“.. ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون” (البقرة:171).
بدأت سورة البقرة باستعراض أصناف الناس وموقفهم الايماني، فهناك المؤمنون ثم الكافرون ثم الفئة الأشد خطرا وهم المنافقون. وضرب الحق تبارك وتعالى لنا الأمثال لكل فئة من الفئات الثلاث في أكثر من موضع من الكتاب الحكيم.
وعندما نتابع ونتدبر مثل الذين كفروا نراهم “صم” “بكم” “عمي”، غابت عقولهم عن إدراك الحق، وامتنعت حواسهم عن استقبال آيات الله في خلقه والانفعال بها، فهم “لا يعقلون” والكفر من مادة “كفر” أي ستر وغطى، فكأن الكفر هو ستر وإخفاء وتغطية لشيء موجود فعلا وحقيقة ثابتة يحاول الكافر انكارها، تلك هي الفطرة من خلق الانسان، وهي الشعور والاحساس بوجود الخالق عز وجل وربوبيته سبحانه وتعالى، وهي جزء مهم واساسي في خلق الانسان كما يقرر ذلك خالق الانسان وبارئه في سورة الاعراف “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم. قالوا بلى شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون. وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون” (الاعراف: 172 174).
الحقيقة الكبرى
تلك هي الحقيقة الكبرى في خلق الانسان، ولا سبيل لإنكارها ولكنهم لا يحاولون إعمال عقولهم وحواسهم ويعرضون عن نصح الناصحين والداعين الى سبيل الله، وردهم دائما “بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا” (البقرة:170) “بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا” (لقمان: 21) حتى ولو كان آباؤهم “لا يعقلون شيئا ولا يهتدون” (البقرة:170) فهم على آثارهم يهرعون كالأنعام التي تسمع وترى ولكنها لا تعقل.
والوصول الى تلك الحقيقة الكبرى سهل ميسور وفي قدرة عقل كل انسان، عليه فقط ان يجرد فكره من طوارئ الفكر الذي يمليه عليه الآخرون من دعاة الكفر والفساد، وان ينظر الى أي شيء في الوجود.. الى نفسه وما حوله من كائنات حية يعجز الناس عن حصرها، ومن مخلوقات اخرى من جبال وبحار وانهار، وهواء وماء وسماء، وكواكب ونجوم وأبراج، وكون لا يصل البصر الى أبعاده ولا يدرك العلم حدوده، وما في تلك الموجودات من نظام دقيق يحكمها ويحدد ابعادها ووجودها ومصيرها، لو نظر الانسان وأعمل عقله لوجد الله في كل شيء، يستوي في ذلك العالم والجاهل، فهي الحقيقة التي وصل اليها الأعرابي الأمي حين قال: “الأثر يدل على المسير، والبعر يدل على البعير، أفأرض ذات فجاج، وسماء ذات ابراج، أفلا يدلان على الحكيم الخبير”، وهي ما وصل اليه علماء الفلك والجيولوجيا والطب والرياضيات وغيرهم.
وفي هذا المجال يقول الحق تبارك وتعالى منبها الى أهمية العقل والتفكير في خلق الله وآياته: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” (فصلت:53) “أفلا ينظرون الى الابل كيف خلقت، والى السماء كيف رفعت، والى الجبال كيف نصبت والى الأرض كيف سطحت” (الغاشية: 1720) وغير ذلك من الآيات التي تميز أولي العقول والالباب
وهكذا يبين لنا الخالق سبحانه وتعالى كيف ان العقل هو الطريق الى الايمان بالخالق وبالآخرة وبحتمية الحساب والثواب والعقاب، والعقل جزء أساسي من خلق كل انسان وله القدرات نفسها على التدبر والتفكر والوصول الى الحقيقة، تستوي في ذلك عقول كل الناس الا استثناءات الجنون وبعض الأمراض، ومن هنا كان السؤال الاستنكاري في سورة البقرة “كيف تكفرون بالله” (البقرة: 28).
استعلاء واستكبار
نعم، كيف تكفرون بالله وقد أمدكم بالسمع والأبصار والأفئدة، لتروا وتشعروا بما حولكم من آيات في الكون لا تعد ولا تحصى في كل زمان ومكان، وكيف تكفرون وقد جاءتكم الرسل بالبينات يخاطبون عقولكم بالحق والبيان والتبيان وجاؤوكم بالمعجزات والكتب والحكمة.
نعم، لا مجال للكفر إلا ان تكونوا قد عطلتم عقولكم عن التفكير والتدبر فيما يصل اليها عن طريق الحواس كالسمع والبصر، وإلا ان تكونوا قد أسلمتم قيادكم لشهواتكم وطواغيت الإنس والجن واستكبرتم عن قبول دعوة الحق، وهذا هو حال الكافرين والفاسقين في كل زمان، فقد تميزوا في كفرهم برفض أعمال العقل وعدم مواجهة الحق بصدق وموضوعية فهذا نوح عليه السلام “قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي الا فرارا، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم واصرّوا واستكبروا استكبارا” (نوح: 5 7) “وقالوا لا تذرن آلهتكم. ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا” (نوح: 23 24). وانظر الى رد قومه على دعوته لهم للإيمان “فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا. وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين “ (هود: 27) و”قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين” (هود: 32) انصراف عن القضية الأساسية وعدم الاستعداد لمناقشة قضية الايمان بصدق وموضوعية، بل استعلاء واستكبار ورفض على طول الخط. وهكذا على مدى “ألف سنة إلا خمسين عاما”.
ويرد قوم هود على دعوة هود عليه السلام ردا غير موضوعي ولا عقلاني “قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء” (هود: 53 54).
ولم يختلف رد ثمود على صالح عليه السلام “قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا ان نعبد ما يعبد آباؤنا. وإننا لفي شك مما تدعونا اليه مريب” (هود: 62). ولقد طلبوا معجزة منه فجاءتهم الناقة فعقروها، فالقضية ليست مقارعة حجة بحجة عقلية ولكنه الرفض على طول الخط واتباع سنة آبائهم ولو كانت الضلال.
ولم يأت شعيب عليه السلام بمعجزة لقومه ولكنه خاطب عقولهم فكان ردهم “قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد” (هود: 87). “قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز” (هود: 91). لقد تغيرت معاملتهم له ونظرتهم اليه عندما دعاهم الى الله وحده لا شريك له والى مكارم الاخلاق وحسن التعامل.
انغلاق العقول
ولاقى ابراهيم عليه السلام من أبيه وقومه ما لاقى رغم مقارعتهم الحجة بالحجة البينة، وتحطيم أصنامهم التي لا تملك لهم ولا لأنفسها نفعا ولا ضرا، وتذكيرهم بخلق الله وآياته في الكون من شمس وقمر وكواكب ونجوم وحياة وموت.
ورغم ما جاء به موسى عليه السلام من معجزات فلم يؤمن به فرعون إلا عندما حضره الموت غريقا في البحر استجابة من الله لدعوة موسى وهارون عليهما السلام “.. ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم” (يونس: 88)، بل إن بني اسرائيل قوم موسى أنفسهم لم يصدق ايمانهم وارتدوا على أدبارهم أكثر من مرة رغم ما رأوه من آيات بينات، فقد طلبوا من موسى أن يجعل لهم اصناما يعبدونها وطلبوا من موسى ان يريهم الله جهرة، وعبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري ورفضوا دخول القرية المقدسة امتثالا لأمر الله وغير ذلك مما يدل على انغلاق عقولهم وقلوبهم على الكفر والفسق والعصيان.
ومن يتابع قصة موسى عليه السلام وفرعون يرى كيف انعدم الفكر السليم والمنطق المقبول لدى فرعون وملئه، ويكفي ما قاله الرجل المؤمن من آل فرعون كما جاء في سورة (غافر) من بيان.
وقد لقي لوط عليه السلام ما لقي من قومه الفاسقين الذين رفضوا الهدى و”قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون” (الاعراف: 82) و”قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين” (الشعراء: 167) و”قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين” (العنكبوت: 29).
قريش تكذب “الصادق الأمين”
لقي خاتم الانبياء محمد بن عبدالله سيد الأولين والآخرين من الأذى والتكذيب والمكر ما نعرفه جميعا فقد اتهموه بالكذب، والسحر والكهانة، وقالوا إنما يعلمه بشر، وطلبوا منه المعجزات المادية الكثيرة كأن يفجر لهم الأرض بالماء، أو يكون له بيت من زخرف أو يرقى الى السماء وينزل اليهم كتابا منها أو يسقط السماء عليهم كسفا أو يأتي بالله والملائكة قبيلا.. ورغم يقينهم بصدقه وبأنه كان بينهم دائما (الصادق الأمين) فقد رفضوا الايمان بما جاءهم به من الحق والبينات، ليس عن اقتناع عقلي ولا عن أدلة مقنعة ولكن استكبارا وعنادا ورفضا غير مبرر، وكما يقرر القرآن الكريم في أكثر من موضوع “وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم” (الزخرف: 31) وقوله تعالى: “فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون”، وكما قال عن قوم فرعون من قبل لما جاءتهم البينات “وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين” (النمل: 14).
وهكذا لم يختلف الأولون والآخرون في تعطيل عقولهم وتدبر آيات الله، واكتفوا بالتهديد والوعيد والمكر والكيد لأنبياء الله ولعباده الصالحين، فكان مثلهم كمثل الانعام بل أضل “.. لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون”
المفضلات