أتممت مدة الحمل) فأتيت المدينة فنزلت بقباء
(مكان معروف بالمدينة) فولدته بقباء ثم أتيت به النبي صلي الله عليه وسلم، فوضعته في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل في جوفه ريق رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم حنكه (وضع في فيه التمرة ودلك حنكه بها) بتمرة ثم دعا له وبرّك عليه
(أي قال: اللهم بارك فيه.) .
وكان أول مولود في الإسلام (أي بالمدينة من المهاجرين). [رواه البخاري ومسلم]
وعبد الله بن الزبير هذا الذي برّك عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم كان مولوداً هو الذي وقف للطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي وهو شيخ فاني محتميا بالكعبة حتى أستشهد في مشهد مأسوي فظيع!
كانت أسماء فيه حاضرة برأيها وشخصها، لقد تأزمت العلاقة بين حفيد أبي بكر رضي الله عنهما وأرضاهما وبين الحجاج ومن كان يمثله وتصاعدت الأمور حتى تلاقي الفريقان، عبد الله بفئته القليلة، والحجاج بجيشه، وكان عبد الله عائذاً بالبيت الحرام الذي للأسف لم يراعى له حرمة.
ولأن النتيجة كانت واضحة قبل بداية المعركة فقد استشار عبد الله أمه أسماء في موقفه هل يتنازل عنه أم يذبح عليه، فأشارت عليه بما لا تشر به أم غير أسماء على ولدها، وهو أن يصمد عليه وإن كان في ذلك ذبحه فعظّمت له أمر الحق في نفسه، ومهونة عليه الباطل بجنده، لقد ساقت أسماء ابنها إلي الشهادة في موقف يصعب علي غيرها فعله. وانتهي الموقف كما كان متوقعاً وذبح عبد الله بن الزبير علي أعتاب بيت الله الحرام، وليت الذين فعلوا ذلك اكتفوا به.بل أمر الحجاج بصلبه! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وإليكم خبر الحدث وموقف ذات النطاقين - أم الشهيد –
فيه: عن أبي نوفل رأيت عبد الله بن الزبير علي عتبة المدينة (يقصد مدخل مدينة مكة) مصلوبا قال: فجعلت قريش تمر عليه والناس حتى مر عليه عبد الله بن عمر فوقف عليه فقال: السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا والله إن كنت ما علمت صواماً قواماً وصولاً للرحم أما والله أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير ثم نفذ (مضي) عبد الله بن عمر، فبلغ الحجاج موقف عبد الله بن عمر وقوله فأرسل إليه فأنزل عن جزعه
(أي جذع النخلة المصلوب عليه) فألقي في قبور اليهود ثم أرسل إلي أمه أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه فأعاد عليها الرسول: لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك ( جمع قرن وهي الضفائر) قال فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني
قال: أروني سبتي (أي نعلي) فأخذ نعليه ثم انطلق يتونف (يسرع متبخترا) حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتني بعدو الله قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك ،
بلغني أنك تقول له يا ابن ذات النطاقين(ما يشد به الوسط) أنا والله ذات النطاقين أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلي الله عليه وسلم وطعام أبي بكر من الدواب،
وأما الآخر فنطاق المرأة لا تستغني عنه أما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبراً فأما الكذاب (تعني بالكذاب المختار بن أبي عبيد الثقفي فإنه تنبأ وتبعه ناس حتى أهلكه الله تعالي) فرأيناه وأما المبر (المهلك، كثير القتل) فلا أخالك إلا إياه قال: فقام عنها ولم يراجعها.[رواه مسلم].
إن موقف السيدة أسماء هذا لا يحتاج إلى تعليق علي قدر ما يحتاج إلي تأمل طويل، وعميق يصوغ نفس الواحد منا من جديد! ما هذا الصبر؟! ما هذه الشجاعة؟! وما هذه العزة؟!
وما رباطة الجأش هذه؟! وما هذه الطاقة النفسية الإيمانية التي مكنتها من هز هذا الطاغية وبعثرته؟! ما كل هذا؟! إننا – في حقيقة الأمر – لسنا أمام امرأة عادية،
بل إننا أمام جبل أشم، وكما كانت نِعْم المؤمنة ونِعْم الأم – رضي الله عنها وأرضاها نعم الزوجة فعنها قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء، غير ناصخ ( الجمل الذي يسقى عليه الماء) وغير فرسه.
فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء وأخرز غربه (أخيط دلوه المصنوع من الجلد) وأعجن ولم أكن أحسن الخبز. فكان يخبز جارات لي من الأنصار وكن نسوة صدق.
وكنت أنقل النوى من أرض الزبير – التي أقطعه رسول الله صلي الله عليه وسلم – علي رأسي وهذه مني علي ثلثي فرسخ ( حوالي ثلاثة أميال)! [رواه البخاري ومسلم].
وعنها قالت:....فجئت يوما والنوى علي رأسي فلقيت رسول الله صلي الله عليه وسلم، ومعه نفر من الأنصار ، فدعاني ثم قال: إخ إخ (كلمة تقال للبعير لمن أراد أن ينيخه) ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس.
فعرف رسول الله صلي الله عليه وسلم أني استحييت فمضى.
فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلي الله عليه وسلم وعلي رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك،
فقال:
والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إلي أبي بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني. [رواه البخاري ومسلم].
وكانت - رضي الله عنها وأرضاها – وقافة علي شرع الله حريصة علي تحكيمه حتى مع أقرب وأخص الناس إليها فعنها قالت: قلت يا رسول الله مالي مال إلا ما أدخل علي الزبير أفأتصدق؟ قال: تصدقي ولا توعي فيوعى عليك. ( والمعني لا تمسكي الوعاء وتبخلي بالنفقة مما فيه فيمسك الله عنكي فضله).[رواه البخاري ومسلم].
وأريد من القارئ ألا يفوته علّة سؤالها عن شرعية التصدق من مال زوجها، فقد سألت عن شرعية ذلك لتتصدق به ولم تسأل عن شرعية أخذ بعض ماله لنفسها مثلا أو لغير ذلك من الأسباب! قريب من هذا الموقف موقفها مع أمها! فعنها قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلي الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت علي وهي راغبة [ أي راغبة في أن أبرها وأعطيها وهي علي شركها ] أفأصل أمي؟! قال: نعم. صلي أمك [رواه البخاري ومسلم] .
رحم الله ذات النطاقين ورضي الله عنها وعن أبيها وزوجها وابنها وذريتها إلي يوم الدين
المفضلات