السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاتة أتمنى أن أفيدكم ونفسي بهذا الدرر للشيخ ابن عثيمين عليه رحمة الله
1ـ سئل الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ : كيف تدنو الشمس يوم القيامة من الخلائق مقدار ميل ولا تحرقهم ، وهي لو دنت عما هي عليه الآن بمقدار شبر واحد لاحترقت الأرض ؟
فأجاب بقوله : إن وظيفة المؤمن ـ وهذه قاعدة يجب أن تبنى عليها عقيدتنا ـ فيما ورد من أخبار الغيب القبول والسليم ، وأن لا يسأل عن كيف ؟ ولم ؟ لأن هذا أمر فوق ما تتصوره أنت ، فالواجب عليك أن تقبل وتسلم وتقول آمنا وصدقنا ، آمنا بأن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل ، وما زاد على ذلك من الإيرادات فهو من البدع ، ولهذا لما سئل الإمام مالك ـ رحمه الله ـ عن استواء الله كيف استوى ؟ قال : " السؤال عنه بدعة ".. هكذا أيضـًا كل أمور الغيب السؤال عنها بدعة وموقف الإنسان منها القبول والتسليم .
جواب الشق الثاني بالنسبة لدنو الشمس من الخلائق يوم القيامة فإننا نقول :
إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا عى الصفة التي عليها في الدنيا من النقص وعدم التحمل ، بل هي تبعث بعثـًا كاملاً تامـًا ، ولهذا يقف الناس يوم القيامة يومـًا مقداره خمسون ألف سنة ، لا يأكلون ولا يشربون ، وهذا أمر لا يحتمل في الدنيا ، فتدنوا الشمس منهم وأجسامهم قد أعطيت من القوة ما يتحمل دنوها ، ومن ذلك ما ذكرناه من الوقوف خمسين ألف سنة لا يحتاجون إلى طعام ولا شراب ، فالأجسام يوم القيامة لها شأن آخر غير شأنها في هذه الدنيا .
ــــــــــــــــــــ
2- سئل فضيلة الشيخ : قلتم في فتوى سابقة إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا على الصفة الت هي عليها في الدنيا ، والله عز وجل يقول : (كما بدأكم تعودون)(الأعراف/29) . فنأمل من فضيلتكم توضيح ذلك ؟
فأجاب فضيلته : هذا لا يشكل على ما قلنا ؛ لأن المراد بقوله ( كما بدأكم تعودون) من حيث الخلق ، فهو كقوله : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه)، المعنى أنه كما بدأ خلقكم وقدر عليه فإنكم تعودون كذلك بقدرة الله عز وجل .
ــــــــــــــــــــ
3- سئل فضيلة الشيخ : كيف نجمع بين قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم : (( من نوقش الحساب عُذب))(رواه البخاري من حديث عائشة) ومناقشة المؤمن في وله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول : أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم أي رب ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأي في نفسه أنه هلك قال : سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته))(الحديث رواه البخاري) ؟
فأجاب – رحمه الله – بقوله : ليس في هذا إشكال ؛ لأن المناقشة معناها أن يحاسب فيطالب بهذه النعم التي أعطاه الله إياها ؛ لأن الحساب الذي فيه المناقشة معناه أنك كما تأخذ تعطي ، ولكن حساب الله لعبده المؤمن يوم القيامة ليس على هذا الوجه ، بل إنهمجرد فضل من الله تعالى إذا قرره بذنوبه وأقر واعترف قال : " سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم " ، وكلمة " نوقش " تدل على هذا ؛ لأن المناقشة الأخذ والرد في الشيء والبحث على دقيقه وجليله ، وهذا لا يكون بالنسبة لله عز وجل مع عبده المؤمن ، بل إن الله تعالى يجعل الحساب للمؤمن مبنيـًا على الفضل والإحسان لا على المناقشة والأخذ بالعدل .
ــــــــــــــــــــ
4_ سئل فضيلة الشيخ ـ رحمه الله ـ كيف يحاسب الكافر يوم القيامة وهو غير مطالب بالتكاليف الشرعية ؟
فأجاب بقوله : هذا السؤال مبن على فهم ليس بصحيح ، فإن الكافر مطالب بما يطالب به المؤمن ، لكنه غير ملزم به في الدنيا ، ويدل على أنه مطالب قوله تعالى: (إلا أصحاب اليمين * في جناتٍ يتساءلون عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين) ، فلولا أنهم عوقبوا بترك الصلاة ، وترك إطعام المساكين ما ذكروه؛ لأن ذكره في هذه الحال لا فائدة منه، وذلك دليل على أنهم يعاقبون على فروع الإسلام، وكما أن هذا هو مقتضى الأثر فهو أيضـًا مقتضى النظر ، فإذا كان الله تعالى يعاقب عبدهالمؤمن على ما أخل به من واجب في دينه فكيف لا يعاقب الكافر ؟ بل إني أزيدك أن الكافر يعاقب على كل ما أنعم الله به عليه من طعام وشراب وغيره ، قال تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(المائدة:93) ، فمنطوق الآية رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموه ، ومفهومها وقوع الجناح على الكافرين فيما طعموه ، وكذلك قوله تعالى : (قُلْمَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(الأعراف: 32) .. فإن قوله : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) دليل على أن غير المؤمن ليس له حق في أن يستمتع بها في الدنيا ، أقول ليس له حق شرعي ، أما الحق بالنظر إلى الأمر الكوني ـ وهو أن الله سبحانه وتعالى خلقها وانتفع بها هذا الكافر ـ فهذا أمر لا يمكن إنكاره ، فهذا دليل على أن الكافر يحاسب حتى على ما أكل من الباحات ، وما لبس ، وكما أن هذا مقتضى الأثر فإنه مقتضى النظر ، إذ كيف يحق لهذا الكافر العاصي لله الذي لا يؤمن به كيف يحق له عقلاً أن يستمتع بما خلقه الله عز وجل ، وما أنعم الله به على عباده ، وإذا تبين لك هذا فإن الكافر يحاسب يوم القيامة على عمله ، ولكن حساب الكافر يوم القيامة ليس كحساب المؤمن ؛ لأن المؤمن يحاسب حسابـًا يسيرًا يخلو به الرب عز وجل ويقرره بذنوبه حتى يعترف ، ثم يقول له سبحانه وتعالى : " قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم " ، أما الكافر والعياذ بالله فإن حسابه أن يقرر بذنوبه ويخزى ها على رؤوس الأشهاد : (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(هود: 18) .
ــــــــــــــــــــ
5_ وسئل فضيلة الشيخ : هل يوم الحساب يوم واحد ؟
فأجاب قائلاً : يوم الحساب يوم واحد ولكنه يوم مقداره خمسون ألف سنة، كما قال تعالى : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَسَنَةٍ)(المعارج/1 - 4) أي أن هذا العذاب يقع للكافرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار وأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه ، وجبينه ، وظهره ، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد )) ، وهذا اليوم الطويل هو يوم عسير على الكافرين كما قال تعالى : (وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً)(الفرقان: 2) ، وقال تعالى : (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)(المدثر: 9 ، 10) ، ومفهوم هاتين الآيتين أنه على المؤمن يسير وهو كذلك ، فهذا اليوم الطويل بما فيه من الأهوال والأشياء العظيمة ييسره الله تعالى على المؤمن ، ويكون عسيرًا على الكافر ، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإخواني المسلمين ممن يسره الله عليهم يوم القيامة .
والتفكير والتعمق في مثل هذه الأمور الغيبية هو من التنطع الذي قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه : (( هلك المتنطعون ، هلك المتنطعون ، هلك المتنطعون)) وويفة الإنسان في هذه الأمور الغيبية التسليم وأخذ الأمور على ظاهر معناها دون أن يتعمق أو يحاول القياس بينها وبين الأمور في الدنيا ، فإن أمور الآخرة ليست كأمور الدنيا ، وإن كانت تشبهها في أصل المعنى وتشاركها في ذلك ، لكن بينهما فرق عظيم ، وأضرب لك مثلاً بما ذكره الله سبحانه وتعالى في الجنة من النخل ، والرمان ، والفاكهة، ولحم الطير ، والعسل ، والماء ، واللبن ، والخمر ، وما أشبه ذلك مع قوله عز وجل : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(السجدة:17) ، ووله في الحديث القدسي : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " فهذه الأسماء التي لها مسميات سميت بها في هذه الدنيا لا تعني أن المسمى كالمسمى ، وإن اشتركا في الاسم وفي أصل المعنى ، فكل الأمور الغيبية التي تشارك ما يشاهد في الدنيا في أصل المعنى لا تكون مماثلة له في الحقيقة ، فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذه القاعدة وأن يأخذ أمور الغيب بالتسليم على ما يقتضيه ظاهرها من المعنى وألا يحاول شيئـًا وراء ذلك .
ولهذا لما سئل الإمام مالك ـ رحمه الله ـ عن قول الله تعالى : (الرَّحَْنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(طـه:5) كيف استوى ؟ أطرق ـ رحمه الله ـ برأسه حتى علاه الرحضاء ـ أي العرق ـ وصار يتصبب عرقـًا ، وذلك لعظم السؤال في نفسه ، ثم رفع رأسه وقال قولته الشهيرة التي كانت ميزانـًا لجميع ما وصف الله به نفسه قال ـ رحمه الله ـ : " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " اهـ .
فالسؤال المتعمق في مثل هذه الأمور بدعة؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهم أشد منا حرصـًا على العلم وعلى الخير لم يسألوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل هذه الأسئلة وكى بهم قدوة ، وما قلته الآن بالنسبة لليوم الآخر يجرى بالنسبة لصفات الله عز وجل ، التي وصف بها نفسه من العلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والكلام ، وغير ذلك ، فإن مسميات هذه الألفاظ بالنسبة إلى الله عز وجل لا يماثلها شيء مما يشاركها في هذا الاسم بالنسبة للإنسان ، فكل صفة فإنها تابعة لموصوفها فكما أن الله سبحانه وتعالى لا مثيل له في ذاته فلا مثيل له في صفاته .
وخلاصة الجواب : أن اليوم الآخر يوم واحد ، وأنه عسير على الكافرين ويسير على المؤمنين ، وأن ما ورد فيه من أنواع الثواب والعقاب أمر لا يدرك كنههفي هذه الحياة الدنيا وإن كان أصل المعنى فيه معلومـًا لنا في هذه الحياة الدنيا .
\=\=\=\=\=\=\=\=\=\=\=\=\=\=\=\=\=\=
منقول للفائده
المفضلات