من يصنع الآخر : القصيدة أم الشاعر ؟؟
الشاعر هو من صنع القصيدة ، فهو من اختار أدوات بنائها المادية ، وهو من استغرق في التفكير في تسلسلها الفكري ، وحبكتها الدرامية ، وهو من اختار المفردات لها ، فهو شاعر بدونها ، وكان بإمكانها صنع غيرها ، أو صنعها بصورة مختلفة ...
القصيدة لا تصنع الشاعر ، ولكنها تحقق له الآتي :
• تنفيس مشاعره المكبوتة ، واستظهار حالته الشعورية ، واستنطاق خفاياه النفسية .
• تدربه على صنع المعنى المرتبط بالحدث ، بأدوات مخصوصة ، وفق آليات وضوابط متفق عليها ، ونقد الأداء وتحسينه .
• تحقيق مفهوم الاتصال الإنساني بينه وبين جمهور الشعر ، أو جمهور القضية التي تناولها النص الشعري .
• الرصيد الكمي – في الحدود الدنيا - ووفرة الإنتاج الأدبي .
متى تكتب القصيدة ؟
القصيدة وليدة الموقف ، تأتي متى ما أراد راسمها إطلاق قنبلة من غضب أو حنين !!
• تذكرت محبوبا غائبا فآثرت تدوين ألمي فراقه ببيت أو ببيتين !!
• حدثت خصومة بيني وبين عزيز ، فتنفست الصعداء من خلال نص شعري !!
• غلبني التفكير في أموري النفسية ، فهمست لذاتي شعرا !!
وهكذا ...
ولكن ما تجب الإشارة إليه ، أن الحدث تصاحبه ولادة النص دون أن يكون هناك ما يلزم باكتمال نموها !!
كتبت بداية قصيدة في السيارة ، وكتبت أخرى كاملة أثناء تأديتي لاختبار في الجامعة !!
العلاقة بين الجمهور والشاعر :
هناك مسألة يجب أن نتوقف عندها : هل نحن فعلا جمهور شعر أم أننا جمهور شاعر ؟!
الوضع مختلف تماما ، فجمهور الشعر هو جمهور حالم نخبوي يلتزم بالبحث عن النصث الذي يلتزم شاعره بأدبيات الصنع المتقن والمقنن ، وهو هنا - أي هذا الجمهور - يقرأ النص ثم يقرأ اسم الشاعر ، لعله يجد عند الشاعر ذاته لاحقا ما قد يسد جوعة للقراءة الماتعة !
أما جمهور الشاعر فهو جمهور فيه نوع من العصبية ، يبحث عن الشاعر لا شعره ، حتى وإن قال أحدهم : " سأقرأ لفلان ولا يهمني لذاته " ، فهو - أي هذا القارئ المرتبط بالشاعر لا شعره - قد أعد ردا مسبقا قبل قراءة القصيدة ، وهو رد لا ينتمي إلا للمدح الخالص المخلص !!
ونحن الآن نعيش في زمان يكاد فيه أن يكون لكل عربي شاعر !!
المشكلة ليست في أن الكل يريد كتابة الشعر ، إنما هي الرغبة الجامحة لتصوير الحس النفسي والأسى الذاتي ، ولا أسهل من الشعر ولا أشهر !!
من هذا المنطلق تكون علاقة الشاعر مع جمهوره على نمطين :
1) نمط الاستسلام المرتبط بفائدة الكم : من خلال إلزام الشاعر شعره بصورة القبول الأزلي ، للحفاظ على كم المتبعة .
2) نمط التمسك بالصورة الذاتية ، وتأمل بقاء القلة الموضوعية متابعة للشاعر .
الجمهور يخدم الشاعر ، والشاعر يروي ظمأ الجمهور المتعطش !!
الإعلام والشعر :
الإعلام وسيلة تضمن انتقال الأثر !!
ولا يعني هذا الرضا التام عن سلوك قنوات الشعر التلفازية ، فنحن لا نبحث عن مفهوم " كم " ، ولكننا نسعى لضمان مفهوم " كيف " ، فالأجدر بنا البحث عن الجودة لا الكثرة ...
لماذا لا نشاهد على قنوات الشعر :
• برامج تناقش قوافي الشعر وأوزانه ؟
• برامج تناقش البناءات الدرامية للنص ، وترابط السياقات الفكرية ، وألوان التصوير البيانية والبديعية ، وملامح المعاني التي تتضمنها النصوص ( علوم البلاغة ) ؟
• برامج تحاور الأدباء الثقات ؟
• برامج تتعرض للموروث بلا عصبية وبلا تحيز ؟
• برامج تنظم مسابقات لا تعتمد على المادة ؟
• ... إلخ
الشاعر والبناء الذاتي :
سأنطلق هنا ، من تصور يحاول التفريق بين من رأى الشعر موروثا ، ومن رآه مكتسبا ..
( 1 ) يرى علماء النفس خاصة المعتمين بالقياسات المعرفية ومنظري الذكاء أن الشعر صور من صور الذكاء اللفظي ...
وأنا هنا سأسأل : هل الذكاء مكتسب أم مورث ؟
( 2 )ثم هل كلمة " موهبة " تدل على الوراثة أم الاكتساب ؟!
لاحظ أن أصلها اللغوي الفعل الثلاثي " وهب " !!
( 3 )أرى أن الشعر مكتسب أكثر من كونه وراثة ، وهذا الحكم لا ينفي التصاقه بالعامل المورث ولكن على نطاق ضيق ...
( 4 )من رأى أن الشعر مورث نسي أن الشاعر قد يكون تأثر بمعايشة بيئة المعيشة ومن فيها من شعراء فتأثر بهم ...
( 5 ) المورث لا ذنب لك في سوئه ، ولا أجر لك في حسنه !!فأنت لم تعمل لأجله ولا ضده !!
( 6 )الشعر صورة من التعبير ، في صورة لفظية ، وهو هنا دال على ثقافة الشاعر ورأيه في الحياة والموجودات من حوله ، وهو مؤشر على الاكتساب المعرفي ، والتطور السلوكي ، والضد بالضد ...
فكيف يكون مورثا فقط ؟!
( 7 )لا بد من الممارسات التالية لتطوير الشاعرية :
* تلاوة القرآن الكريم . ومدارسة هدي نبيه صلى الله عليه وسلم .
* مطالعة ما يرتبط ارتباطا مباشرا بالشعر ، كدراسة علمي العروض والقافية ، وألوان البلاغة ، وعلوم اللغة الأخرى كالنحو والصرف والإملاء ، كون الشعر صورة من صور الكتابة اللغوية ، ومراجعة القاموس اللغوي باستمرار .
* تدارس الفنون والمظاهر العامة والمعاشة تنمية للثقافة وتحسينا من مستوى التأمل في القيم والأفكار .
* قراءة الشعر بكثرة .
منتديات الشعر الإلكترونية :
لا شك في أن قنوات الاتصال الإلكترونية قد وفرت للشعراء ميزة التواصل التقني مع جمهور كبير ، وأرى أن هذا قد خدم الشاعر والشعر عموما في النقاط الرئيسة التالية :
• ممارسة سلوك دال على المواكبة الجادة لمعطيات عصر التقانة .
• استظهار الإبداع الفني في تنسيق النص الشعري ، وإظهاره بصورة أجمل .
• الاتصال مع شريحة كبيرة مع الجمهور .
• التنوع في ممارسات الاتصال ما بين الشاعر وجمهوره ، بتقديم النصوص مقروءة ومسموعة ومرئية .
• تدني مستوى المحسوبية ، على الضد من بعض الوسائل الأخرى كمجلات الشعر وصفحاتها الشعبية ، فكل من أراد المشاركة سيشارك ، وإن كانت هناك مواقع أوقفت التسجيل إلا بموافقة إدارية .
• ظهور ممارسات نقدية جادة .
همسات محب :
هناك أمور أخرى ، خاصة بثقافة الاتصال مع الآخر ، وهي :
• قدّم آراء تثق بها .
• احترم جمهورك ، ووفّق بين أدبياتك الكتابية ، ومستواه المعرفي وقيمه الخلقية .
• احترم ذاتك ، ولا تكن همومك منصبة في الإضحاك والإمتاع قليل النفع .
• كن منصفا لذاتك وأنت تتحدث عنها !!
• ابتعد عن الإساءة للآخر ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) .
• انسب عدم قبول بعضهم لفكرك إلى مسألة تمايز العقول والثقافات ، دون أن يعني ذلك أنك لا ترى السوء فيما تقدم .
• واكب أحداث أمتك : آلامها وآمالها !!
• لا تجعل شعرك غاية لذاتها ، ولا تجعل من إبداعك الأدبي وسيلة هدفها تحقيق الشهرة ، فأنت صاحب رسالة سامية في مجتمعك ، وناقل لفكرك وتجاربك في الحياة .
مداد أخيكم :
هلال بن مزعل العنزي
عضو هيئة التدريس بجامعة الحدود الشمالية
المفضلات