*
*
فَإِنَّهَا اَلْجَالِسَة مَجْلِسهَا وَهَذَا وَقَدْ سَكَنَ اَللَّيْل وَسَكَن كُلّ شَيْء فِيهِ إِلَّا ضَوْء اَلْقَمَر
اَلْمُنْبَعِث فِي أَجْوَاز اَلْفَضَاء وَنَسَمَات اَلْهَوَاء اَلْمُتَرَقْرِقَة عَلَى صَفَحَات اَلْمَاء إِذْ
شَعَرَتْ كَأَنَّهَا تَسْمَع بِالْقُرْبِ مِنْهَا هُتَافًا يَهْتِف بِاسْمِهَا مُمْتَدّ بَيْن صَخْرَتَيْنِ عَلَى ضَفَّة
اَلنَّهْر كَأَنَّهُ إِنْسَان نَائِم فَارْتَاعَتْ وَفَزِعَتْ ثُمَّ سَمِعَتْ اَلصَّوْت يَتَكَرَّر بِنَغْمَة وَاحِدَة
فَأَهَمّهَا اَلْأَمْر وَنَهَضَتْ مِنْ مَكَانهَا وَأَخَذَتْ تَدْنُو مِنْ اَلشَّيْخ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى
دَانَته فَإِذَا هُوَ إِنْسَان فِي زِيّ اَلْمَسَاكِين مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْره شَاخِص بِبَصَرِهِ إِلَى جِدَار
اَلْقَصْر فَذَهَبَتْ بِنَظَرِهَا فَإِذَا عَيَّنَهُ عَالِقَة بِنَافِذَة غُرْفَتهَا اَلَّتِي كَانَتْ تَجْلِس إِلَيْهَا
كُلّ لَيْلَة فَعَجِبَتْ لِذَلِكَ كُلّ اَلْعَجَب وَخَفَقَ قَلْبهَا خَفْقًا مُتَدَارِكًا وَرَأَتْهُ يَضُمّ إِلَى
صَدْره هنة بَيْضَاء أَشْبَه بِالرُّقْعَةِ ضَمًّا شَدِيدًا فَأَكْبِت عَلَيْهِ لِتَتَبَيَّنهُ وَتَرَى مَا يَضُمّ
إِلَى صَدْره فَإِذَا اَلرُّقْعَة رَسَمَهَا وَإِذَا هُوَ جلبرت يَجُود بِنَفْسِهِ وَيُرَدِّد بِصَوْت خَافِت
مُتَغَلْغِل كَأَنَّهُ أَصْوَات اَلْمُعَذَّبِينَ فِي أَعْمَاق اَلْقُبُور الوادع يَا سُوزَان اَلْوَدَاع يَا
سُوزَان فَفَهِمَتْ كُلّ شَيْء فَصَرَخَتْ صَرْخَة عُظْمَى دَوَّى بِهَا اَلْفَضَاء وَقَالَتْ :
آه لَقَدْ قَتَلَتْك يَا اِبْن عَمِّي ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَى يَده تَقْبَلهَا وَتُبَلِّلهَا بِدُمُوعِهَا وَتَقُول
هَا أنذا يَا جلبرت جَاثِيَة تَحْت قَدَمَيْك فَارْحَمْنِي وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَدْ أَصْبَحَتْ اِمْرَأَة
بَائِسَة شَقِيَّة لَيْسَ عَلَى وَجْه اَلْأَرْض مَنْ هُوَ أَحَقّ بِالرَّحْمَةِ مِنِّي وَكَأَنَّمَا أَحَسَّ بِنَغْمَة
صَوْتهَا فَارْتَعَدَ قَلِيلًا ثُمَّ مَالَ بِنَظَرِهِ نَحْوهَا حَتَّى رَآهَا فَسَقَطَتْ مِنْ جَفْنه دَمْعَة حَارَّة
عَلَى يَدهَا كَانَتْ آخِر عَهْده بِالْحَيَاةِ وَقَضَى .
وَلِمَا دَنَا مِنِّي اَلسِّيَاق تَعَرَّضَتْ
إِلَى وَدُونِي مِنْ تَعَرُّضهَا شَغَلَ
أَتَتْ وَحِيَاض اَلْمَوْت بَيْنِي وَبَيْنهَا
وَجَادَتْ بِوَصْل حِين لَا يَنْفَع اَلْوَصْل
جَثَتْ سُوزَان بِجَانِب جُثَّة جلبرت سَاعَة قَضَتْ فِيهَا مَا يَجِب عَلَيْهَا لِابْن عَمّهَا وَخَطِيبهَا
وعشيرها اَلَّذِي أُحِبّهَا حُبًّا لَمْ يُحِبّهُ أَحَد مِنْ قَبْله أَحَدًا حَتَّى مَاتَ حَسْرَة عَلَيْهَا
ثُمَّ استفاقت فَذَكَرَتْ اِبْنَتهَا وَأَنَّهَا تَرَكَتْهَا عَلَى تِلْكَ اَلرَّبْوَة نَائِمَة وَحْدهَا فَعَادَتْ
إِلَيْهَا مُسْرِعَة وَقَدْ قَرَّرَتْ فِي نَفْسهَا أَمْرًا . .
لَا أَعْرِف أَحَدًا مِنْ اَلنَّاس أُوصِيه بِك يَا بُنِيَ لِأَنَّ أَبَاك بِالْإِغْوَاءِ وَلِأَنَّ اَلرَّجُل
اَلْوَحِيد اَلَّذِي كَانَ يُحِبّنِي فِي هَذَا اَلْعَالِم ذَهَب لِسَبِيلِهِ وَلَكِنِّي أَعْلَم أَنَّ لِهَذَا
اَلْكَوْن إِلَهًا رَحِيمًا يَعْلَم دَخَائِل اَلْقُلُوب وَسَرَائِر اَلنُّفُوس وَيَرَى لَوْعَة اَلْحُزْن فِي
أَفْئِدَة اَلْمَحْزُونِينَ ولاعج اَلشَّقَاء بَيْن جَوَانِح اَلْأَشْقِيَاء فَأَنَا أَكِلّ أَمْرك إِلَيْهِ
وَأَتْرُكك بَيْن يَدَيْهِ فَهُوَ أَرْحَم بِك مِنْ جَمِيع اَلرُّحَمَاء لَا أَسْتَطِيع أَنْ أَعِيش لَك يَا
بُنِّيَّتِي فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ اَلنَّاس لَا يُغْتَفَر لِي اَلذَّنْب اَلَّذِي أذنبته حَتَّى اَلَّذِي أَغْرَانِي
بِهِ وَشَارَكَنِي فِيهِ فَأَنَا ذَاهِبَة إِلَى ذَلِكَ اَلْعَالَم اَلْعُلْوِيّ اَلْمَمْلُوء عَدْلًا وَرَحْمَة
لَعَلِّي أَجِد فِيهِ مَنْ يَغْفِر لِي ذَنْبِي إِنْ كُنْت بَرِيئَة وَيَرْحَمنِي إِنْ كُنْت مُذْنِبَة .
لَا أُحِبّ ان تَكُون حَيَاتِي يَا بِنْيَة شُؤْمًا عَلَى حَيَاتك وَلَا أَنْ يَأْخُذك اَلنَّاس بِذَنْبِي
كُلَّمَا رَأَوْك بِجَانِبِي فَأَنَا اتركك وَحْدك فِي هَذَا اَلْمَكَان لَعَلَّ رَاحِمًا مِنْ اَلنَّاس يَمُرّ
بِك فَيَعْطِف عَلَيْك وَيَضُمّك إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَم شَيْئًا مِنْ أَمْرك فَتَعِيشِينَ فِي بَيْته
سَعِيدَة هَانِئَة لَا تَعْرِفِينَ أَبَاك فَيُخْجِلك مَرْآهُ وَلَا أُمّك فَتُؤْلِمك ذِكْرَاهَا .
اَللَّهُمَّ إِنْ كُنْت تَعْلَم أَنَّ هَذِهِ اَلطِّفْلَة ضَعِيفَة عَاجِزَة تَحْتَاج إِلَى مَنْ يَرْحَمهَا وَيَكْفُل
أَمْرهَا وَأَنَّنِي قَدْ أَصْبَحَتْ عَاجِزَة عَنْ اَلْبَقَاء بِجَانِبِهَا أَرْعَاهَا وَأَحْنُو عَلَيْهَا وَأَنَّهَا
بَرِيئَة طَاهِرَة لَا يَد لَهَا فِي اَلَّذِي أذنبه أَبُوهَا فَارْحَمْهَا وَأَسْبَلَ عَلَيْهَا سِتْر
مَعْرُوفك وَإِحْسَانك وهيء لَهَا صَدْرًا حَنُونًا وَمَهْدَا لَيِّنَا وَعَيْشًا رغيدا .
ثُمَّ بَدَأَتْ تَسُرّ ثِيَابهَا عَنْ جِسْمهَا وَتُغَطِّي بِهَا جِسْم اِبْنَتهَا وِقَايَة لَهَا مِنْ بَرْد
اَللَّيْل حَتَّى لَمْ يُبْقَ عَلَى جَسَدهَا إِلَّا قَمِيص وَاحِد تَرِكَته لِيَكُونَ سَتْرًا لِعَوْرَتِهَا عِنْد
اِنْتِشَال جُثَّتهَا ثُمَّ حَنَّتْ عَلَى اَلطِّفْلَة بِرِفْق فَلَثَمَتْهَا فِي جَبِينهَا لثمة أَوْدَعَتْهَا كُلّ
مَا فِي صَدْرهَا مِنْ حُبّ وَرَحْمَة وَرِفْق وَحَنَان ثُمَّ هَتَفَتْ قَائِلَة اَلْوَدَاع يَا مَارِي سَنُلْقِي
عَمَّا قَلِيل يَا جلبرت اَلْمَغْفِرَة يَا كَاتْرِين وَأَلْقَتْ بِنَفْسِهَا فِي اَلْمَاء .
قُضِيَ المركيز اَللَّيْلَة اَلْأُولَى مِنْ لَيَالِي شَهْر اَلْعَسَل مَعَ عَرُوسه فِي شُرْفَة اَلْقَصْر
يُسَمِّرَانِ وَيَتَنَاجَيَانِ وَيَذْهَبَانِ بِنَظَرِهِمَا حَيْثُ تَذْهَب خَضِرَة اَلْأَرْض وَتَمْتَدّ زُرْقَة اَلسَّمَاء
وَتَطْرُد مِيَاه اَلنَّهْر وَيَتَقَلَّبَانِ بَيْن سَعَادَة حَاضِرَة وَأُخْرَى مَرْجُوَّة وَيَرْشُفَانِ مِنْ كُلّ
كَأْس مِنْ تِلْكَ اَلْكُؤُوس رَشْفَة تُكْثِرَا بِمَا عِنْدهمَا مِنْهَا حَتَّى ثَمِلَا وَاسْتَغْرَقَا
وَأَصْبَحَا لَا يَشْعُرَانِ بِشَيْء مِمَّا حَوْلهمَا فَلَمْ يستفيقا حَتَّى سَمِعَا دَوِيّ اَلرِّيح فِي
أَبْرَاج اَلْقَصْر وَفِي ذوائب اَلْأَشْجَار فَعَلِمَا أَنَّهَا اَلزَّوْبَعَة فَنَهَضَا مِنْ مَكَانهَا
لِيَذْهَبَا إِلَى مَضْجَعهَا .
فَإِنَّهُمَا لواقفان مَوْقِفهمَا هَذَا إِذْ لَمَّحَتْ المركيزة فِي وَجْه المركيز دَهْشَة
وَاضْطِرَابًا وَرَأَتْهُ يَلْتَفِت اِلْتِفَاتًا شَدِيدًا كَأَنَّمَا يَتَسَمَّع لِصَوْت غَرِيب فَسَأَلَتْهُ مَا
بَاله فَلَمْ يُجِبْهَا وَأَطَلَّ مِنْ اَلشُّرْفَة عَلَى اَلنَّهْر فَرَأَى كَمَا رَأَتْ هِيَ عَلَى نُور اَلْقَمَر
طِفْلَة وَاقِفَة عَلَى اَلضَّفَّة تَصِيح وَتُعَوِّل وَتُشِير بِيَدِهَا نَحْو اَلْمَاء وَتَقُول أُمَّاه أُمَّاه
فَنَظَرَا حَيْثُ تُشِير فَإِذَا اِمْرَأَة عَارِيَة إِلَّا قَلِيلًا تَتَخَبَّط فِي لجج اَلْمَاء تَخَبُّط
اَلْغَرْقَى فَتَرَكَ المركيز مَكَانه وَنَزَلَ يَعْدُو إِلَى اَلنَّهْر وَهُوَ يَقُول والهفتاه إِنْ
كَانَتْ هِيَ وَصَاحَ بِخَدَمِهِ أَنْ يَتْبَعُوهُ فَفَعَلُوا حَتَّى بَلَغَ مَوْقِف اَلطِّفْلَة فَعَرَفَ أَنَّهَا
اِبْنَته وَأَنَّ اَلْغَرِيقَة سُوزَان فَأَظْلَمَ اَلْفَضَاء فِي عَيْنَيْهِ وَأَشَارَ إِلَى أَحَد خَدَمه أَنْ
يُعَوِّد بِالطِّفْلَةِ إِلَى اَلْقَصْر وَأَمْر اَلْبَاقِينَ أَنْ يَسْبَحُوا وَرَاء اَلْغَرِيقَة ثُمَّ سَقَطَ فِي
مَكَانه وَاهِنًا مُتَهَالِكًا وَكَانَ قَدْ اِجْتَمَعَ عَلَى اَلضَّفَّة خَلْق كَثِير مِنْ اَلْفَلَّاحِينَ
رِجَالًا وَنِسَاء فَسُبَح بَعْضهمْ وَرَاء اَلسَّابِحِينَ وَوَقَفَ اَلْبَاقُونَ حَوْل المركيز يَنْتَظِرُونَ
رَحْمَة اَللَّه وَإِحْسَانه .
اِنْتَشَرَ اَلسَّابِحُونَ فِي كُلّ مَكَان وَمَشَتْ وَرَاءَهُمْ عُيُون اَلنَّاظِرَيْنِ وَقُلُوبهمْ فَقَامَتْ
بَيْنهمْ وَبَيْن اَلْأَمْوَاج اَلْمُتَلَاطِمَة مَعْرَكَة هَائِلَة كَانُوا يَظْفَرُونَ فِيهَا مَرَّة
وَيَتَرَاجَعُونَ أُخْرَى وَكَادُوا إِذَا لَاحَ لَهُمْ عَلَى اَلْبُعْد قَمِيص اَلْغَرِيقَة أَوْ شَعْرهَا عَظُمَ
عِنْدهمْ اَلْأَمَل فَانْدَفَعُوا وَرَاءَهَا مُسْتَبْسِلِينَ مُسْتَلْقِينَ يغالبون جِبَال اَلْأَمْوَاج
اَلْمُعْتَرِضَة فِي طَرِيقهمْ حَتَّى إِذَا دُنُوّ مِنْ اَلْمَكَان اَلَّذِي لَمَحُوهَا فِيهِ لَا يَجِدُونَ
أَمَامهمْ شَيْئًا ثُمَّ لَا يَلْبَث اَلْمَوْج أَنْ بَكَّرَ عَلَيْهِمْ فَيَدْفَعهُمْ إِلَى اَلشَّفَة كَمَا كَانُوا
.
وَمَا زَالَتْ اَلْفَتَرَات بَيْن ظُهُور اَلْغَرِيقَة وَاخْتِفَائِهَا تَتَّسِع شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى غَابَتْ
عَنْ اَلْأَعْيُن وَلَمْ تَظْهَر فَهَبَطَ اَلسَّابِحُونَ وَرَاءَهَا وَلَبِثُوا سَاعَة يَرْسُبُونَ وَيَطْفُونَ ثُمَّ
ظَهَرُوا عَلَى وَجْه اَلْمَاء يَحْمِلُونَهَا عَلَى أَيْدِيهمْ وَلَا يَعْلَم اَلنَّاس أحية أَمْ مَيِّتَة
وَمَا زَالُوا يَسْبَحُونَ بِهَا وَأَصْوَات اَلدُّعَاء لَهَا وَالْبُكَاء عَلَيْهَا تَرِنّ فِي اَلضَّفَّتَيْنِ
فَتَرَدَّدَ رَنِينهَا آفَاق اَلسَّمَاء حَتَّى وَصَلُوا بِهَا إِلَى اَلضَّفَّة فَأَلْقَوْهَا عَلَى اَلْأَرْض
فَإِذَا هِيَ مَيِّتَة .
وَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَة أَوْ بَعْض سَاعَة حَتَّى كَانَتْ اَلضَّفَّة مَأْتَمًا قَائِمًا يَبْكِي فِيهِ اَلنِّسَاء
عَلَى اَلشَّهِيدَة وَالرِّجَال عَلَى اَلشَّهِيد .
لَمْ يَنْتَفِع المركيز بِنَفْسِهِ بَعْد هَذَا اَلْيَوْم كَمَا لَمْ يَنْتَفِع جلبرت بِنَفْسِهِ مِنْ قَبْل
فَقْد مَرِضَتْ اِبْنَته أَثَر تِلْكَ اَلْحَادِثَة مَرَضًا شَدِيدًا فَلَمْ تَلْبَث أَنْ لَحِقَتْ بَعْد ثَلَاث
لَيَالٍ وَاسْتَحَالَ اَلْحُبّ اَلَّذِي كَانَتْ تُضْمِرهُ لَهُ زَوْجَته إِلَى بَعْض وَاحْتِقَار فَهَجَرَتْهُ
وَسَافَرَتْ إِلَى نيس وَلَزِمَهُ خَيَال ذَلِكَ اَلْمَنْظَر اَلَّذِي رَآهُ مِنْ شُرْفَة اَلْقَصْر لَيْلَة اَلْغَرَق
لَا يُفَارِقهُ لَيْله وَنَهَاره فَكَانَ كُلَّمَا مَشَى فِي طَرِيق تَوَهُّم أَنَّ أَمَامه نَهْرًا هَائِجًا
تَتَخَبَّط سُوزَان فِي لجته وَتَصِيح مَارِي عَلَى ضَفَّته فَيَصْرُخ قَائِلًا لَبَّيْكَ يَا سُوزَان
وَيَنْدَفِع إِلَى اَلْأَمَام كَأَنَّمَا يُرِيد أَنْ يُلْقِي بِنَفْسِهِ فِي اَلنَّهْر اَلَّذِي تَوَهَّمَهُ لِيُنْجِيَ
اَلْغَرِيقَة اَلَّتِي تُخَيِّلهَا فَيَنْأَى عَنْهُ اَلْمُنَظِّر كُلَّمَا دَنَا مِنْهُ حَتَّى يَنَال مِنْهُ اَلتَّعَب
فَيُسْقِط حَسِيرًا طَرِيحًا وَكَانَ يَهِيم عَلَى وَجْه أَحْيَانًا حَتَّى يَصِل إِلَى ضَاحِيَة قِرْبَة
لِينِي فَيَرَى اِمْرَأَة عَجُوز مكبة عَلَى قَبْر بَيْن يَدَيْهَا تُبْكِي وتنحب فَيَعْلَم أَنَّهَا
كَاتْرِين وَأَنَّ اَلْقَبْر قَبْر قَتْلَاهُ فَيَتَرَاجَع خَائِفًا مَذْعُورًا وَيَصْرُخ قَائِلًا اَلرَّحْمَة
اَلرَّحْمَة اَلْعَفْو اَلْعَفْو وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَرَاهُ نِسَاء اَلْفَلَّاحِينَ سَاقِطًا فِي بَعْض
اَلْأَمَاكِن اَلَّتِي كُنَّ يَرَيْنَ فِيهَا جلبرت فَيَقُلْنَ لَقَدْ اُنْتُقِمَ اَللَّه لِلشَّهِيدِ اَلْمِسْكِين
وَالشَّهِيدَة اَلْمَظْلُومَة وَكَانَ مَنْظَر اَلْمَاء يُهَيِّجهُ أَكْثَر مِنْ كُلّ مَنْظَر سِوَاهُ فَإِذَا رَآهُ
اثار وَاضْطَرَبَ وَتَهَافَتَ عَلَيْهِ يُرِيد اِقْتِحَامه لَوْلَا أَنْ يَتَدَارَكهُ مَنْ يَرَاهُ مِنْ اَلْمَارَّة
.
وَلَمْ يَزَلْ هَذَا شَأْنه حَتَّى رَأَى اَلنَّاس جُثَّته فِي صَبَاح يَوْم مِنْ اَلْأَيَّام طَافِيَة عَلَى
وَجْه اَلنَّهْر فِي اَلْمَكَان اَلَّذِي غَرِقَتْ فِيهِ سُوزَان فَعَلِمُوا أَنَّهَا نِهَايَة اَلْجَزَاء .
مَرَّتْ عَلَى هَذِهِ اَلْحَادِثَة أَعْوَام طِوَال وَلَا يَزَال عَجَائِز قِرْبَة لِينِي وَالْقِرْد اَلْمُحِيطَة
بِهَا يحفظنها حَتَّى اَلْيَوْم وَيَبْكِينَ كُلَّمَا ذكرنها ويروينها لِبَنَاتِهِنَّ وَحَفِيدَاتهنَّ
عِبْرَة يَعْتَبِرْنَ بِهَا كُلَّمَا طَافَ بِهِنَّ مِنْ شُرُور اَلرِّجَال .
*
*
المفضلات