اختلط الحابل بالنابل ، الجميع يفرون في كل اتجاه ،
النار تفترس بشراهة كل ما يعترض طريقها ،
تقفز من بيت لبيت كالبرق ،
صرخات الاستغاثة تتعالى هنا و هناك ،
ألسنة اللهب تطاول النخيل ،
سحب الدخان الأسود تحجب الرؤية ،
الضوء و الحرارة الناتجة عن النيران حول الليل ظهرا ،
على أطراف القرية هناك ،
صوت دقات قبضة قوية متتالية على باب الدار الخشبي العتيق ،
ضوء المصباح يتسلل من بين فتحات إحدى نوافذ الطابق العلوي ، تستيقظ المرأة مذعورة ،
وكزة نسائية يقفز لها الزوج جالسا ، يصرخ )
ـ الله أكبــر ، الله أكبر ، فيه إيــــــــــــه ؟ فيه إيه يا ولية ؟ حرام عليكي ، بتزغدي بهيمة و الا **** ؟
ـ ما تفز ياعمدة تشوف مين البقف اللي بيخبط بالشكل ده في ساعة زي دي ...
ـ هو فيه حد بيخبط ؟
( ينتبه لصوت الدقات المتتالية ، ينزل سريعا من فوق السرير الحديدي العالي ، تزل قدماه فيسقط أرضا )
ـ سلامتك يا سبع البرمبا ، هي هي هي هي ...
( يحاول لملمة ما تبقى له من كرامة ، يتجه إلى النافذة ، يفتحها صارخا )
ـ ميــن ؟ ميـــــــــــــــــن ؟
( يظهر رجل ضخم الجثة يرتدي ملابس الخفر و بندقيته على كتفه )
ـ الحق البلد بتولع يا عمدة ...
( عندها يلتفت العمدة إلى ألسنة اللهب التي تتعالى هنا و هناك ،
يصل إلى مسامعه صرخات أهالي القرية ، يتساءل )
ـ يا مصيبة سوخة ، النار دي قايدة في دار مين يا شيخ الخفر ؟
ـ دي مش دار واحدة يا حضرة العمدة ، دي ماسكة من دار ( زنوبة أم حمايد ) و انته جاي ، الحق اتصل لنا على المطافي بسرعة .......
ـ مطافي إيه يا ابو مخ تخين ؟ مطافي مين الساعة دي ؟ دي عبال لما المطافي تيجي تكون البلد ساحت ، بسرعة تلم الغفر و تروح على الدوار
و كل واحد يجيب طفاية حريق من اللي العمدة الصغير باعتها من مصر و تحصلوني على هناك ، يلا بلاش لكاعة ، بسرعة ....
ـ أوامرك يا حضرة العمدة ، حالا أهوه
( يجري شيخ الخفر إلى مكان النيران التي بدأت تتأجج أكثر فأكثر ، يسأله أحد الخفر )
ـ أمال فين المطافي يا شيخ الغفر ؟
ـ ما لكش دعوة انته ، لم لي بسرعة الغفر و خليهم يحصلوني على دار العمدة القديم ، و انته تفضل واقف هنا لغاية لما يجي حضرة العمدة ، إياك حد يهوب ناحية النار ، سامع و الا لأ ؟
ـ أوامرك يا شيخ الغفر ...
( أخذ الأهالي يشمرون عن سواعدهم ، منهم من اخذ يساعد الأطفال و النساء الذين حاصرتهم النيران ، و البعض الآخر يجري بالأواني النحاسية إلى الترعة يملأها بالماء ، و البعض يقذف النار بالتراب و الماء لإخمادها ، و لا فائدة ،
النيران تزداد شراسة ، ظهرت و كأنها تباريهم ، يحاولون إطفائها من اليمين ، تتأجج من اليسار ، يسارعون لإخمادها هنا ، تتعالى ألسنتها هناك ،
لكن الرجال ما زالوا يقاتلون في بسالة ،
صرخات العمدة التي تأتي من بعيد ترهب الناس و تجعلهم يتوقفون للحظات )
ـ إنته بتعمل إيه يا غبي انته و هوه ؟ و انته يا غفير يا اللي واقف زي الجاموسة ، سايبهم إزاي يقربوا من النار بالشكل ده ؟ دا أنا منبه عليكم و قايل ما تخلوش حد يهوب ناحية النار لغاية لما المطافي تيجي ، حصل و الا ما حصلش ؟
ـ حصل يا حضرة العمدة و شيخ الغفرقال لهم الكلام ده كله ، بس ما حدش عبر كلامك في الجزمة القديمة .
ـ و اللي انته شايلها على كتفك دي لازمتها إيه يا بجم ؟
( يقترب من أذن العمدة هامسا )
ـ يعني أطخ اللي ما يعبرش كلامك في الجزمة و على مسؤوليتك ؟
( يوكزه العمدة في كتفه )
ـ البهيم ها يفضل طول عمره بهيم ، لكن ها أقول إيه ؟
( يغمز له بعينه بينما يهمس )
ـ عيارين فشنك ، تهويش في الهوا مش أكتر يا بهيمة معشش في مخها **** معشش في مخه شوية بهايم ( يرفع صوته )
إياكم حد يهوب نواحي النار لغاية لما المطافي تيجي ، أديني بانبه أهوه .
( صرخة طفلة تشق سكون الإذعان الذي خيم على الوجوه ، حاول أحد الشباب اقتحام النيران في اتجاه الصرخة ، عندها يمسك الخفير بجلبابه بينما يصرخ العمدة في وجهه )
ـ إنته رايح فين يا مجنون انته ؟ مش شايف النار عاملة إزاي ؟
ـ و حضرة العمدة قال لي اللي يقرب من النار ها أطخه .
ـ و البت اللي ها تولع دي يا عـــــالم يا هــــــــــوه ؟
ـ يعني البت تولع و إلا انته ما تعبرش كلام أبوك العمدة في الجزمة ؟
( تصرخ البنت ، عندها يحاول الإفلات بجلبابه من قبضة الخفير ، و لكنه لا يفلح إلا بتمزق جلبابه من شدة الجذب )
ـ ده انت اللي تولع بجاز وسخ انته و العمدة بتاعك ....
( ا نفلت الشاب منطلقا إلى وسط النيران ، عندها تفور دماء الناس بالثورة ، ألهب الحماس ظهورهم ، البعض منهم عاد يملأ الأواني بالماء يلقيها على ألسنة اللهب ، لم يعد أحد يعبئ بصرخات العمدة و طلقات بندقية الخفير في الهواء ،
مر الوقت دهرا حتى استطاعوا السيطرة على ألسنة اللهب ،
بدأت النيران تنحسر هنا و هناك ،
دقائق أخرى من العمل الجاد حتى خفتت النيران شيئا فشيئا ،
اللهم إلا بعض الأدخنة المتصاعدة من مكان لآخر ،
خيم الصمت على المكان ،
استلقى الرجال أرضا من شدة التعب و الإجهاد ،
عندها وقف العمدة وسطهم يصرخ )
ـ بقى بتكسر كلام العمدة ياد يا حسن يا أبو سليمان ؟ ليلتك هباب ، اقبض عليه يا غفير ، هو و كل اللي شارك في الجريمة دي ، و تاخدهم دلوقتي حالا على دوار العمدة .
( بدأ الخفر في تقييد أيادي بعض الرجال و اقتيادهم إلى دار العمدة ،
فجأة شق سكون الليل صوت سيارة الإطفاء ،
بدأ ضوءها يقترب يدور مترددا على أعالي الأشجار و جدران البيوت ،
من بين الأدخنة يظهر شيخ الخفر يركب عربة يجرها **** ، يجلس فوقها الخفر و قد ارتدى كل منهم ملابس رجال الإطفاء و يمسك بطفاية حريق ، يمسك أحدهم ببوق ورقي يقلد صوت سيارة الإطفاء ، بينما خفير آخر يقف حاملا مصباحا يدويا يدور به فوق العربة ، يتساءل شيخ الخفر )
ـ فين النار يا عمدة ؟
ـ الأهالي كسروا كلامي و طفوها ، بس يا ويلهم يا سواد ليلهم مني .....
ـ و العمل يا كبير البلد ؟ يعني ها تسيبهم كده و همه ما عبروش كلامك في الجزمة القديمة ؟
ـ ما خلاص بقى يا شيخ الخفر ، خلاص ، خلااااااااااااص .
( يهمس في أذن العمدة )
ـ طب و ها نعمل إيه دلوقتي في طفايات الحريق اللي ها تقعد في أرابيزنا دي ؟ دا احنا ما صدقنا نولع في البلد من غير ما حد ياخد باله ....
( يصيح العمدة في أهالي البلد )
ـ العيال اللي طفوا الحريق بالشكل ده ها ياخدوا جزاءهم ، الموضوع مش ها يعدي كده بالساهل ....
( يصرخ شيخ الخفر في الجموع )
ـ هو سلق بيض ؟ و الا كان سلق بيض ؟ طفوا إيه إن شاء الله ؟
طب و النار اللي قايدة تحت الرماد دي ؟ مش شايفين الدخان طالع منها إزاي ؟
ـ و دلوقتي لما البلد تنام ترجع تشب تاني ؟ هو مين المسئول عن الأمن و السلامة في البلد دي يا عالم ؟
ـ انته طبعا يا حضرة العمدة ...
ـ يعني أرواحكم متعلقة في رقبتي ، و سلامتكم هي أهم حاجة عندي ، و مش ها اسمح أبدا لشوية عيال صيع يضحكوا عليكم و يقولوا كذب و بهتان إنهم طفوا الحريقة ، لازم كل حاجة تتعمل زي ما بيقول الكتاب ،
أما بخصوص تمن الطفايات اللي جاية لكم مخصوص من مصر ،
و لا يكون عندكم فكرة ، ها اقسطها لكم ، يعني مش واخد منكم حاجة دللوقتي لغاية المحصول إن شاء الله ، و بعدين دي كلها كلام فاضي ، بسرعة يا لا يا غفير انته و هوه ،
ولعوا لنا النار في البيوت دي من تاني ،
ولـــــع ولـــــــــــع ولــــــــــــــــــع .
المفضلات