بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العليم الخبير . . والصلاة والسلام على النذير البشير وآله صحبة ومن على نهجهم سار ومن يسير . أما بعد
فأن الأمة الإسلامية ما إن تتعافى إلا وقد أصابها خطب جلل ، وداء عضل نراه قد فتك بها ، وأرداها في غياهب التيه والضياع ، ونخرا في جسدها المتهاوي ليزيد الألم ألماً والوجع وجعاً، فأوتيت من قبلها ، ونُحرت بيدها وهذا ما يريده أعداءها أعداء الدين من محرفين وضالين وملحدين ، وقد قطع وريدها! ، وقضى على أنفاسها!! ، جمع غير قليل-ــ لا كثر الله سوادهم ــــ من متعالمين وأنصاف المتعالمين ممن يتقولون على الله عز وجل بغير علم فيفتون ويضلون ويُضلون ، ولو أوضع الأمر في نصابه وصب في قالبه ، وأرجع الأمر إلى أهله ، لما كان ما كان ، ولكنها الفتنة إلا في الفتنة سقطوا
وان من أشد الأمور خطورة، وأعظمها ضرراً على الديانة والأمانة وأبلغها فتنة على الناس التقول على الله بغير علم والجرأة على الفتوى والتصدر لها قال الله تبارك وتعالى «قُلْ اِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالاِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»، ويقول الله تبارك وتعالى : «وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ». وقد شدد الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر وبين أن جزاء من عمله النار فقال: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، وقال: «أجرأكم على الفتيا أجرأكم على انار»
والمتمعن الحصيف والمدرك العفيف ليعرف حق المعرفة أن المفتي كأنه ينوب عن الله في هذا الأمر إذا قال الله تعالى ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ)) ولذلك فقد ألف الإمام الجهبذ الحبر أبن قيم الجوزيّة كتابه الموسوم ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) ففيه قرة عين لكل منصف لنفسه رصين!! .
وقد رسم السلف الصالح المسلك الصحيح في هذا الأمر ديانة وتثبتاً وورعاً فكان الصحابة رضوان الله وهم خير الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم يتدافعون الفتوى كل واحد منهم يتمنى لو أن أخاه كفاه ، وهذا أبو بكر وعر يجمعان أكابر الصحابة لحادثة مع جلالهما وعظيم قدرهما ومكانتهما في العلم، يقول ابن سيرين: لم يكن أحد أهيب لما لم يعلم من أبي بكر ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب لما لم يعلم من عمر. وصح عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا: من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون. وقال أبو الحسن السدي: أن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر. إن الفتيا بغير علم ذنب عظيم وخطر جسيم فيه تنفلت عرى الإسلام عروة عروة،وتنهدم أركانه وتخر بنيانه ،
والبصير الموفق من بصره الله في خطورة أمر الفتيا وعظيم أثمه فهذا ابن عباس يقول لمن سأله: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا جسوراً على متن جهنم. وقال ابن مسعود: يا أيها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم، فان من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. وكان الشعبي في نفر من تلاميذه فسأله رجل عن مسألة فقال: لا أحسنها وعندما ولّي الرجل قال تلاميذه: قد استحيينا لك، فقال: لكن الملائكة لم تستح وقالت: « لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا». وجاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله جئتك من مسافة بعيدة في مسألة حملني إياها أهل بلدي، قا: فقل، فسأله، فقال: لا أحسنها، فبهت الرجل وقال: ماذا أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم، قال: تقول لهم: قال مالك لا أدري فأين هؤلاء البررة من أولئك الفجرة الذين يهرفون بما لا يعرفون ويهذون بما لا يدرون (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) ، فما يضير العاقل أن يرد الأمر لأهله ويرجع الفتوى لأصحابها ، وأن يقول فيما لا يعلم الله اعلم ، أم أنه حب الشهرة والظهور؟ فهذا هو الذي قصم الظهور وجلب على الأمة أنواع البلايا و الشرور -ــ ولا حول ولا قوة إلا بالله
وإن أسباب لا تخفى على ذي لب رشيد دفعت المتعالمين وأنصافهم إلى الوقوع في هذا الخطب الجلل والداء العضل فافتروا على الشريعة وتجاوزوا كل حدودها وقيودها غير مبالين ولا وجلين وكأن الأمر حظ دنيا وليس الأمر توقيع عن رب العالمين . وهذا هو الضلال المبين
وإن من هذه الأسباب ضعف الوازع والرادع الديني والعقلي وقلة العلم والبصيرة، فإن الإيمان الحقيقي والعقل الرصين هو الذي يمنع صاحبه من الوقوع في هذا وأمثاله ويجعله يميز بين الخير والشر ،و يفكر ويتأمل في عواقب أقواله وأفعاله وأن ما يلفظ من قول إلا لدية رقيب عتيد ، وهذا هو العلم فإن العلم ليس بكثة المسائل وإنما العلم خشية الله ومراقبته في السر والعلن ، وثمة سبب أخر وهو أن يتزبب قبل أن يتحصرم ويتصدر قبل أن يتأهل وقد قيل من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه ، ومعروف لدى العقلاء أن العلم لو أعطيته كلك أعطاك بعضه . وسبب أخر مهم إلا هو الحرص على الشهرة والسمعة عند الناس وبينهم، فتجده يحرص على أن يسألوه ويرفعوا مكانته ، الأمر الذي معه تنفتح عليه مداخل الشر كلها فيتصور نفسه العلم العلامة، والحبر الفهامة الحافظ، صاحب الحجة والبرهان، وهو أجهل من حمار أهله ، فيضل ويُضل ويزل ويزل، وتقع ما لا تحمد عقبها ، ولا يستفيد منها في النهاية إلا كل عدو لدود.
ومن الأسباب الدافعة أيضا جهل الإنسان بمنزلته في العلم، حيث قد يظن نفسه أعلى مما هو عليه في الحقيقة، وهذا هو الغرور والعياذ بالله وكذا التنافس بين الأقران، فانه إذا اقترن ذلك بضعف الورع أثمر العجب وعندها عظم كل سبب ، وقد يكون من الأسباب أحياناً اغترار البعض بما يحمله من الشهادات النظامية ويظنها مخولة لـه في التصدر أو إبداء الرأي في كل مسألة وفتوى، وربما كان أحياناً غير متخصص في العلوم الشرعية أصلاً فيغره بروزه في مجال ليزاحم أهل الشأن شأنهم ،
وحيثأنه ما نزل من داء فله دواء ؛ فإن لهذه الطامة وهذه القاصمة بحول الله دواء ناجعاً وعلاجاً نافعاً يكمن في معرفةِ من ابتلاه الله بشيء من ذلك قدرة نفسه وأنه يعرف نفسه أكثر من غيره متمثلاً قول القائل : والله لو علموا سرير قبيحتي لآبي السلام علي من لاقني ، قال ابن مسعود: «لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان» يقول هذا وهو أحد صحابة رسول الله فما بالنا بمن جاء بعدهم ، ثم ليأخذ العلم عن العلماء الموثق بعلمهم والمشهود بصلاحهم وتقواهم لله عز وجل الفقهاء الحلماء الحكماء ، يريد في ذلك وجه الله والدار الأخره ،ثم فلحرص على تعلم الأصول ويحفظ المتون فمن حرم الأصول حرم الوصول ولا تنال الفنون إلا بحفظ المتون ، وليحذر التصدر للتدريس والتوجيه والفتوى إلا بعد التعمق والتمرس والتجربة في مجالات العلم المتعددة لتكون أقوال الإنسان دقيقة وقريبة من الصواب ومبنية على الأدلة الواضحة والصريحة، فهذا الأمام أحمد بن حنبل رحمه الله لم يجلس للتدريس والفتوى إلا بعد بلوغه الأربعين، وليتجمل وليتحلى بالآداب والأخلاق الفاضلة الحسنة فيعرف لأهل الفضل فضلهم وأهل القيادة والريادة الدينية والدنيوية حقهم وريادتهم ، فيكون على حذر من الغرور والاتداد بالنفس ولينأ بنفسه عن الدخول في الأمور التي تخرم المروءة وتسقط الهيبة ، وتوغر الصدور وليحذر من أبتذال العلم الذي تعلمه وأصبح يشار إليه لأجله فليترك مجادلة السفهاء وممارات العلماء فمن يعظم شعائر الله فهي من تقوى القلوب .
وبعد فإن أصبت فيما قلت فهذا من فضل الله ، والله يؤتي فضله من يشاء وهو ذو الفضل العظيم ، وأن أخطأت فمن نفسي والشيطان .
والله المسؤول أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن لا يجعلنا من الذي يضلون ويُضلون المتقولون على الله بغير علم ونسأله سبحانه أن يغفر لنا زلاتنا وهواتنا وخطئنا وعمدنا وإسرافنا في أمرنا وأن يجبر عثراتنا ويقيل كسرنا وأن يتولانا بلطفه ورعايته وحفظة وتأييده .. أنه سميع مجيب الدعاء وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين .
المفضلات