السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين
وبعد

وهنا رأي لسماحة العلامة محمد الامين الشنقيط رحمه الله
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ؛ وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد :

فإن لنا وجهة نظر مخالفة للقرار الصادر بالأغلبية من ( هيئة كبار العلماء ) في شأن جواز السعي فوق السقف الكائن فوق المسعى والصفا والمروة ، وحاصل وجهة نظرنا في ذلك هو :

أنا لا نرى جواز تعدد المسعى وإباحة السعي في مسعيين : مسعى أسفل ، ومسعى أعلى ؛ وذلك للأمور الآتية :

الأمر الأولى : أن الأمكنة المحددة من قبل الشرع لنوع من أنواع العبادات لا تجوز الزيادة فيها ولا النقص إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .


الأمر الثاني : أن الأمكنة المحددة شرعًا لنوع من أنواع العبادات ليست محلاً للقياس ؛ لأنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص الصريح المقتضي تحديد المكان المعين للعبادة ، ولأن تخصيص تلك الأماكن بتلك العبادات في دون غيرها من سائر الأماكن ليست له علة معقولة المعنى حتى يتحقق المناط بوجودها في فرع آخر حتى يلحق بالقياس ، فالتعبدي المحض ليس من موارد القياس .


الأمر الثالث : هو أنه لا نزاع بين أهل العلم في أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الوارد لبيان إجمال نص من القرآن العظيم له حكم ذلك النص القرآني الذي ورد لبيان إجماله .

فإن دلت آية من القرآن العظيم على وجوب حكم من الأحكام ، وأوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - المراد منها بفعله - فإن ذلك الفعل يكون واجبًا بعينه وجوب المعنى الذي دلت عليه الآية ، فلا يجوز العدول عنه لبدل آخر .

ومعلوم أن ذلك منقسم إلى قسمين كما هو مقرر في الأصول :

الأول منهما : أن تكون القرينة وحدها هي التي دلت على أن ذلك الفعل الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وارد لبيان نص من كتاب الله ، كقوله تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا . سورة المائدة ، ( الآية : 38 ) .

فإن الآية تحتمل القطع من الكوع ، ومن المرفق ، ومن المنكب ؛ لأن لفظ اليد قد يستعمل في كل ما ذكر ، وقد دلت القرينة على أن فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو : قطعه يد السارق من الكوع وارد لبيان قوله تعالى : فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا . سورة المائدة ، ( الآية : 38 ) .

فلا يجوز العدول عن هذا الفعل النبوي الوارد لبيان نص من القرآن لبدل آخر إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .

القسم الثاني من قسمي الفعل المذكور : هو أن يرد قول من النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن ذلك الفعل الصادر منه - صلى الله عليه وسلم - بيان لنص من القرآن ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ؛ فإنه يدل على أن أفعاله في الصلاة بيان لإجمال الآيات التي فيها الأمر بإقامة الصلاة ، فلا يجوز العدول عن شيء من تلك الأفعال الصادرة منه - صلى الله عليه وسلم - لبيان تلك الآيات القرآنية إلا بدليل من كتاب أو سنة يجب الرجوع إليه .

وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لتأخذوا عني مناسككم ) ؛ فإنه يدل على أن أفعاله في الحج بيان لإجمال آيات الحج ، فلا يجوز العدول عن شيء منها لبدل آخر إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .

وإذا علمت هذا ؛ فاعلم أن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ . سورة البقرة ، ( الآية : 158 ) .

فصرح في هذه الآية بأن المكان الذي علمه الصفا ، والمكان الذي علمه المروة من شعائر الله . ومعلوم أن الصفا والمروة كلاهما علم لمكان معين ، وهو علم شخص لا علم جنس ، بلا نزاع ولا خلاف بين أهل اللسان في أن العلم يعين مسماه - أي : يشخصه - فإن كان علم شخص كما هنا شخص مسماه في الخارج - بمعنى : أنه لا يدخل في مسماه شيء آخر غير ذلك الشخص ، عاقلاً كان أو غير عاقل - ، وإن كان علم جنس شخص مسماه في الذهن ، وليس البحث في ذلك من غرضنا .

وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكر الله في الآية أنه من شعائر الله هو شخص الصفا وشخص المروة ، أي : الحقيقة المعبر عنها بهذا العلم الشخصي ، ولا يدخل شيء آخر البتة في ذلك لتعين المسمى بعلمه الشخصي دون غيره ، كائنًا ما كان ، سواء كان الفراغ الكائن فوق المسمى المشخص بعلمه أو غير ذلك من الأماكن الأخرى . وإذا علمت ذلك فاعلم أن الله تعالى رتب بالفاء قوله : فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا . سورة البقرة ، ( الآية : 158 ) .

على كونهما من شعائر الله ، وفي قوله تعالى : أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا . سورة البقرة ، ( الآية : 158 ) . إجمال يحتاج إلى بيان كيفية التطوف ومكانه ومبدئه ومنتهاه .

وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم -هذا النص القرآني بالسعي بين الصفا والمروة ، مبينًا أن فعله المذكور واقع لبيان القرآن العظيم المذكور ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( خذوا عني مناسككم ) .

وقوله : ( أبدأ بما بدأ الله به ) يعني : الصفا في قوله : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ . سورة البقرة ، ( الآية : 158 ) . الآية .

ومن جملة البيان المذكور بيان جواز السعي حالة الركوب على الراحلة ، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو سعيه بين الصفا والمروة مبينًا لذلك مراد الله في كتابه لا يجوز العدول عنه في كيفيته ولا عدده ولا مكانه ولا مبدئه ولا منتهاه إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة .

ولا شك أن المسعى الجديد الكائن فوق السقف المرتفع الذي فوق المسعى النبوي المبين بالسعي فيه معنى القرآن غير المسعى النبوي المذكور ، ومغايرته له من الضروريات ؛ لأنه مما لا نزاع فيه أن المتضايفين اللذين تستلزمهما كل صفة إضافية متباينان تباين المقابلة لا تباين المخالفة ، ومعلوم أن المتباينين تباين المقابلة بينهما غاية المنافاة ؛ لتنافيهما في حقيقتيهما ، واستحالة اجتماعهما في محل آخر .

ومعلوم أن المتباينات هذا التباين التقابلي التي بينها منتهى المنافاة أربعة أنواع : هي : التقابل بين النقيضين ، والتقابل بين الضدين ، والتقابل بين المتضايفين ، والتقابل بين العدم والملكة ، كما هو معلوم في محله . فكما أن الشيء الواحد يستحيل أن يتصف بالوجود والعدم في وقت واحد من جهة واحدة ، وكما أن النقطة البسيطة من اللون يستحيل أن تكون بيضاء سوداء في وقت واحد ، وأن العين الواحدة يستحيل أن تكون عمياء مبصرة في وقت واحد ، فكذلك يستحيل أن يكون الشيء الواحد فوق هذا وتحته في وقت واحد . فالمسعى الذي فوق السقف يستحيل أن يكون هو المسعى الذي تحت السقف . فهو غيره قطعًا ، كما هو الشأن في كل متضايفين وكل متباينين تباين تقابل أو مخالفة .

وإذا حققت بهذا أن المسعى الذي فوق السقف مغاير في ذاته لحقيقة المسعى الذي تحت السقف ، وعلمت أن السعي في المسعى الذي تحت السقف هو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مبينًا بالسعي فيه مراد الله في كتابه قائلاً : ( خذوا عني مناسككم ) .

وأن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - المبينة للقرآن لا يجوز العدول عنها لبدل آخر إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة - علمت بذلك أن العدول بالسعي عن المسعى النبوي إلى المسعى الجديد الكائن فوق السقف الذي فوق الصفا والمروة يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله ، ويحتاج جدًا إلى معرفة من أخذ عنه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرنا بأخذ مناسكنا عنه هو وحده - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يأذن لنا في أخذها عن زيد ولا عمرو .

فعلينا أن نتحقق الجهة التي أخذنا عنها هذا المنسك الجديد ؛ لأن المناسك مرهونة بأمكنتها وأزمنتها ، ولا يجوز التحكم في مكان أو زمان غير الزمان والمكان المحدودين من قبل الشارع ، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين الأمكنة التي أنيط بها النسك ، وعمم البيان في ذلك ، وجعله شاملاً للأمكنة التي أقام فيها هو النسك ، وغيرها من الأمكنة الصالحة للنسك ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وقفت هنا وعرفة كلها موقف ) .

ونظير ذلك في مزدلفة ومنى بالنسبة للنحر كما هو معلوم .


الأمر الرابع : أن السعي في المسعى الجديد خارج عن مكان السعي الذي دلت عليه النصوص ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الظرف المكاني للسعي بالنسبة إلى الصفا والمروة هو ظرف المكان الذي يعبر عنه بلفظة : ( بين ) وأما المسعى الجديد فظرفه المكاني بالنسبة إلى الصفا والمروة هو لفظة ( فوق ) ومعلوم أن لفظ : ( بين ) ولفظ : ( فوق ) وإن كانا ظرفي مكان فمعناهما مختلف ، ولا يؤدي أحدهما معنى الآخر ؛ لتباين مدلوليهما ، فالساعي في المسعى الأعلى الجديد لا يصدق عليه أنه ساع بين الصفا والمروة ، وإنما هو ساع فوقهما ، والساعي فوق شيئين ليس ساعيًا بينهما ؛ للمغايرة الضرورية بين معنى : ( فوق ) و ( بين ) كما ترى .

ويزيد هذا إيضاحًا ما ثبت في الصحيح من حديث - عائشة - رضي الله عنها - المرفوع ، وإن ظن كثير من طلبة العلم أنه موقوف عليها . فقد روى البخاري عنها في جوابها لعروة بن الزبير في شأن السعي بين الصفا والمروة أنها قالت ما لفظه : ( وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما ؛ فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

فتأمل قولها وهي هي ، وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما ، وقولها : ( فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) وتأمل معنى لفظة ( بين ) يظهر لك أن مفهوم كلامها : أن من سعى فوقهما لم يأت بما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ذلك ليس له . وهذا المعنى ضروري للمغايرة الضرورية بين الظرفين ، أعني : ( فوق ) و ( بين ) وفي لفظ عند مسلم عنها أنها قالت : ( ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة ) . انتهى محل الغرض منه .

وهو يدل على أن من طاف فوقهما لا يتم الله حجه ولا عمرته ؛ لأن الطائف فوقهما يصدق عليه لغة أنه لم يطف بينهما ، وفي لفظ لمسلم عنها : أنها قالت : ( فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة ) ، وقد علمت أن الساعي فوقهما لم يطف بينهما . وقد أقسمت على أن من لم يطف بينهما لا يتم حجه كما ترى .

واعلم أن ما يظنه بعض أهل العلم من أن حديث عائشة هذا الدال على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه ، وأنه لا يتم بدونه حج ولا عمرة أنه موقوف عليهما غير صواب . بل هو مرفوع .

ومن أصرح الأدلة في ذلك أنها رتبت بالفاء قولها : ( فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) على قولها : ( قد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما ) ، وهو صريح في أن قولها : ( ليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) لأجل أنه - صلى الله عليه وسلم - سن الطواف بينهما .

ودل هذا الترتيب بالفاء على أن مرادها بأنه سنة : أنه فرضه بسنته ، كما جزم به ابن حجر في " الفتح " مقتصرًا عليه ، مستدلاً له بأنها قالت : ( ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة ) .

فقولها : ( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سن الطواف بينهما ) ، وترتيبها على ذلك بالفاء قولها : ( فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ) ، وجزمها بأنه لا يتم حج ولا عمرة إلا بذلك - دليل واضح على أنها إنما أخذت ذلك مما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا برأي منها كما ترى .


الأمر الخامس : أن إقرار المسعى الأعلى الجديد لا يؤمن أن يكون ذريعة لعواقب غير محمودة ؛ وذلك من جهتين :

الأولى : أنه يخشى أن يكون سببًا لتغييرات وزيادات في أماكن النسك الأخرى ؛ كالمرمى ، وكمطاف مماثل فوق الكعبة .

الثانية : أنه لا يؤمن أن يكون ذريعة للقال والقيل ، وقد شوهد شيء من ذلك عند البحث في تأخير المقام لتوسعة المطاف ، فلا يؤمن أن يقال : إن الهيئة الفلانية أو الجهة الفلانية بدأت تغير مواضع النسك التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والمسلمون أربعة عشر قرنًا ، والدعايات المغرضة كثيرة ، فسدًا للذريعة إليها مما يستحسن - ولا يخفى أن إقرار هذا المسعى الأعلى الجديد يلزمه جواز إقرار مطاف أعلى جديد مماثل - فقد يقترح مقترح ، ويطلب طالب جعل سقف فوق الكعبة الشريفة على قدر مساحة المطاف الأرضي ، ويجعل فوق السقف المذكور علامات واضحة تحدد مساحة الكعبة تحديدًا دقيقًا ، مع تحقيق كون مساحة الكعبة المحددة فوق السقف مسامتة للكعبة مسامتة دقيقة ، ويبقى صحن ذلك المطاف الأعلى واضحًا متميزًا عن قدر مساحة الكعبة من الهواء الذي فوق السطح ، فيطوف الناس حول ذلك الهواء المسامت للكعبة ؛ لتخف بذلك وطأة الزحام في المطاف الأرضي ، ولا شك أن هذا المطاف الأعلى المفترض لو فرض جوازه فهو أقل مشقة على الطائفين من توسعة المطاف الأرضي ؛ لأن المطاف الأرضي كلما اتسع كانت مسافة الشوط في أقصاه أكثر من مسافته فيما يقرب منه من الكعبة ، وأما المطاف الأعلى فلا تزيد مسافة الشوط فيه عن مسافته في المطاف الأرضي ؛ لاتحادهما في المساحة ، فهو أخف على الطائف ، ولا نعتقد أن لهذا المطاف الأعلى المفترض مستندًا من الشرع ، كما لا نعتقد أن بينه وبين المسعى الجديد فرقًا .

وفي الختام فإن زيادة مكان نسك على ما كان عليه المسلمون من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم تحتاج إلى تحر وتثبت ونظر في العواقب ، ودليل يجب الرجوع إليه من كتاب الله ، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، مع العلم بأن الزحام في أماكن النسك أمر لا بد منه ، ولا محيص عنه بحال من الأحوال ، والله الذي شرح ذلك على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - عالم بما سيكون ، والعلم عند الله تعالى .

د/ حمتو


أملاه الفقير إلى رحمة ربه وعفوه
محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي

حرر في 12 / 11 / 1393 هـ