بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف 13-16]
يذكر سيد قطب (رحمه الله) في ظلاله:
قوله (رَبُّنَا اللَّهُ).. ليست كلمة تقال... إنما هي منهج كامل للحياة، يشمل كل نشاط فيها وكل اتجاه، وكل حركة وكل خالجة، ويقيم ميزاناً للتفكير والشعور، وللناس والأشياء، وللأعمال والأحداث وللروابط والوشائج في كل هذا الوجود... (رَبُّنَا اللَّهُ) فله العبادة وإليه الاتجاه، ومنه الخشية وعليه الاعتماد... (رَبُّنَا اللَّهُ) فلا حساب لأحد ولا لشيء سواه، ولا خوف ولا تطلع لمن عداه. (رَبُّنَا اللَّهُ) فكل نشاط، وكل تفكير، وكل تقدير، متجه إليه، منظور فيه إلى رضاه... (رَبُّنَا اللَّهُ) فلا احتكام إلا إليه، ولا سلطان إلا لشريعته، ولا اهتداء إلا بهداه... (رَبُّنَا اللَّهُ) فكل من في الوجود، وكل ما في الوجود مرتبط بنا، ونحن نلتقي به في صلتنا بالله... (رَبُّنَا اللَّهُ) منهج كامل على هذا النحو، لا كلمة تلفظها الشفاه، ولا عقيدة سلبية بعيدة عن واقعيات الحياة.
(ثُمَّ اسْتَقَامُوا(... وهذه أخرى. فالاستقامة والاطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ المنهج: استقامة النفس، وطمأنينة واستقامة المشاعر والخوالج، فلا تتأرجح، ولا تضطرب، ولا تشكك، ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات، وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة. واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار، وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات، وفيه هواتف بالانحراف من هنا ومن هناك!
(رَبُّنَا اللَّهُ)... منهج... والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره. والذين يقسم الله لهم المعرفة والاستقامة هم الصفوة المختارة، وهؤلاء (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وفيمَ فيمَ الحزن.. والمنهج واصل، والاستقامة عليه ضمان الوصول؟
(أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)... وتوضح كلمة (يَعْمَلُونَ) معنى (رَبُّنَا اللَّهُ) ومعنى الاستقامة على هذا المنهج، فهي تشير إلى أن هناك عملاً كان الخلود في الجنة جزاءه. عملاً منبعثاً من ذلك المنهج (رَبُّنَا اللَّهُ) ومن الاستقامة عليه والاطراد والثبات.
ومن ثم ندرك أن الكلمات الاعتقادية في هذا الدين ليست مجرد ألفاظ تقال باللسان، فشهادة أن لا إله إلا الله ليست عبارة، ولكنها منهج، فإذا ظلت مجرد عبارة فليست "ركن" الإسلام كما هو مطلوب، ومن ثم ندرك القيمة الحقيقية لمثل هذه الشهادة التي ينطق بها اليوم الملايين ولكنها لا تتعدى شفاههم، ولا يترتب عليها أثر في حياتهم... إن (لا إله إلا الله) أو (رَبُّنَا اللَّهُ)... منهج حياة... هذا ما ينبغي أن يستقر في النفوس والعقول كي تبحث عن المنهج الكامل الذي تشير إليه مثل هذه العبارة وتتحراه.
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) فهي وصية لجنس الإنسان كله... وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط، وهي وصية صادرة من خالق الإنسان... وكثيراً ما ترد هذه الوصية لاحقة للكلام عن العقيدة في الله، ذلك أن وشيجة الأبوة والبنوة هي أول وشيجة بعد وشيجة الإيمان في القوة والأهمية، وأولاها بالرعاية والتشريف. وفي هذا الاقتران دلالتان: أولاهما هي هذه، والثانية أن آصرة الإيمان هي الأولى وهي المقدمة، ثم تلتها آصرة الدم في أوثق صورها.
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال... لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد، ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل، وبخاصة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وطلقة آلامه! ويتقدم علم الأجنة، فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة...
إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم، وهي مزودة بخاصية أكّالة، تخرق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله، فيتوارد دم الأم إلى موضعها، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائماً في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات، وتمتصه لتحيا به وتنمو وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم، دائمة الامتصاص لمادة الحياة، والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص لتصب هذا كله دماً نقياً غنياً لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير، ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير، وهذا كله قليل من كثير.
ثم الوضع، وهو عملية شاقة، ممزقة، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة، ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة، ثمرة التلبية للفطرة، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش وتمتد بينما هي تذوي وتموت!
ثم الرضاع والرعاية، حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية، وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود، لا تمل أبداً، ولا تكره تعب هذا الوليد. وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو، فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد!
فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية مهما يفعل، وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد؟ وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها، فسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هل أديت حقها؟ فأجابه: «لا, ولا بزفرة واحدة».
ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين، واستجاشة النفوس بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم إلى مرحلة النضج والرشد، مع استقامة الفطرة واهتداء القلب: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
وبلوغ الأشد يترواح بين الثلاثين والأربعين. والأربعون هي غاية النضج والرشد، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء. وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة، وما بعد الحياة، وتتدبر المصير والمآل.
ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة، وهي في مفرق الطريق، بين شطر من العمر ولى، وشطر يكاد يتبدى، وهي تتوجه إلى الله:
(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ)... دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه، المستعظم لهذه النعمة، التي تغمره وتغمر والديه قبله، فهي قديمة العهد به، المستقل المستصغر لجهده في شكرها... يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله (أَوْزِعْنِي)... لينهض بواجب الشكر، فلا يغرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير.
(وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) وهذه أخرى. فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه، فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها، وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه.
(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) وهذه ثالثة. وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته، وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه. والذرية الصالحة أمل العبد الصالح، وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر، وأروح لقلبه من كل زينة الحياة، والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله وشفاعته إلى ربه، شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله، هي التوبة والإسلام.
(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ذلك شأن العبد الصالح، صاحب الفطرة السليمة المستقيمة مع ربه. فأما شأن ربه معه، فقد أفصح عنه هذا القرآن: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ).
فالجزاء بحساب أحسن الأعمال، والسيئات مغفورة متجاوز عنها، والمآل إلى الجنة مع أصحابها الأصلاء. ذلك وفاء بوعد الصدق الذي وُعدوه في الدنيا، ولن يخلف الله وعده... وهو جزاء الفيض والوفر والإنعام.
المفضلات