صدقوني إذا ماقلت لكم إجعلوا قاعدتكم الذهبية أن لايكون أحدكم الخصم المنهزم أمام الخصم العنيد( القلق) المتسلل عبر نفوسنا ليجعل من أدمغتنا ساحة يمارس من خلالها متعته في رؤيته لنا ونحن متسربلين بلون قاتم من الهم والغم والحزن ، لأنه القلق الذي يعصف فجأة من خلال مؤثر خارجي يصيب النفس البشرية دون مقدمات ..
أقول إذا أضفت هذه كله عندما يأتينا خبر مفاده أن عزيز على قلوبنا قد أصابه مرض عضال ، وليس شيء يدعو للحزن والقلق أكبر في النفس عندما تراه للموت أقرب منه للحياة .
ذلك كله هي القصة لمرض شقيقتي بداء السرطان ونجاتها منه في بداية الأمر ، وهي الإستراحة التي جعلها الله لها فترة من زمن عمرها لم تطول لتعود مرة أخرى لحلبة الصراع مع مرضها الثقيل.
إنها الفترة التي جعلتني أحاول من خلالها رؤية شقيقتي عن قرب عندما اختارت رسالتها أن تكون عن الموت وقلقه !
إنها الرؤيا القريبة لها التي استطعت من خلالها ان أراها جيداً وبوضوح ، وليس أشق على النفس وأدعى للألم من رؤية توأم حياتها يموت ببطء ، إنها التجربة التي يعيشها المحبين من ذوي القرابة بكل أطيافهم ، الزوج والزوجة ، الإبن والإبنة ، والأخ والأخت .
إنه القلق والحزن الذي عشته مرة أخرى مع شقيقتي وأنا أذكر جيداً تلك الفترة من حياتنا عندما كانت في العاشرة من عمرها وكنت في السادسة من عمري ، وقد رأيتها تموت وتذوي قليلاً قليلاً في غرفة داخل عيادة طبيب الأطفال ( د/ مختار توفيق) بالعمارة الشعبية القديمة في ذاك الحي الشعبي بمنطقة الزيتون بالقاهرة شارع المتوكل على الله ..
أذكر جيداً الحزن والخوف على وجه أمي ، والقلق الذي كان ينتاب دكتور مختار وهو يعرف جيداً حقيقة الوباء المنتشر حينها بين الأطفال في القاهرة والذي لاينجو منه إلا القليل القليل منهم في تلك الأيام ... إنه التيفوئيد .
نعم أذكر جيداً تلك الساعات العصيبة التي أتسلل فيها خلف أمي صاعداً لتلك الغرفة بسريرها العتيق ومن خلال ظلام كئيب يتسلل من خلاله بعض الضوء لذلك المصباح القديم المتدلي من سقف الغرفة كنت أستطيع رؤيتها وقد تكومت تئن وتزفر وهي أشبه شيء بهيكل عظمي ، وقد جلس جوارها الطبيب يحاول جاهداً إخفاء قلقه وهو يرى تأرجح الطفلة الصغيرة بين الحياة والموت ، وأمي لاتتمالك عبراتها كنت أخرج سريعاً من الغرفة قافزاً درجات السلم المتكسرة ومن خلال ظلمة تلف بئر العمارة العتيقة أنطلق صوب الشارع المزدحم بالبائعين وقد طغي صوت القطار الديزل على صياحهم وجلبتهم ...
لا أنسى الممرضة شفيقة وهي تلازمها ليل نهار ، تحاول إخفاء دموعها عن أمي ..
كان أكثر شيء حزني عندما كنت أرى شقيقتي من خلال مرض التيفوئيد وقد أصابها الصلع فلم يبقى شعرة واحدة في رأسها، جراء الدواء المستخدم في تلك الأيام والحرارة التي تصاحب التيفوئيد والتي تبقى في أحايين كثيرة 40 درجة مئوية بعدما كانت تتمتع بشعر طويل يبهر كل من يراه في تلك الأيام ...
وتنجو شقيقتي من التيفوئيد ، بعد مرور شهر تتأرجح فيه بين الحياة والموت.. ويطول شعرها مرة أخرى .... وماعلمت أنها على موعد آخر مع الصلع .
كنت أراقبها جيداً محاولاً أن استشف حقيقة تلك العقيدة التي عاشتها ومارستها من خلال حياتها والتي عرفناها من خلالها ، فقد كانت أكثرنا صلاة وقراءة للقراءن وصيام وحج ، وقد أصرت على الحج عام 1427هـ وهي في قمة ضعفها وإرهاقها ... كنت أراقبها جيداً من خلال رؤية حقيقة ماكتبته في رسالتها وحقيقة الساعات التي رأيتها فيه وهي تصارع الألم بعدما تسلل المرض لعظامها ورأسها ..
كنت أراها وهي تحاول طمأنتنا أنها بخير لولا الإرهاق الذي تشعر به من جراء الجرعات الكبيرة التي تناولتها من الكيماوي ، وبالرغم من ذلك كله ، آسرت إلى أنها مستعدة لكل شيء ...
كنا نرى دموع الألم التي تحاول إخفائها وهي تحاول جاهدة إقناعنا أنها بخير .. لولا تأثير الكيماوي! .
إنها الصفة التي عرفتها من خلال حياتي معها ، لايهزمها آلم ولا تستسلم لهزيمة ، تعطي يرحمها الله وكأنها هي من يأخذ ... هذه هي شقيقتي التي فقدتها يرحمها الله ، شقيقتي التي رأيت الوجه الحقيقي لها وهي تعيش ساعات الألم والقلق في مرضها وبين حقيقة ماكتبته في رسالتها ، فرأيت أن ليس لها سوى وجه واحد عندما قالت :
- يمكن تعريف القلق بأنه شعور نفسي يدركه الفرد ويحسه عند ترقبه لحدث أو سماع لخبر ما أو تهديد بعدم تحقيق رغبة معينة، أي أنه إحساس وشعور بتوتر نفسي وحسي يؤدي إلى عدم الاستقرار والراحة وبعض الأحاسيس الجسمية المصاحبة . و يمكن تصنيف القلق النفسي إلى نموذجين: الأول قلق الحالة، وهو الإحساس بالتوتر الذي ينتاب الفرد حين يكون مقدما على إنجاز ما كأداء اختبار أو التقدم إلى مفاضلة مثلاً ، أو حين يكون مترقبا لحدث أو خبر.. وهذا النوع طبيعي وينتهي بانتهاء المثير ويمكن أن يطلق عليه القلق الإيجابي على اعتبار أنه يمثل دافعا لتحقيق إنجاز أو طموح من خلال السعي والسعي الجاد وتقدير المسؤولية تجاه عديد من المهام الحياتية.
والثاني قلق السمة ، أي أن القلق يعد سمة تميز شخصية الفرد وتحكم عليه بأنه صاحب شخصية قلقة ومتوترة ، وتلازمه مشاعر القلق في عديد من المواقف التي يدركها ويتعامل معها على أنها عوامل خطرة وتهيد أمنه واستقراره . و لا يعد القلق مرضاً بحد ذاته ولكنه عرض لعديد من الاضطرابات النفسية والعقلية التي قد يعاني البعض منها ، ولا يمكن إنكار أنه يمثل انتشاراً في وقتنا الراهن ، فنحن بحق نعيش عصر القلق ، يكتنفنا عبر العديد من المنافذ والقنوات والتي على رأسها وسائل الإعلام بنماذجها كافة ، وهذا ما يتطلب اتخاذ الوسائل الملائمة للتخفيف من حدته لما يخلف من آثار سلبية ضارة على التكوين النفسي والفسيولوجي للفرد ومما ينعكس أثره بالتالي على المجتمع كافة .
و للقلق أسباب عدة ، منها ماهو موضوعي ومعقول ، ومنها ماهو غير منطقي ، وهذا يعتمد على تشخيص المختصين في مجال الاضطرابات السلوكية ، يدرك ذلك من خلال أحاسيسه النفسية والفسيولوجية التي يستشعرها نتيجة لتأثر جهازه العصبي اللاإرادي ، مثل زيادة ضربات القلب والتوفز الانفعالي وزيادة في التعرق وبرودة الأطراف وافتقاد الأمن والاستقرار ، و توجد العديد من الأساليب للقلق المصاحب للاضطرابات النفسية والسلوكية ، أي القلق االذي
يعد سمة ، منها العلاج بالتخيل والاسترخاء ، ومن خلال التدريب على التنفس بطريقة صحيحة وعبر جلسات الإرشاد الديني الهادف إلى تعزيز الصلة بالله سبحانه وتعالى والإيمان الحق به وبقضائه وقدره .
وهناك وسائل عملية مستمدة من ديننا الحنيف من شأنها تخفيف حدة القلق والهم والحزن ، ومنها الصلاة وقراءة القرآن والدعاء .
كنت أحزن كثيراً عند رؤيتي لها وقد أصاب وجهها الضعف والشحوب خلف رجفات من الألم ، وهي التي عرفناها ضاحكة بشوشة لاتعبس في وجه كبير أو صغير رفيع أو وضيع ..
رأيت وجهها الحقيقي عندما أقبلت مسرعاً من المدينة بعدما عرفت أنها قد ماتت .. رأيته عندما أخرجتها من الثلاجة لتقوم المغسلة بتغسيلها ... رأيت وجه باسم مطمئن عوضني كثيراً عن تلك السحنة التي كنت أراها من خلالها في ساعات وليال المرض والتصبر والألم ..
ماتت صباح يوم الجمعة في الساعة التاسعة صباحاً من اليوم الثاني لشهر جمادى الآخرة 1429هـ
وصلينا عليها فجر يوم السبت في الحرم المكي ، وواريناها الثرى في مقبرة العدل الجديدة .
اللهم أرحم أختي طريفة رحمة واسعة وزدها الإحسان إحساناً والسيئات عفواً وغفراناً .. آمين
ــــــــــ
ابن العم عبد الرحمن السعود الشويعر
المفضلات