( حاولت المرور من بين الجموع ،
اكتظت الشوارع بالجماهير الغفيرة ،
نجحت أخيرا في الوصول إلى باب منزلي ،
صعدت السلالم بسرعة ،
فتحت باب شقتي ،
جرى إلي الأولاد ،
قبلتهم ،
سألت زوجتي عن سبب هذه الجموع )
قالت :
ـ يقولون أن السيدة مريم العذراء ظهرت في بعض الأماكن ، و هؤلاء ينتظرون رؤيتها فوق الكنيسة المجاورة ...
قلت :
ـ لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ...
( باغتتني ابنتي )
ـ هل صحيح أن السيدة مريم ظهرت في بعض الأماكن يا أبي ؟
ـ لو أراد الله لها الظهور لظهرت يا بنيتي ....
ـ و لكنهم يقولون أنها ظهرت في صورة ضوء و تشكل بها السحاب .
ـ السيدة مريم لو أراد الله ظهورها لما ظهرت كسحاب يتبدد ببعض الرياح أو مجرد خيالات و ضوء ، و حاشا لله أن يظهرها في هذه الصورة ، و لكن لو أراد عز و جل لها الظهور ، لظهرت دما و لحما واضحة جلية لا يختلف عليها اثنان ، لو أراد الله لها ذلك لكانت تمشي بين الناس ، هذا ما أعرفه ، ذكرني هذا الموضوع بتجربة مررت بها يوما ،
زمــــــــــان عندما كنت صغيرا ، كنت في زيارة عمتي بالقرية ،
و كانت القرية تغص في الظلام ، لا كهرباء و لا ماء صالحة للشرب ككل القرى النائية في ذلك الوقت ،
و لكن كان هناك مكان واحد على أطراف القرية كان ينبعث منه الضوء ،
و عندما سألتهم عن مصدر الضوء ، أخبروني أن اليوم هو مولد ( الشيخ عتمان ) ،
و عندما انتهت عمتي من إعداد بعض الحلويات ، طلبت مني الذهاب مع أولادها إلى المولد لتوزيع هذه الحلوى على ضيوف ( الشيخ عتمان ) ،
و لأن الشغف كان يبلغ مني مبلغا فلم أعترض ، بل رحبت بهذه الفكرة ،
حملنا الأواني فوق رؤوسنا و رحلنا نتخبط متعرجين بين ظلمات طرقات القرية ، نسير في اتجاه الضوء الذي ينير السماء ،
أخذت الأصوات تقترب شيئا فشيئا ،
و لما وصلنا إلى هناك رقص قلبي فرحا ،
الأنوار تملأ المكان ،
صوت المزامير و الغناء ينتشر هنا و هناك ،
المكان يعج بالكثير و الكثير من البشر ،
أخذ أبناء عمتي يتسللون من بين السيقان و أنا أتبعهم ، أخذت أتجول ببصري بين الجماهير ، هذا يأكل ، و هذا يشرب ، و هؤلاء الصبية الذين التفوا حول ( الأراجوز ) على اليمين ، و هذا الرجل الذي يتبارى مع من حوله في حمل الأثقال ، فرقعة جعلتني التفت ناحيتها ، وجدت بعض الناس يلتفون حول رجل يحمل بندقية يصوبوها ناحية صفوف معلقة من (البمب) ، ولجنا إلى اليسار و إذا ببعض الرجال الذين التفوا على شكل نصف دائرة يتمايلون ذات اليمين و اليسار ، على رأسهم وقف رجل يغني من خلال مكبر صوت ، بينما وقف إلى جواره رجل يعزف الناي ، أخذت الناس يصفقون و يرددون من خلفه في صوت واحد )
ـ الله ، حي ، الله ، حي ، مـــــــــدد ، مــــــــدد ، الله ، حي ، الله ....
( أفقت على وكزة ، صرخ ابن عمتي الأكبر )
ـ هيا ، ألم نحذرك من التلكؤ ؟ هيا معنا و لا تتركنا ثانية ، لقد كدنا أن نضيعك ، هيا ....
( جريت أتبعهم حتى وصلنا إلى المكان المنشود ، وجدت زوج عمتي يجلس إلى طاولة ، تناول منا الأواني و وضعها على الطاولة ، عندها تجمع الناس من كل صوب يتناولون الحلوى ،
جذبني ابن عمتي من بين الناس و قال لي )
ـ هيا لتأخذ البركة ...
ـ أية بركة ؟
ـ رؤية رسول الله و أبا بكر بعينك ...
ـ عليه الصلاة و السلام ؟ معقول ؟
ـ نعم ، فسيدي الشيخ عتمان رجل مبروك ،
كلما هل علينا يوم مولده نرى سيدنا النبي و سيدنا أبو بكر داخل المقام .
ـ لا ، لا ،غير معقول إنها خرافات .
( وضع ابن عمتي كفه على فمي يغلقه ، أخذ يهزني )
ـ إياك أن تقول هذا ، لو سمعك أحدهم لقتلوك ....
ـ و لكنني لا أؤمن بهذه ال ....
( قاطعني )
ـ هيا و سترى بعينك .
( ذهبنا إلى المقام ، اصطففنا خلف الناس الذين يحاولون دخول المقام ، وقفت أتأمل المكان ، مجرد غرفة صغيرة يعلوها قبة مزخرفة ببعض الزخارف الإسلامية الملونة ، لها باب خشبي منقوش ، وقف عليه ممسكا بمقبضه رجل ضخم الجثة ، و لما اقتربنا من الباب ، صرخ في وجهنا )
ـ إلى أين ؟
( أخرج ابن عمتي من جيبه شيئا وضعه في يد الرجل )
ـ نريد أن نأخذ بركة الشيخ عتمان و نرى رسول الله و أبا بكر ...
ـ هيا ادخلوا و لا تتأخروا بالداخل ، هيا .
( دخلنا إلى الغرفة الصغيرة برفقة بعض الناس ،
لمحت على وقع شعاع الضوء المتسلل من الباب قبرا يتوسط الغرفة ، محاطا بسياج حديدي ،
أغلق الرجل الباب خلفنا ،
و إذا بظلام دامس يلف المكان ، همست )
ـ كيف سنرى في هذا الظلام ؟
( و إذا بصوت ينهرني )
ـ هشششششش .
( غاص المكان بصمت رهيب ،
عيوننا معلقة فوق الحائط ،
و إذا بخيالات تظهر أمامنا ، همس أحد الرجال )
ـ بركاتك يا شيخ عتمان ، بركاتك ، اللهم صل عليك يا نبي ...
( عندها بدأت صورة الأشخاص فوق الحائط تضح أكثر فأكثر ، رأيتهم بالفعل ، عقدت لساني المفاجأة ، نعم هاهم يتحركون هنا و هناك ، أخذ الرجل يصف لنا ما نراه )
ـ هذا هو حبيبيكم النبي (صلى الله عليه و سلم) إلى اليمين هناك ..
( عندها رأيته ( صلى الله عليه و سلم ) نعم رأيته ، أخذنا نردد )
ـ اللهم صل عليك يا نبي ، اللهم صل عليك يا حبيبي يا رسول الله ....
( أكمل الرجل وصفه )
ـ و هذا أبو بكر الصديق رضوان الله عليه ...
ـ رضي الله عنه و أرضاه ، و لكن من هذه التي تسير بجوارهم ؟
ـ هذه السيدة عائشة رضي الله عنها أيها الأبله ...
ـ نعم ، نعم ، و الله إنها السيدة عائشة ...
( لا أدري ما الذي جعلني أطير بالذاكرة إلى المدرسة ،
وجدت هناك الأستاذ فكري مدرس العلوم ،
التففنا حوله ، و عندما وضع الشمعة المشتعلة أمام صندوق مغلق به ثقب صغير ،
رأينا كيف أن هذا الثقب كان كالعدسة التي جعلت لهب الشمعة يظهر على جدران الصندوق الداخلية ،
نعم ، نعم ، نحن داخل الصندوق ، و هؤلاء الناس بالخارج هم الشموع لأن الضوء يسقط عليهم ، و ثقب المفتاح هو العدسة ، و هذه التخيلات التي نراها انعكاس لصورة الناس بالخارج ،
لا حول و لا قوة إلا بالله ،
و لكن كيف سأتصرف ؟
لو قلت لأحدهم هذا الكلام فربما لا تشرق الشمس على وجهي ثانية أبدا ،
تحركت خلسة إلى أمام الباب حتى اختفت الخيالات من فوق الحائط ،
عندها انطلقت همهمات الحزن ، أخذ الناس يندبون حظهم ، عندها صرخت فيهم )
ـ لابد أن فيكم أحد العصاة ، نعم ، هذا المجرم هو الذي حجب عنا رؤية رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) و رؤية الصحابة ( رضوان الله عليهم ) توبوا إلى الله ، استغفروا الله ....
( أخذ الناس يرددون حولي )
ـ استغفر الله العظيم ، استغفر الله العظيم ...
( قلت في ثقة )
ـ لا عليكم ، لا عليكم ، سأدعو الله الآن ليظهر لكم رسول الله ثانية ...
( أخذت أهمس بالدعوات ، ثم قلت و أنا أبتعد من أمام الباب )
ـ ها هو رسول الله يظهر لكم ثانية .
( عندها ظهرت الخيالات مرة أخرى ، عندها هلل الناس و كبروا )
ـ الله أكبر ، الله أكبر ...
( صرخ أحد الرجال )
ـ لا يخدعنكم هذا الصبي ، فليست دعواته هي سبب الظهور ...
( عندها صرخت فيه )
ـ كرامة لكلامك هذا سأحرمكم من الرؤية ....
( تحركت أمام الباب ثانية ،
عندها اختفت الخيالات ، هاج الناس ،
قلت لهم )
ـ و لكنني من أجل عيونكم أنتم سأعيدها ثانية هكذا ...
( تحركت بعيدا ، فظهرت الخيالات ،
عندها صرخت فيهم )
ـ فوقوا يا عالم يا هوه ، استيقظوا من هذا الهراء ، هذه الخيالات ما هي إلا انعكاس الضوء في الخارج ، و ها هو إصبعي الصغير هذا يمكنه أن يحرمكم من رؤية هذه الخيالات ، هكذا ...
( وضعت إصبعي فوق فتحة المفتاح ، فاختفت الخيالات من فوق الحائط )
ـ و لو أبعدت إصبعي هكذا ، ستظهر الخيالات ..
( عندها صرخ أحدهم )
ـ الله أكبر ، هذا الولد مبروك يا ناس ، الله أكبر
( هلل الناس و كبروا )
ـ الله أكبر ، الله أكبر ...
( حملوني فوق أعناقهم ، حاولت إثنائهم عما يفعلونه ،
أخذت أصرخ فيهم )
ـ يا عالم يا هوه ، حرام عليكم ، أقول لكم إنها مجرد خرافات ،
( ضاعت صرخاتي أدراج الرياح ،
أخذوا يصرخون )
ـ المبروك أهوه ، المبروك أهوه ...
( خرجوا بي إلى الساحة ،
حاولت النزول من فوق أكتافهم ، و لا فائدة ،
التفت الجموع من حولي ،
سرت إشاعة البركات التي خلعوها علي انتشار النار في الهشيم ،
أخذ المريدين يحاولون تقبيل أي شيء مني تطوله شفاههم ،
أخذوا يحاولون لمسي و مسح وجوههم و أجسامهم ،
و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ،
و حسبي الله و نعم الوكيل )
المفضلات