أثر الثقافة والمعتقد الذي يؤمن به الشاب
(والله أخرجكم من بطون اُمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون). (النحل / 78)
(اقرأ وربّك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الانسان ما لم يعلم* كلاّ إنّ الانسان لَيَطغى * أن رآهُ استغنى). (العلق / 4 ـ 7)
(إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ). (فاطر / 28)
تشير هذه الآيات الكريمة من بين آيات عديدة الى أهمية العلم والتعليم، وتربط بين العلم والمعرفة والسلوك، وتوضح العلاقة الترابطية بين تلك الحقائق، فالشكر والخشية، أي الطاعة والالتزام بالقانون وقيم الأخلاق، قبل أن يتحول الى موقف يمرُّ بمراحل داخل الذات يبدأ بالتصور، وهو البذرة الاولى للفعل، ثم يحدث الميل النفسي (الاستجابة) نحو ذلك التصور، ثم القناعة به (تصديقه) ثم اختياره، واتخاذ القرار الذاتي بالفعل، ثم اصدار الامر بالفعل، فتحدث الاستجابة الحركية الفعلية للأفكار.
وهكذا يتحول التصور الى فعل عبر عمليات عقلية ونفسية وعصبية وعضلية معقدة.
ومن الواضح أن العقيدة والثقافة التي يحملها الانسان تساهم في خلق الأفكار والتصوّرات التي تصنع الموقف، وفي الميل اليه، واتخاذ قرار الفعل.
وتدل الدراسات الميدانية ان مستوى ونوع الثقافة والفكر والعقيدة التي يحملها الانسان، تؤثر تأثيراً بالغاً في سلوكه، فإن الاحصائيات تفيد أن نسبة الاجرام والانحراف عالية في الأشخاص غير المتعلمين، أو واطئي الثقافة والمعرفة، وغير المؤمنين بالله، وبمسؤولية الحساب الاخروي، أو الذين لا يحترمون يوم الجزاء، لجهلهم وتردي وعيهم.
فالمعرفة والتأهيل الثقافي المتقدم الذي يحمله الانسان يساهم في حماية الشخصية من السقوط، وممارسة الاجرام بصورة عامة، كما يساهم الايمان بالله، وبعالم الآخرة مساهمة كبرى في استقامة السلوك، وتوازن الشخصية.
فالانسان الذي يحمل وعياً اجتماعياً وعلمياً لتصورات الفعل التي تراوده، ويدرك عواقبه السيّئة ونتائجه الوخيمة في الدنيا والآخرة، يشكل ذلك الفهم والوعي، بصورة أساسية، رادعاً عن السقوط والولوغ في تلك الممارسات المشينة.
والمتعلم الواعي لعلمه وثقافته، يحترم شخصيته، ويعرف قيمة وجوده الانساني في المجتمع، ويقدر مسؤوليته أمام خالق الوجود الذي آمن به عن علم ووعي، فيترّفع عن الاجرام، وممارسات السقوط، وارتكاب المعاصي، ويحصّن نفسه ضدها.
وكلما تعالت مفاهيم التقوى والورع والتزكية والقيم والاعتبارات، واحترام الشخصية عند الفرد، بسبب ثقافته ووعيه الاجتماعي، ومعرفته بالله؛ ازداد بعده عن الخروج على القيم الاجتماعية السليمة، وازداد احترامه للقانون الذي يحمي مصلحته، ومصلحة المجتمع، ويحقق أمنه وسلامته. كما يدعوه ذلك الوعي العلمي والثقافي الى تجنب ممارسة الأفعال التي تجلب عليه اهانة الشخصية، والوقوع تحت طائلة العقاب القانوني والالهي، واحتقار المجتمع، ورفض الرأي العام له.
في حين يكون الشخص الجاهل المتردّي الفهم والثقافة والوعي لقيمة وجوده وشخصيته، طعمة للجريمة والانحلال والسقوط.
وقد جاء في أحد التوجيهات الواردة عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ تحليل علميّ دقيق يوضح أهمية احترام الانسان لشخصيته، ووعيه لقيمة وجوده ومعرفته بعواقب الاُمور، وأثر كل ذلك في ممارسة السلوك العداوني، والسقوط الاجتماعي، فقد جاء في الحديث الشريف: «من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره»(13). وورد أيضاً: «صديق الجاهل تعب»(14).
كما جاء توجيه سلوكي، وتحليل نفسي آخر، في حديث يوضح صعوبة تدريب الجاهل على الاستقامة، بعد أن انحرف عنها، وتغيير سلوكه المعتاد، الذي اتخذ صيغة نفسية وسلوكية متكررة، مما يكشف خطورة الجهل، وتأثيره البالغ في احداث الجريمة والانحراف وترسيخهما. جاء ذلك في قول الامام الصادق (ع): «رياضة الجاهل، وردّ المعتاد عن عادته، كالمعجز»(15).
والدراسات والاحصاءات الميدانية والتحليل العلمي، تكشف لنا
أن الاستقامة النفسية والسلوكية تحتاج الى ثلاثة عناصر اساسية هي:
1 ـ العلم والمعرفة بالسلوك والفعل الذي يقدم عليه الانسان، فالانسان الذي يعرف ضرر الخمر والمخّدرات والتدخين والقمار والطيش، وخطر الزنا، والشذوذ الجنسي، لا يقدم عليه، ولا يرتكبه. أما الذي تقوده الشهوة والجهل، فإنه يقع فريسة تلك الممارسات الهّدامة، ويضيّع فيها ماله وصحته وسمعته؛ لذا يجب توعية جيل الشباب والمراهقين، وتثقيفهم بالارقام والحوادث والاحصاءات، والتجارب التي وقع فيها الآخرون، من ذكور واناث، فذهبوا ضحيتها، ليتكون لديهم الوعي، والرادع الذي يردعهم عن كارثة السقوط في تلك الهاوية، ويجنّبهم الوقوع فيها.
ولكي تستقيم سلوكية الانسان، يجب الحرص على نشر العلم والوعي والثقافة ومكافحة الجهل والامية، وأن يكون المنهج المدرسي والثقافة التي يتلقاها الناشئون والشباب وغيرهم هي ثقافة علمية موجهة لحماية الانسان من السقوط والانحراف والجريمة.
فإن العلم يوفّر للانسان: وعي الكون والحياة، وفهمهما فهماً علمياً صحيحاً، فيتعامل معهما تعاملاً سليماً متوازناً، بعيداً عن الخرافة والجهل، ويوفر له وعي الذات، وفهم قيمة وجوده وقدره وشخصيته، فيتعامل مع ذاته وشخصيته تعاملاً موضوعياً، ويحفظ لها كرامتها وسلامتها وحرمتها، كما يوفر له فهم الدوافع والنوازع والانفعالات التي تتحرك في أعماق نفسه، وتدفعه نحو الافعال، فيوجهها الوجهة الصحيحة، ويتعامل معها تعاملاً واعياً، فيرفض منها ما يدفعه نحو الشر، أو يقوده الى الضرر والتضييع، ويستجيب لنوازع الخير والاتجاه الطبيعي السليم.
ويوفر العلم للانسان أيضاً فهم الفعل ونفعه وضرره الذي يعود عليه وعلى مجتمعه، فيفعل ما هو خير ونافع، ويرفض ما هو ضار وشرير، ويضع بين يديه فهم حاضره ومصيره ومستقبله، فيجنبه الوقوع في الأخطاء والمشاكل وتضييع الفرص النافعة والمؤاتية، ويوفر له فهم الواقع والمحيط الذي يعيش فيه، فيعرف كيف يتعامل معه، ويجنب نفسه المشاكل، ويوظف الممكن الصالح والمفيد .. وهكذا يكون العلم دليل الانسان، وقائده في الحياة.
2 ـ العقيدة: وتشكل العقيدة والقيم الفكرية والثقافية التي يحملها الانسان الدافع الأساس نحو ممارسة هذا السلوك أو ذاك أو تركه.
فالنظريات والأفكار الإباحية، كالفكر الماركسي والوجودي والفكر المادي المنحل، المتستّر بالحرية، ونظريات علماء النفس الاباحيين، وغيرها من النظريات القائمة على أساس الفهم المادي المجرد عن القيم الأخلاقية، والايمان بالله، والداعي الى الاباحية، قد جرَّ على البشرية ألوان الانحراف والشذوذ والكوارث والممارسات المادية.
ويبقى المنقذ الفكري والعقيدي الوحيد للبشرية هو الاسلام الذي نظّم السلوك البشري على أساس عقيدي، اذ حرَّم كل ما من شأنه الضرر بصحة الانسان أو بالمصلحة الفردية والجماعية، فحرّم الزنا واللواط والخمور والقمار والمخدّرات والقتل والاغتصاب الذي بلغ لدى الانسان المادي الى مستوى بيع الملايين من الأطفال للاستخدام الجنسي، والمتاجرة بالجنس ذكوراً واناثاً.
لذا فإن الشاب المؤمن بالله، وبيوم الحساب والجزاء، يحصّن نفسه من الوقوع في تلك الممارسات التي تقود الى اتلاف الصحة والمال والسمعة، وكثيراً ما تنتهي بالسجون والانتحار والقتل، واساءة السمعة وسقوط الشخصية.
وتؤكد الاحصاءات والدراسات التي تقوم بها المعاهد المختصة، ان نسبة الجريمة والانحراف والمشاكل والأمراض النفسية، تتصاعد في أوربا وامريكا وروسيا واليابان وغيرها من بلدان العالم، رغم التقدم العلمي والتقني والرفاه الاقتصادي؛ ذلك لأن العلم والمعرفة والرفاه الاقتصادي لا تحصّن الانسان من الانحراف والجريمة والشذوذ.
فالانسان قد يعرف قبح وخطر الكذب والتزوير والزنا والمخدّرات والتدخين والاسراف والاحتكار والظلم والبذاءة والقتل والسرقة والاغتصاب والانتحار واليأس والسخط والقلق والغرور... الخ ولكنه يمارسه بشكل متصاعد، اذ لم يمنعه العلم المنفصل عن الايمان بالله وبالجزاء عن تلك الجرائم... ويجمع القرآن بين العلم والايمان، ويربط بينهما بقوله: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اُوتوا العلم درجات). (المجادلة / 11)
فالتقدم والرقي الانساني لا يكون الا بالتفاعل بين العلم والايمان.
3 ـ الارادة: الارادة هي القدرة على الفعل والترك، وهي خلاصة الموقف الانساني المعبّر عن وجوده، والارادة هي أساس المسؤولية الشرعية عن الفعل.
فالانسان القوي الارداة يستطيع التحكم بالمواقف والدوافع والرغبات والنزعات النفسية، كما يستطيع مواجهة الحوادث والصدمات والأزمات... وبذا يكون سلوكه سلوكاً انتقائياً أمام المثيرات والمغريات والأزمات.
وإنّ سر قوة الشخصية، بصورة أساسية، هو قوة الارادة. كما انّ قوة الارادة، هي أحد الاسباب المؤثرة في نجاح الانسان، وتنفيذ أهدافه وطموحه المستقبلي المشروع .. فبالارادة يقاوم الانسان اغراء الجنس المحرّم، والمال الحرام، ومحاولات اقناع المنحرفين لما يريدون أن يسخروه له، والمغرّرين به، ومثيرات الفعل الشاذ والمنحرف. وبالارادة يقاوم الرغبة في تناول الكحول والتدخين والمخدرات... الخ؛ لذا فإن تربية الارادة كانت من أهم أهداف الاسلام التربوية والأخلاقية.
ويحتاج الشاب احترام اراداته الذاتية؛ ليدخل ميدان الحياة قوي الشخصية انتقائي السلوك والمواقف. يفكّر ويحسب ويوازن قبل أن يتخذ القرار، لاسيما وانه يعيش في مرحلة صاخبة من الانفعالات والاثارات الغريزية العارمة.
ومن أهم عناصر تقوية الارادة هي: الايمان بالله سبحانه، والمواظبة على الصبر، وأداء العبادات، كالصوم والصلاة والجهاد، وتدريب النفس على ترك المحرّمات والمكروهات، وأداء الواجبات وتهذيبها، والقناعة بما عنده، والاصرار على تنفيذ ما يريد تحقيقه من أهداف الخير، وطرد التردّد والأفكار القلقة.
المفضلات