(تحقيق المقال في اسباب ودوافع كون الخنيسي )
ما دعاني إلى كتابة هذا المقال الذي أسلط الضوء فيه على كون (الخنيسي) هو أنني وجدت بعض الكتابات المتفرقة هنا وهناك التي تكتفي بذكر المعركة بشكل مختصر دون إظهار الأسباب الحقيقة التي دعت اليها ، والمناسبة دائما مهمة لتفسير الحوادث ، بل إنني وجدت بعض الكتابات تذكر أسبابا للمعركة تخالف الحقيقة وتجانب الصواب، فمن تلك الكتابات ما ذكره الباحث جون 0ف0 ويليامسون؛ في أطروحة الدكتوراه التي قدمها إلى قسم التاريخ في جامعة (إنديانا) في بريطانيا إذ يقول"حدث قتال شديد في آب 1946 0نشبت المصاعب حين رفض البومتيوت والجحيش دفع إيجار الزرع الذي سبق الاتفاق عليه عن ارض تعود إلى أبناء عجيل الياور، املت القبيلة أن تحل المشكلة إذ عرضت مطالبها على الحكومة العراقية، لكن بلى جدوى0 وحين حاولت شمر مرة أخرى أن تستوفي الدين المستحق لها نشب قتال عنيف أدى إلى موت مائتي رجل من العشائر0وسرعان ماتجمع الحلفاء من العشائر في إنحاء الجزيرة لمساعدة العشائر المتحاربة، لكن تدخل الحكومة السريع وضع حداً للقتال0" (ص231ط:الثانية2001نقل معلوماته السابقة من زكريا:عشائر الشام ص:291) 0
إن أسباب المعركة ودوافعها مهم جداً لتبرير هذه الحرب الهوجاء التي راح ضحيتها رجالاً كراماً ونفوساً طاهرةً من الطرفين ، لقد سبق أن قلت في تعقيب لي على احد المقالات التي تناولت كون الخنيسي بشكل مختصر ما نصه:
" هذه المعركة التي يكرهها شمر جميعا 00كما يكرهها كل من عرف تفاصيلها 00وكانت بعد تردي الأوضاع السياسية وسقوط حكم الرشيد ونزوح الكثير من عشائر شمر الى العراق00 وهي مذبحةُ عظيمةُ قُتل فيها جمعٌ غفير من شمر 00 وقيلت فيها الكثير من الملاحم الشعريه، تعمدت شمر عدم ذكرها او روايتها، لانها من اسوأ الحروب التي شهدتها شمر في تاريخها الحديث 00 لقد كان شمر يطلبون ثأرا000"
ان هذه الجمل السابقة لم تكن تصفيفا لعبارات وجمل متناسقة، وانما لها دلالتها المهمة التي سوف اشرحها في هذا المقال ، اما سبب كره شمر لها او الحديث عنها فله اسبابه التي سوف تتضح لكم من خلال سردي لوقائع واحداث هذه المعركة التي قامت اساسا على الظلم الذي يخالف الأعراف المتبعة والقواعد العامة التي تتمشى مع الاستراتيجيات العامة لشمر في حروبها0
واما عبارتنا" لقد كان شمر يطلبون ثأرا" فهو رد على ما سبق ذكره من كتابات لبعض الباحثين والمؤلفين الذين يعزون اسباب معركة الخنيسي الى مطالبات مالية خاصة بابناء الشيخ(عجيل) الياور حيث إن هذا الأمر يخالف الحقيقة والوقع، ويخالق القواعد العامة التي تنتهجها شمر في غزواتها الماليه؛ فلم تكن شمر لتقدم على هذه المذابح والمجازر من اجل مطالبات مالية خاصة يستطيع أصحابها أن يحصلوا عليها عبر قنواتها المعروفة سواء عن طريق الحكومة أو الأعراف الاجتماعية السائدة، بل إن شمر حتى في غزواتها التي من اجل الغنائم لم تكن تقدم على القتل إلا في أحنك الظروف لأنهم يعلمون تبعات ذلك، وهو عرف سائد عند كل القبائل العربية كما سيأتي تفصيله لاحقا0
يقول(ج 0بركهاردت Burckhardt 0 j 1831:141-142) "كانت لدى عرب شمر عادة غريبة في الهجوم ليلا على مخيم العدو حين يصادف وجوده قرب مضاربهم، وإذا تمكنوا من الوصول إليه دون أن يُكشف أمرهم يطوحون على حين غرة بأوتاد الخيمة الرئيسة، وفيما يحاول من بوغتوا تخليص أنفسهم من أغطية الخيمة التي هوت عليهم يقوم المهاجمون بسوق الماشية"0
لم تكن شمر تهدف الى القتل او ابادة العدو في مطالباتها المالية أو غزواتها من اجل الغنائم ، بل كانت تستهدف الغنائم والماشية ،وتتجنب العنف أو القتل، فليست المسألة فوضوية ومنفلتة ،بل يحكمها قانون عام معروف لجميع القبائل العربية ، إلا أن هذه المعركة جرت على خلاف القواعد العامة ووقعت لأجل القتل وإبادة الآخر والتنكيل به؛ فما الذي حصل؟! وما أسباب هذا التحول الخطير؟! هذا ما سنحاول توضيحه من خلال إبداء الأسباب الحقيقية لهذه المعركة ، فمن سيتعرف على أسبابها سيكرهها ويتحاشى الحديث عنها كما كرهتها شمر التي تعي وتعرف جيدا أسبابها الحقيقية ، ليس كره هذه المعركة من اجل أن شمر كُسروا فيها كما يظن بعض النوكى، وإنما لان شمر كانت ترى أنها وقعت خطأ وكانت أسبابها الظلم الحقيقي ؛ الذي لم تحسن شمر معالجته وفق العقل والمنطق ، بل وقعت في أخطاء لم تكن تعودت أن تقع في مثلها وهي المكابرة واحتقار الآخر كما سنبين ذلك لاحقا 0
ماهي اسباب معركة الخنيسي اذن وكيف وقعت احداثها:
سأسرد لكم أحداث هذه القصة وأسبابها وكيفية نشوبها والدوافع الحقيقية وراء قيامها ومقتل هذا العدد الكبير من شمر فيها ،
حيث انه وبينما كان رجلان من الويبار( ولقد تعمدتُ عدم ذكر اسميهما لعدم الفائدة) يسيران طلبا للصيد في البرية اذا شاهدا رجلين يمشيان على أقدامهما ومعهما **** يجرانه، فلما دنيا منهما تبين انهما رجلان احدهما كبير في السن يرافقه غلام صغير من أبنائه ، وكان على ال**** ظبيين قاما بصيدهما00 لقد كان الرجلان ينتميان لقبيلة صغيرة من قبائل العراق تدعى(البومتيوت) والتي جرت العادة ان شمر يطلقون عليهم اسم (الشويان) هذا الاسـم يعني (رعاة الشاة) حيث كانت هذه القبائل العراقية كسائر الحاضرة تمتهن رعي الغنم ، بخلاف البدو الرحل الذين يمتلكون الإبل لكثرة ترحالهم طلبا للماء والعشب، فكانوا يطلقون هذه الاسم على اكثر قبائل العراق الحاضرة التي تمتهن رعي الغنم، لقد كانت هذه القبيلة من القبائل العربية الأصيلة المتحضرة والصغيرة التي كانت شمر ترا انه ينطبق عليها قول الشعر( قبيّلةُ لا يغـدرون بذمةٍ == ولايظلمون الناس حبة خردل) ،والمقصود بالظلم هنا هو المغازي كناية على عدم الغزو لضعفها، فلما دنى الرجلان منهما قالا لهما نريد ان تعطياننا من صيدكما ، فقالا على الرحب والسعة لقد والله وطأتم سهلا وطلبت مستطاعاً ، ان هذين الظبيين تكبدنا عناء حتى قمنا بصيدهما ، لكما واحد ولنا الاخر، وقاما بإعطاء الرجلين من شمر احد الظبيين خوفا منهما ودفعا لشرهما ، فأخذه الرجلان وتنحيا بمكان غير بعيد من الوالد وابنه ،وقاما بإشعال نار وشوي الصيد واكله ، فقال احدهما ما رأيك أن نرجع إلى هذين (الشاويين) ونأخذ الضبي الآخر، فنهاه صاحبه وقال لقد قسما صيدهما بيننا ، واكلنا من طعامهما ،وليس من العدل ان نطمع بالاخر، لكنه لم يستمع لنصيحة صاحبه، وقال إنني ذاهب إليهما لأخذه ، فتبعه صاحبه ، فلما قدما إليهما فإذا بالوالد وابنه قد وضعا (عزبتهما) على ال**** استعدادا للرحيل والعودة إلى أهلهما وكان من ضمن ما لديهما بندقية للصيد ( شوزن) قد وضعاها على ظهر ال**** أيضا ، فقال أشقى الرجلين: إلى أين تنويان الذهاب لن تذهبا حتى تعطياننا الضبي الآخر، فقال والد الغلام : لقد قمنا بقسمة صيدنا وأعطيناكم احد الظبيين، ولن نعطيكم الآخر، فابتعدا عن طريقنا ، لكنه قام بإشهار بندقيته عليه وطلب ان يعطيه الصيد وإلا سيقتله، فرفض الرجل إعطائه الصيد فقام بإطلاق النار عليه ليسقط الرجل بدم بارد، فما كان من الغلام عندما شاهد أباه يسقط أمامه إلا إن أسرع إلى ال**** ليثأر لمقتل أبيه ،وما إن اخذ البندقية حتى بادره الآخر بطلقة نارية ليسقط الغلام بعد أبيه، وبعد قتلهما أخذا الصيد وغادرا المكان ، ليبوءا بذنبهما ، إن هذا الظلم العظيم الذي أقدم عليه هذان الرجلان تقشعر منه ابدان العقلاء من الناس، وهو من الظلم الذي لم يكن معروفا عند القبائل العربية أبدا ، ولم تكن شمر لترضى هذا الصنيع بالمرة ، وتعتبره من الغدر والخيانة والطمع القذر، في مقابل الطمع النزيه والنظيف الذي له قواعد وأصوليات ثقافية معروفة للقبائل العربية، كما أنها تراه من الظلم الذي حرمه الله ورسوله،
لقد كان موقع هذه الحادثة بأحد الأودية المتفرعة عن وادي(الهذيل) بمكان غير بعيد من نزل (الدغيرات) في أرض الجزيرة ، لقد كان مقدمهم من نجد حديثا بعد سقوط أمارة الرشيد وتردي الأوضاع السياسية والاجتماعية لشمر، فلقد كان الدغيرات كسائر البادية التي ترى ان في الترحال قوة ذاتية تحميهم من الخضوع ، وانهم كلما ترحلوا استقلوا وحافظوا على استقلالهم، ولقد قال الشاعر البدوي القديم( الشنفري):
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى * وفيها لمن خاف القلى مترحل
وإن كان الترحال في أصله ضرورة معاشيه لطلب الرعي والماء، إلا انه تحول الى عامل سلوكي يعطي المترحلين مزية سلوكية، إضافة الى خاصيته المعاشية ، والأقوياء يترحلون ويجدون الترحال مصدرا أكيداً لتعزيز قوتهم ، كما إن أصحاب النفس المرة- كما سماها الشنفري ـ يجدون في الترحال ملجأ لرفضهم الضيم والهوان:
ولكن نفسا مرة لا تقيم بي * على الضيم إلا ريثما أتحول
وهذه النفس المره هي النفس الأبية الجامحة التي لا تقبل الاستسلام ولا الخضوع، فالترحال وسيلة للاستقلال السياسي وحصانة للقبيلة من الخضوع للسلطة المركزية، بخلاف القبائل المستقرة التي تقبل بالخضوع ، وهذا يتفق مع ماأشار اليه ابن خلدون من ان البداوة تعني الشجاعة في حين أن التمدن يعني الركون، وذلك لان البدوي متأهب للدفاع عن نفسه بما إنه هو الحامي لذاته بينما استغنى الحضري عن ذلك بتركه هذه المهمة للسلطة الحاكمة 0
لقد عثر بعض الرعاة على الرجلين مقتولين ، وتم اخبار الشيخ/ احمد الياور ، الذي بادر الى الذهاب الى مسرح الحادث على سيارته ولم يكن هناك من يملك من شمر والقبائل الأخرى سيارة غيره، حيث كان الناس يتنقلون في ذلك الوقت على (الخيل والجمال) ونزل من سيارته ووقف على جثة الرجلين المقتولين ، ثم ركب سيارته وذهب إلى (الدوح) وتناول القهوة عنده، بحكم انه اصبح قريبا منهم ،واخبرهم ان هناك رجلين مقتولين في بطن الوادي ، يبدوا من هيئتهما أنهما من (الشويان) فقالوا لا علم لنا بذلك ولم نلحظ شيئا، ثم رجع إلى منزله ، لقد اخبر القاتلان قومهما(الويبار) ولم يخفيا خبرهما، وعلم الشيخ احمد الياور بذلك، أما أولياء المقتولين فأخذا يبحثان عن صحابيهما حتى عثروا عليهما مقتولين في بطن الوادي بالقرب من ****هما ، ورأوا اثر السيارة المعروفة أنها للشيخ /احمد الياور وتبعا أثرها حتى وقوفها إلى بيت (الدوح) ومنه إلى منزله، فعلما أن القتلة من شمر0
وبعد أن بدت الأمور واضحة لشمر بمعرفة الفاعلين ، وعلموا ان قبيلة (البو متيوت) تتهمهم بمقتل صاحبيهما ، ذهب بعض وجهاء شمر وعقلائها وشيوخها من عبدة الى الشيخ/ أحمد الياور ، واخبروه بأن هؤلاء القوم يتهمون شمر بالأمر، وان من قتلهم بالفعل هما رجلان من العفاريت، وان الواجب يقتضي ان تذهب شمر (زورة) الى ( البومتيوت) ، إلا أن بعض أشقياء القوم ممن حضروا المجلس عارضوا ما جاء به عقلائهم وقالوا : أتذهب شمر إلى هؤلاء (الشويان) لتطلب منهم العفو؟! اتركوهم فلن تبلغ بهم الجرأة إلى أن يتطاولوا على شمر ،وبناءً على ما أبداه هؤلاء من استخفاف وتهوين للأمر فلم يأبه الشيخ أحمد بهذه الحادثة الجنائية كثيراً لانشغاله بالسياسة ، أما البومتيوت فلما لم يجدوا أن شمر تقيم لهم وزنا واعتبارا ، وأنهم قتلوا صاحبيهما عدواناً وظلما ولم يكلفوا أنفسهم حتى بالاعتذار، فقد عزموا أمرهم على الأخذ بالثأر0
لقد باتت شمر تعرف جيداً من قتل الرجلين وانهما من (الويبار) إلا أن البو متيوت وقع اختيارهم على أن يثأروا لصاحبيهما من( الدغيرات) ، بعد ان طلبوا منهم الرحيل فلم يفعلوا، فاخذوا يخططون للثأر، فقاموا بخطة محكمة قبل أن يبدؤا الهجوم ، لقد قاموا بحفر الخنادق حول قريتهم من جميع جهاتها ونقلوا إليها ما يكفي من الذخيرة والأسلحة والتموين اللازم ، ثم قاموا بإرسال العيون إلى الدغيرات يوميا لمعرفة أوضاعهم، فتبين لهم أن القوم في مأمن من أمرهم وأنهم غير محتاطين أبدا0
إن هذا الاستخفاف من شمر بهذه القبيلة واحتقارهم لها كان خطأً كبيرا ، دفعت شمر ثمنه باهضاً جداً، لقد قتل بسبب هذا الاستخفاف وهذا الكبرياء رجالا عظاما، وشيوخا كبارا،وفرسانا أبطالا، لم يسقط مثله ـ في معركة واحدة ـ في تاريخ شمر قاطبة على مر العصور، فما كان ينبغي أن يستهان بشأن الآخرين أبداً، وما كان ينبغي ان يحتقر القوم ،لان حقران الرجال عاقبته وخيمة جدا0
وفي صباح احد الأيام وبينما كان الدغيرات في بيت ( الدوح) يتناولون القهوة صباحا كما جرت العادة، اذ باغتهم (البو متيوت) بغارة سريعة ومفاجأة بخيولهم وأمطروهم بوابل كثيف من الرصاص ، كان الهجوم منصبا ومكثفا على بيت (الدوح) الذي يتواجد فيه الدغيرات فخرج القوم لصد الهجوم بإطلاق النار من بنادقهم على الفرسان المهاجمين، ليسقط على الفور الشيخ مخلف البخيت الدوح، لقد سمع دوي اطلاق النار/ دحام ابن فلاح الدوح وكان غلاما يافعا لم يخرج الشعر على عارضية ، بينما كان مضطجعاً في بيته وأمه تقوم بترجيل شعره حيث ان له ظفيرتين طويلتين ، فهب على الفور وبدون أن يحمل سلاحا، وركب فرس والده التي تعودت على الكـر والفـر والمطاردة، وأطلقها باتجاه الفرسان الذين فروا فورهجومهم ، لقد لحقت فرسه فارسين من المعتدين ، فلما دنا منهما قام بالقفز من فرسه عليهما ليسقطهما أرضاً، وما إن سقط الثلاثة على الأرض من خيولهم التي كانت مسرعة جداً ،وفي أماكن متفرقة ، حتى انطلق الغلام مسرعا الى احدهما ليأخذ سلاحه ،الا ان الفارس كان ممسكا ببندقيته جيداً فبادر الغلام بطلقة نارية قبل أن يصل إليه ليرديه قتيلاً، ثم ركبا خيلهما وانطلقا، كان هذا العراك مشاهدا من الدغيرات عموما بمكان غير بعيد من البيوت، وما إن ركب القوم خيولهم التي كانت ليست بالقرب منهم حتى كان الأمر منتهياً 0
لقد قامت هذه القبيلة الصغيرة بأخذ الثأر من شمر بالفعل ، وأي ثأر أخذوه، لقد كان ثأراً سميناً ، فلقد والله قتلوا فحلاً من قومه وغلاماً لم يسألوا عن خاله من هو؟!
لقد كان الفحل هو الشيخ مخلف البخيت الدوح ، وأما الغلام فهو ابن أخيه دحاماً، والده الشيخ فلاح الدوح، الفارس الذي لايشق له في المعارك غبارا، ولا يقارع باللقاء له سناناً، بطولاته ومواقفه الكبيرة أكثر من أن تحصر، وأما أخوال الغلام فهم (السعيد) فلقد كان جده لامه الشيخ صنيتان ابن مكازي السعيد ذلك الشيخ الكريم، سليل الرجال العظام ، أباة الضيم، ،فحول الرجال،أهل الكرم والبذل والعطاء، أهل الشجاعة والرأي والحكمة، ، أصحاب المجد والرئاسة والسؤدد ،صانعوا المجد والحسب والعز والشرف للدغيرات خصوصا ولشمر عموما0
لقد كانت هذه الحادثة كارثة بحق، لم تُفِق شمر من هولها ،لقد قامت هذه القبيلة الصغيرة التي لا تراها شمر شيئاً، ولم تحسب لها في يوم حساباً ، والتي تفضل شمر ان تتطلق عليهم اسم( الشويان) للثأر لمقتل صاحبيهما بقتل كبشين من شيوخ عبدة الكبار0
لقد سميت هذه المذبحة بسنة (الهذيل) أو سنة (ذبحة الدوحة) في حساب شمر في أرض العراق0
لقد غضبت شمر بأكملها لهذا التجاسر وهذا التطاول وهذا التحدي من قبيلة صغيرة على قبيلة كشمر لها مكانتها وسمعتها وقوتها ،فقد كانت شمر ترى أن هذا قصاصاً غير عادل ، وتجاوزاً في استيفاء الحق ، وثأراً فيه حيف كبير، أن يقتل برجلين من قبيلة مغمورة كبشين من شمر 0
لقد قام الدغيرات عدة مرات وفي أوقات متفرقة بالعدو على البومتيوت وقتل عدد منهم إلا إن هذا الثأر لم يلجم نار غضبهم، ولم يشف غليلهم ، قال المدير الجنيدي بعد الهذيل وقبل الخنيسي :
يوم ثار القفش غداله كتامه * الهيـافـا نجـزوهـم مـادرينـا
لو تهيا نوبة ياقف عسامـه * اقعدوا (دحام) عشوه السمينا
مما يدل على ان البغض لازال قائما وان نار غضبهم لم تنطفِ بعد ، فشمر يريدون ثأرا سميناً يشف غيض صدورهم 0
الاان البومتيوت ومن معهم اخذوا يردون على الاعتداءات باعتداءات اخرى على شمر فاعتدوا على بعض عشائر شمر وامتنعوا من دفع اجار زروعهم الى ابناء الياور
ومن جهة أخرى فلقد تبنى هذا الأمر الشيخ احمد الياور والشيخ عقاب ابن عجل الذين كانا يريان أن هذه الحادثة تشكل تهديدا لأمن قبيلة شمر، وان أي تهاون في الرد على هذا الأمر من شأنه أن يقلل من مكانة شمر السياسية في ارض العراق بعد سقوط امارة الرشيد في نجد،
لقد أخذ الشيخ عقاب ابن عجل الإذن من الشيخ احمد الياور في أن تثأر شمر لقتلاها فأذن له، فأخذ يعد العدة ويرسم الخطة ويجمع شمر جميعا تحت راية واحدة ، بعد أن ناشد الدغيرات بعدم الاستعجال بارتكاب حماقة الانفراد بأخذ الثأر، خصوصا وان قبيلة (البومتيوت) كانت متحصنة بمتاريس حفروها بشكل محكم حول قريتهم ،وملؤها بالسلاح والعتاد والتموين اللازم، وجمعوا حولهم حلفاء من قبائل العراق
وبعد ما يقارب سنة من حادثة الهذيل وبعد جمع اكبر قدر ممكن من المعلومات التي تفيد ان (البو متيوت) متحصنين جدا ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتركوا هذه المتاريس ،وان هناك مساندة لهم من قبيلة (الجحيش) العراقية، قرر الشيخ عقاب ابن عجل (اخو هيا) وهو صاحب الخبرة والحنكة العسكرية أن تقتحم شمر علي الأعداء متاريسهم على طريقة المفاجأة والمباغتة، وانه ليس هناك خيارا آخر، لقد كان للشيخ احمد الياور رأى في أن تتأخر شمر حتى فصل الربيع ويخرج(البو متيوت) من متاريسهم ، إلا انه وبإلحاح وضغط من الشيخ عقاب الذي كان يرى أن عنصر السرعة مهم في الهجوم لاعتبارات عديدة ، منها انه كان يرى انه لا يمكن أن يترك الاعداء متاريسهم لكونهم متوجسين خيفة من شمر ومحتاطين جدا، وانه يرى أن عنصر كسب الوقت مهم حتى لا يتقوى القوم بجمع التحالفات، ولكونه أكثر ردعا ونكاية للعدو، وكذلك لإرضاء عبدة التي كانت غاضبة وتغلي للأخذ بثأرها، فأعطاه الضوء الأخضر بعد أن سلمه قيادة شمر في هذه المعركة، فتم تحديد اليوم والساعة التي سيهجمون فيها وذلك بإعمال مبدأ المفاجأة والمباغتة للعدو، والخفة والسرعة في انجاز المهمة على أن لا تتجاوز المعركة أربع ساعات، وكان دور الشيخ أحمد هو أن يقدم لهم دعما لوجستيا في حربهم هذه ، وذلك بتأخير تحرك المدرعات الحكومية المسلحة حال استنجاد الأعداء بالحكومة، وتم الاتفاق على هذا النحو، وفي اليوم الموعود خرجت شمر بكل ثقلها وقوتها خروجاً مهيباً تحت بيرق واحد بقيادة الشيخ الكبير والأمير المطاع/ عقاب ابن عجل ،أرجعت لأذهان شمر تلك المعارك التي خاضوها بقيادة ابن أخته الأمير عبد العزيز الرشيد في تأديب من يحاول التطاول على الإمارة الرشيدية، لقد خرجت شمر بعدد كبير جدا يقال انه تجاوز عشرة آلاف مقاتل لسحق هذه القبيلة وتأديبها وردع غيرها من أن تسول لها نفسها للإقدام إلى ما أقدمت علية ، وفي الصباح الباكروعندما حانة ساعة الصفر رفع الجميع أصواتهم بطلب الثأر وانطلقوا انطلاقة واحدة من أعلى سفح وادي الخنيسي نحو القرية في بطن الوادي، والتي كان مقاتلوها يسبرون تحركات شمر، وكانوا على أهبة الاستعداد في متاريسهم وينتظرن مقدمهم ، لقد بدت لهم خيول شمر المغيرة واضحةً من أعلى سفح الوادي فقاموا بصد الهجوم بإطلاق النيران باتجاه فرسان شمر بشكل مكثف ، فحادت فرسان شمر قليلا بمحاذاة شعيب الخنيسي إتقاءً لشراسة النيران المعادية ، فانطلق من بينهم رجل من فرسان شمر وهو (ابن دليل) من الويبار منحدراً من أعلى سفح الوادي باتجاة المتاريس على فرسه (الصفراء) وهو ينادي بأعلى صوته (سناعيس) لتنعطف شمر خلفة وهم يرددون نفس العبارة، واخذ الطرفان بتبادل إطلاق النار، واستمات ( البو متيوت )ومن معهم في الدفاع عن وجودهم، وكانوا يطلقون النار على فرسان شمر المقبلين نحوهم بسرعة هائلة وهم يصوتون بأصوات مخيفة وأهازيج مريعة للأعداء تعودت شمر على إطلاقها أثناء الحروب ، لقد أخذ فرسان شمر يتساقطون قتلى من على ظهور خيولهم المسرعة المتوجهة نحو متاريس الأعداء ،حتى وصلوا الى المتاريس واقتحامها بخيولهم ، لقد ذكر شاعر الدغيرات سلمان الدعيج الفارس(ابن دليل الويباري) أثناء وصفه للمعركة بقوله:
وعليّت يا خطوا الولد يوم مالي * لا يا بعد عفنن يخم الهداليس
قضبوا لهم بطن الشعيب العيالي * كم واحدن ليا طاح ياتيك تنكيس
من دمهم خرب القراح الزلالي * والسيل يدرج فوق رجال مفانيس
لقد كان من ضمن الشخصيات البارزة التي شاركت في هذه المعركة الشيخ النوري الفيصل الجرباء والذي ابدى شجاعة منقطعة النظير في الاستبسال في القتال والاقدام الجرئ والشجاع ، فلقد كان ممتطيا صهوة جواده مقدما وهو ينادي بأعلى صوته يشجع شمر على الإقدام مستهيناً برصاص الأعداء ، وكان الغلمان المشاركين في المعركة يسيرون خلفه يتدرعون به عن النيران المعادية، وكان مرتديا ثوبا عريضا له أكمام واسعة (المرودن) ولقد حدثني من أثق به قال انه بينما كان يرفع يديه وهو ينادي بأعلى صوته مشجعا لفرسان شمر( الطنايا وين الطنايا00 فشقهم بارد) إذ خرقت احد أكمامه طلقة أشعلت كمه فقام بإطفائه بيده الأخرى وهو يكرر عباراته دون توقف ، وعند دخول شمر المتاريس أخذوا يتهبدونهم بخيولهم وبالبنادق رميا بالرصاص حتى قتلوا أكثر من في المتاريس وفرت فلول البقية إلى الدور، وأخذت شمر تتعقبهم من دار إلى دار وتقتل كل من تجده في الدور،وتحرّق على أهل الدور بيوتهم في طريقة هي من أبشع أنواع التشفي والانتقام ، لقد كانت شمر غاضبة جدا وخاصة عبدة التي كانت تقتل لأجل التشفي والانتقام ، لقد كان الثأر والانتقام والقتل والتشفي هو المسيطر في هذه الحرب ، على خلاف القواعد العامة التي كانت شمر ملتزمة بها في كل حروبها ، لقد كان الغزو الذي اعتادته شمر هو الغزو من اجل الحصول على الغنائم، ولم يكن فورة منفلتة من أعمال العنف والقتل - كما حصل في هذه المعركة - بل كانت له استراتيجيات وقواعد محددة ، ويمكن تلخيص هذه القواعد العامة على النحو الاتي:
أولا: ان الهدف من الهجوم ليس إبادة العدو بل الاستيلاء على الغنائم0
ثانيا: كانت النساء والأطفال والعبيد والرعاة بمنأى من الهجوم0
ثالثا: كان يبقى على حياة المدافع الذي يستسلم، وكان من المعيب خرق هذه القاعدة0
رابعا، كانت الفرق المهاجمة تتجنب قتل الدخيل، أي من وضعوا أنفسهم في حماية العشيرة، وبالتالي إذا جرى الاستيلاء على ممتلكاتهم بطريق الخطأ، فإنهم يستطيعون المطالبة باستردادها من المجموعة المغيرة0
ومن هذه القواعد كلها ربما كان اجتناب قتل العدو هو القاعدة التي تُحتَرَم أكثر من سواها لصعوبة السيطرة على العواقب الناجمة عن ذلك؛ إذ كانت أهمية الالتزام بالثأر تقوم بدور الرادع الذي يمنع تصاعد العمليات العسكرية الدامية0
ومن خلال التعرف على القواعد العامة للقتال عند شمر يتبين لنا أن هذه المعركة جرت على خلاف قواعد القتال المعروفة عندهم ، بل كانت قائمة أصلا طلبا للثأر ، ولهذا نجد انه حصلت فيها انتهاكات كبيرة وكثيرة من شمر ضد أعدائهم0
إن صنيع (عبده) اللامحدود واللامعقول في استيفاء القصاص جعل (الخرصة) من شمر يرفعون أيديهم وينعطفون عن الدور إلى أماكن الحلال والغنائم وتركوا (عبده) تصفي حسابها في تعقب مقاتلي البومتيوت مما جعل سلمان الدعيج يشاره (الخرصة) بعد انكشاف المعركة بقوله:
الصبح يزمي جمعنا له ظلالي * وانتم تيامن جمعكم ليه يا منيس
انتم نويتوا قريتن بـه حلالـي * وحنـا نوينا ذبحهم بالمتاريس
إن الشيخ احمد الياور لم ينجح في تأخير المسلحات الحكومية المدعمة بالأسلحة الرشاشة الثقيلة الا ساعتين فقط عن وقت وصولها المعتاد ، كما ان سكرة شمر في أعمال التشفي والانتقام وتعقب المقاتلين وتحريق الدور وقتل كل من في طريقهم أبطأ في خروجهم من القرية، مما جعلهم يقعون في محرقة ومذبحة عظيمة ، لقد قامت المسلحات الحكومية بتطويق المكان كاملاً ليقع مقاتلوا شمر بين المطرقة والسندان، بين تطويق الآليات الحكومية من جهة، ومقاومة من بقي من فلول (البومتيوت) ومن معهم من (الجحيش) وبعض القبائل العراقية الاخرى من داخل الدور من جهة أخرى، لقد فتحت الآليات الحكومية على فرسان شمر الرشاشات الآلية الثقيلة ، حاول شمر أن يقاوموا مصدر النيران لكن اسلحتهم التقليدية البسيطة لا تستطيع مجابهة الأسلحة الآلية الرشاشة الثقيلة ، كما أن أصحاب القرية استعادوا قواهم واخذوا بالمقاومة وإطلاق النيران على شمر من داخل الدور، لقد اخذ فرسان شمر يتساقطون من ظهور خيولهم قتلى وجرحى بشكل جماعي كبير، فانسحبوا من ساحة المعركة،في وسط ماطر من النيران، وكان كلما تنتخي من شمر سربة طالبة المساعدة تنعطف عليها سربة من الفرسان كما تنعطف البقر على أولادها في وسط سماء من النيران، رحمة وحمية وشفقة، وكلما سقط فارس جريحا ينعطف عليه من الفرسان من يحمله ، فلله درّ شمـّر ما أقسـى قلوبهم وما ارحمها، ولله درهم ما أشد بأسهم في القتال وما أرحمهم بينهم ، لقد أبدى في هذه الأثناء أربعة أخوة من الجارالله من الجربان (اخوان عمشى) شجاعة وفروسية وإقداما منقطع النظير، قال سلمان الدعيج:
عيال سنجر مرخصين العماري * واخوات عمشى كاسبين النواميس
ولقد سقطوا جميعا في هذه المعركة ، كما سقط أربعة عشر شيخاً من الجربان ، وهو عدد ضخم لم يحدث ان سقط مثلة من الشيوخ في معركة واحدة ، كما أظهرالويبار( الصفران) مقاومة وقتالا عنيفا وشجاعة ادهشت الجميع،ولقد كانوا يسابقون (الدغيرات) في التقدم في اقتحام المتاريس ودخول الدور وتحريقها وقتل من فيها، ولقد كان عدد الذين سقطوا قتلى أكثر من ثمانين رجلا منهم ،منهم الشيخ فارس السوقي ، لقد وصل عدد الذين سقطوا قتلى من شمر بسبب المدرعات المسلحة الحكومية أكثر من مائتين رجل والجرحى كثير جدا، لقد كُسـِرت شمر في هذه المعركة انكسارا ساحقا وسط مذبحة عظيمة راح ضحيتها شيوخا كراما وفرسانا أبطالا00
من خلال هذا العرض يتضح لكم ملابسات واسباب هذه المعركة التي قامت لأخذ الثأر وطلباً للانتقام والتشفي:
وحنا خذينا ثار الأول وتالي * بإيماننا توضح مثل الفوانيس
وكانت شرارتها الأولى ظلماً لم تحسن شمر التعامل معه او معالجته ، مما جعل شمر تكره هذه المعركة لأنها قامت على ظلم قذر(قتل الشاويين) تبعه حرب قامت لأجل القتل والتنكيل والإبادة على خلاف القواعد العامة للحروب التي اعتادت شمر تطبيقها، نتج عنه مذبحة عظيمة ومقتلة كبيرة راح ضحيتها خلقا كثيرا من الطرفين0
ولقد قيلت في هذه المعركة الكثير من الملاحم الشعرية ، لم تحرص في نظري شمر على ترديدها او حفظها لما سبق ذكره من كره لهذه المعركة،ولما تضمنته بعضها من بعض اللوم لبعضهم، والتي لم تخلو منها قصيدة الغيثي غير أنني شرحت مقصده في بعض الأبيات التي أثارت انتقادا، قال سلمان الدعيج:
يالله يا منشي صباح الهلالي * الكلمة اللي نذكره تلعن ابليس
الصبح يزمي جمعنا له ظلالي * وانتم تيامن جمعكم ليه يا منيس
انتم نويتوا قريتن به حـلالـي * وحنا نوينا ذبحهم بالمتاريس
وعليّت يا خطوا الولد يوم مالي * لا يا بعد عفنن يخم الهداليس
قضبوا لهم بطن الشعيب العيالي * كم واحدن ليا طاح ياتيك تنكيس
من دمهم خرب القراح الزلالي * والسيل يدرج فوق رجالن مفانيس
عيال سنجر مرخصين العماري * واخوات عمشى كاسبين النواميس
وحنا خذينا ثار الاول وتالي * بايماننا توضح مثل الفوانيس
راحت عليهم ضابطين الحوالي * والفعل فعل الله ثم السناعيس
وقال الشاعر الجعفري وهي أيضا تحتوي على اللوم والانتقاد:
يالله اني طالبك وانت الرقيبه * نستعينك بالسعد للمقبلاتي
كتوا الصفران مع مجنب شعيبه * واليمن يبرالهم هرجن ثباتي
الخليبص زبن من قصر هليبه * وردوهن فوق حيل مكرماتي
والهيافا مايحملون الغليبه * ما تونوا عن جموع موقفاتي
جوكم الي كل ابوهم من صليبه * فعل أهلهم بالليال الماضياتي
الخنيسي قبلنا كلن يهيبه * مايرومه واحدن يبغي الحياتي
كم صبي عندنا يفخر بطيبه * ما يبقي للمنيه والحياتي
الفخر لعقاب قواد الحريبه * خلف شمر يعتفر مثل الزناتي
ياصفينا اصفا من صافي حليبه * ويازعلنا ما نحمل العايزاتي
ليتكن يالبيض في راس الجذيبه * تنطرن بعونكن هوش العصاتي
اترك اللي قاعدن محدن دريبه * عاف ربعه وانحدر يم الفراتي
الردي ولد الردي لأتعتتني به * الردي ما ينفعك باللازماتي
هجوا الجيشان مع غربي شعيبه * يم ابن داوود يذكر له شتاتي
ديب ياللي بالخلا نسمع طنيبه * العشا بخنيس وقصور البناتي
والعهدة على الراوي
هذا وهناك الكثير من القصائد تجنبتها شمر لما سبق بيانه و لتضمنها لبعض اللوم والانتقاد
هذا وأترك المجال للاخوة القراء لإبداء ملاحظاتهم ونقدهم البناء الهادف والنقد الموضوعي البعيد عن النقد التأثري والشخصي الذي لايخدم الحقائق التاريخية 0
والحدلله الذي بنعمته تتم الصالحات
وكتبه/ اخو كحلة
المفضلات