بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم ، أظهر العجائب في مصنوعاته ، ودل على عظمته بمخلوقاته ، فأمر بالتدبر والنظر في أرضه وسماواته ، عظم حلمه بنا فستر، وبسط يده بالعطاء فأكثر، أطاعه الطائعون فشكر، وتاب إليه المذنبون فغفر. أحمده سبحانه وأشكره، نعمه تترى ، وفضله لا يحصى، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أصدق عباد الله شكراً، وأعظمهم لربهم ذكراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء وأصحابه الأصفياء والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله، فتقوى اللهِ وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين، وهي مستمسك الصالحين، وسبيل النجاة في الدنيا ويومِ الدين.
عباد الله / رأى عمر بن عبد العزيز رحمه الله قومًا في جنازة قد هربوا من حرالشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فأبكاه هذا المنظر وحال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة فأنشد قائلاً:
من كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهته *** أو الغبارُ يخافُ الشَيـنَ والشَعثـا
ويألفُ الظـــلَّ كي تبقى بشاشته *** فسوفَ يسكنُ يومـًا راغمًا جدثًا
في ظــــل مَقْفَرَةٍ غبراءَ مظلمةٍ *** يُطيلُ تحت الثرى في غمها اللبثـا
تجهـزي بجَهَــازٍ تبلُغيـن بــه ** * يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثـا
عباد الله / نعيش هذه الأيام موعظةً بليغة ودروسًا عظيمة، يشهدها الأعمى والبصير، ويدركها الأصم والسميع، لكنها لا تُؤتي أُكلها إلاّ حين تصادف من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
نعيش هذه الأيام مع واعظ الصيف، فهل أصغت قلوبنا لموعظته؟! وهل وعينا لدروسه و عبره.
روى ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نَفَسين: نَفَسٌ في الشتاء، ونَفَسٌ في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها)) وروى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ـ أي: أخروها حتى يبرد الجوّ ـ، فإن شدة الحر من فيح جهنم))
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم))، قالوا: والله إن كانت لكافية! قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها)).
فحقٌ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها؟
يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟! روى الإمام مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: ((تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا))، قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه.
تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون- ياعباد الله؟!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
عباد الله / لئن كنا نتقي الحرَّ بأجهزة التكييف والماء البارد والسفر إلى المصائف، وكل هذه نعمٌ تستوجب الشكر، فهل تأملنا وتفكرنا كيف نتقي حرَّ ذلك الموقف يوم الحساب ؟ كيف ندفع لفح وسموم حر جهنم عن أجسادنا الضعيفة ووجوهنا المنعمة؟
لنغتنم صيفنا بالطاعات، ولنستزد فيه من الحسنات، فالأجر يعظُم مع المشقة، وعندالصباح يحمد القوم السُرى. حذار حذار أن تُقعدنا عن المبادرة إلى الخير، نفوسٌ تعافالحرَّ، وتحبُ الراحة، فنندم يوم لا ينفع الندم
لقد تناغمت أجزاءالكون كلها في منظومة واحدة، تُعلن الوحدانية لمن خلقها، تدين بالطاعة لمن فطرها،تسبح ربها، فلماذا تلكأ الإنسان عن الاستجابة؟! لماذا يخالف الكونَ كلَّه ويتمردوهو المخلوق الضعيف، فيعصي العظيم الجليل سبحانه، يتجرأ على ربه، وهو ذرة صغيرة فيهذا الملكوت الطائع؟! ليتنا نلبي طائعين منيبين مخبتين، ليتنا نَقدُر الله حقَقدره.
تفر من الهجير وتتقيه *** فهلا من جهنم قد فررتا
وتشفق للمصر على الخطايا *** وترحمه ونفسك ما رحمتا
فمن الأسباب في دفع حر ذلك الموقف يوم الحساب مارواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه "
عباد الله / وإذا تذكرنا حر يوم النشور ، فلا ننسى فضل الصدقة ، وظلها الوارف لأصحابها في ذلك اليوم العظيم الذي تدنو فيه الشمس من الخلائق .
فقد روى الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في وصححه الألباني عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل إمرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس أو قال حتى يحكم بين الناس .
وعند ابن خزيمة أن مرثد بن عبد الله كان أول أهل مصر يروح إلى المسجد ، يقول يزيد : وما رأيته داخلا المسجد قط إلا وفي كمه صدقة ، إما دراهم ، وإما خبز ، وإما قمح ، قال: حتى ربما رأيت البصل يحمله . قال: فأقول يا أبا الخير إن هذا ينتن ثيابك . فيقول: يا ابن أبي حبيب ، أما إني لم أجد في البيت شيئا أتصدق به غيره ، إنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ظل المؤمن يوم القيامة صدقته.
ألا فلنغتنم صيفنا بالطاعات، ولنستزد فيه من الحسنات، فالأجر يعظُم مع المشقة، وعند الصباح يحمد القوم السُرى. حذار حذار أن تُقعدنا عن المبادرة إلى الخير، نفوسٌ تعاف الحرَّ، وتحبُ الراحة، فنندم يوم لا ينفع الندم . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ...
أما بعد .. يقف بنا واعظ الصيف في موعظته مع ذلك الخلق العجيب وتلك الآية العظيمة . الشمس بحجمها الهائل وحرارتها المحرقة ولهبها المتوهج تسجد بين يدي ربها مذعنة ذليلة، فقد روى البخاري عن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله في المسجد حين غربت الشمس فقال: ((يا أبا ذر، أتدري أين تذهب الشمس؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها، ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )).
لقد استجاب الكون كله لله، الأرض والسماء، النجوم والأشجار، الجبال والبحار، الزروع والأنهار، الكل لبّى مطيعًا مذعنًا خاشعًا خائفًا مسبحًا لله (( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ )) (( أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ )) (( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وكثير حق عليه العذاب ))
سبحان الله .. كل أجزاء الكون تُعلن الوحدانية لمن خلقها، وتدين بالطاعة لمن فطرها، فلماذا يتلكأ الإنسان عن الاستجابة؟! لماذا يتمرد وهو المخلوق الضعيف، فيعصي العظيم الجليل سبحانه .
فاتقوا الله عباد الله ، وبادروا الآجال بالأعمال ، وقدموا لأنفسكم ، واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين.
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...
(((( أنظر الملف في الأسفل ))))
المفضلات