لا ننكر أو نرفض الاحتكام إلى الشرع وأن الوالد له حق الحضانة في سن أو ظروف معينة في حالة الطلاق، بل إننا وفي كل شؤوننا نطالب أن يطبق الشرع ونرجع له في كل أمرنا،
ولكننا هنا نتساءل فقط:
ألا توجد آلية أو نظام أو طريقة يَعرف بها من يُصدر الحكم بأحقية الولاية أو الحضانة مدى أهلية الأب أو الأم لذلك وقدر أين منهما على ذلك؟؟
ولماذا حين ندقق في تفاصيل المواقف والقضايا، نرى أن هناك تأخراً أو تكاسلاً أو تجاهلاً أو تفريطاً من قبل الجهة أو الجهات المسئولة عن القضايا التي يقع فيها العنف على الصغار أو النساء ولا تفعل هذه الجهات شئ يذكر رغم تكرار الشكوى وطلب النجدة من قبل يقع عليه الأذى أو ممن يلاحظ أو يرى ذلك.
غصون الطفلة البريئة التي فارقت الحياة وأصبحت قصتها في كل مكان في الإعلام، وجعلتنا جميعاً نشعر بالألم والحرقة والقهر،
صحيح أن شئ لا بأس به من هذه الحرقة زال حين سمعنا بتنفيذ القصاص في الجناة ولكن بقي منه أكثر، نعم بقي منه أكثر، ولا يزال هناك أناس يستحقون العقاب والتعزير في قضية غصون، ولست أذكر الموقف هنا لأعلن من هم أو من يكونون وإنما للاستشهاد فقط.
ففي هذه القضية الشهيرة نشاهد على جريدة الرياض وفي الملف الذي خصصته الجريدة لقضية الطفلة غصون رحمها الله، هذا الموضوع:
الأب أخذها من كنف أمها للعيش معه.. ويوهم من يرى التعذيب على جسدها أنها سقطت في أثناء اللعب!!
والدة الضحية (غصون) مطلقة من عشر سنوات وتقدمت بشكوى للجهات المعنية فور علمها بتعذيب طفلتها
الرياض - محمد الغنيم:
أُغلق يوم أمس ملف قضية الطفلة (غضون) أمنياً وشرعياً بعد تنفيذ حكم القتل تعزيراً بالجناة في هذه القضية التي شغلت الرأي العام طوال الأشهر الماضية كواحدة من الجرائم الدخيلة على مجتمعنا، فيما فتحت هذه القضية ملفات عدة للنقاش والبحث والدراسة من قبل خبراء الاجتماع والعلم والمختصين المهتمين بمثل هذه القضايا الأسرية والاجتماعية لبحث أسبابها والوقوف عليها ودراسة كافة الجوانب التي تقود الإنسان لارتكاب مثل هذه الجرائم وإيجاد الحلول الكفيلة بعلاج مثل هذه الأحداث قبل استفحالها.
ووفقاً لمتابعات "الرياض" لهذه القضية منذ العام الماضي فإن الطبيب الشرعي وجد على جثة الطفلة آثار تعذيب جسدي حيث تم ربطها بسلاسل وضربها بطريقة وصفها بالوحشية، وقد كشفت التحقيقات الأمنية في هذه القضية عن وجود إشارات إلى علاقة زوجة والد الطفلة بمساعدتها زوجها على عملية التعذيب، حيث قامت الجهات الأمنية بإيقاف والد الطفلة وزوجته لمعرفة أسباب إقدامهما على فعلهما المشين.
يُذكر أن والدة (غصون) مطلقة قبل أكثر من عشرة أعوام تقريباً وكانت الطفلة الضحية تعيش في كنف والدتها قبل أن يأخذها والدها لتعيش معه، وقد قامت فور سماعها بتعذيب ابنتها بالتقدم لحقوق الإنسان وعدد من الجهات المعنية للتدخل، فيما كان والدها ينكر دائماً قيامه بتعذيب ابنته موهماً بأنها سقطت في أثناء لعبها داخل المنزل وأن الضرب الذي على جسدها ما هو إلا تهذيب لها نظراً لشقاوتها كبقية الأطفال على حد قوله!.
ركزوا معي أحبتي في الله على ما تحته خط،
اسمحوا لي في هذا المقطع أتكلم عامي شوي لأن اللي في قلبي كثير وكبير ومقدر أعبر عنه إلا بلهجتي المعتادة:
يعني الرجال معترف إنه يضربها ويعذبها، وحقوق الإنسان اللي فاضين بس ينبشون ورا شغلات تافهة جداً تعزز مطالب من لا يريد بهذه الأمة خيراً، وما لهم أي دور في المسألة ومساعدة الأم المسكينة ولا بقية الجهات المعنية (وكلنا نعرف مين الجهات المعنية هنا) ...
هذا الموقف المثبت هنا والمواقف الغير مثبتة كثيرة جداً، كلها تجعلني أقف عند رأيي الذي أعلنته أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة أننا كمجتمع: جيران / أقارب / مساجد / مدارس / محاكم / مراكز شرطة / دور رعاية / ..... الخ
جميعاً نساهم بنسب مختلفة ومتفاوتة في إيقاع الأذى واستمراره على أولئك الضحايا الأبرياء، والنسبة الأكبر تقع على مدعيّ حماية حقوق الإنسان ....
ترى كم من غصون في مجتمعنا
وكم من أم لا حول لها ولا قوة مثل أم غصون
وكم من جهة معنية تغافلت أو تساهلت في دورها الذي ربما لا تعرفه حقيقة أو تجهل كيف تؤديه أو ربما لا تُخلص في تأديته.
أيها الأحبة دعونا نطبق ما ذكرنا به: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }آل عمران110 ؛
أنتم - يا أمة محمد - خير الأمم وأنفع الناس للناس, تأمرون بالمعروف, وهو ما عُرف حسنه شرعًا وعقلا وتنهون عن المنكر, وهو ما عُرف قبحه شرعًا وعقلا وتصدقون بالله تصديقًا جازمًا يؤيده العمل.
ونحن نعرف أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه مسلم وهو أحد الأربعين النووية: : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ).
لقد بين الحديث أن إنكار المنكر على مراتب ثلاث :
التغيير باليد،
والتغيير باللسان،
والتغيير بالقلب،
وهذه المراتب متعلقة بطبيعة هذا المنكر ونوعه، وطبيعة القائم بالإنكار وشخصه، فمن المنكرات ما يمكن تغييره مباشرة باليد، ومن المنكرات ما يعجز المرء عن تغييره بيده دون لسانه، وثالثة لا يُمكن تغييرها إلا بالقلب فحسب.
فيجب إنكار المنكر باليد على كل من تمكّن من ذلك، ولم يُؤدّ إنكاره إلى مفسدةٍ أكبر،
وعليه:
1. يجب على الوالي أن يغير المنكر إذا صدر من الرعيّة،
2. .ويجب مثل ذلك على الأب في أهل بيته ،
3. والمعلم في مدرسته ،
4. .والموظف في عمله ،
وإذا قصّر أحدٌ في واجبه هذا فإنه مضيّع للأمانة، ومن ضيّع الأمانة فقد أثم، ولذلك جاءت نصوص كثيرة تنبّه المؤمنين على وجوب قيامهم بمسؤوليتهم الكاملة تجاه رعيتهم – والتي يدخل فيها إنكار المنكر - ،
فقد روى الإمام البخاري و مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته)،
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن عاقبة الذين يفرطون في هذه الأمانة فقال:
( ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة ) .
فإذا عجز عن التغيير باليد، فإنه ينتقل إلى الإنكار باللسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن لم يستطع فبلسانه )، فيذكّر العاصي بالله، ويخوّفه من عقابه، على الوجه الذي يراه مناسبا لطبيعة هذه المعصية وطبيعة صاحبها.
فقد يكون التلميح كافيا – أحيانا - في هذا الباب، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ؟ )،
وقد يقتضي المقام التصريح والتعنيف، ولهذا جاءت في السنة أحداث ومواقف كان الإنكار فيها علناً، كإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد - رضي الله عنه - شفاعته في حد من حدود الله، وإنكاره على من لبس خاتم الذهب من الرجال ، وغير ذلك مما تقتضي المصلحة إظهاره أمام الملأ.
وإن عجز القائم بالإنكار عن إبداء نكيره فعلا وقولا، فلا أقل من إنكار المنكر بالقلب،
وهذه هي المرتبة الثالثة، وهي واجبة على كل أحد، ولا يُعذر شخص بتركها ؛ لأنها مسألة قلبيّة لا يُتصوّر الإكراه على تركها، أو العجز عن فعلها،
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد: جهادٌ بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمتى لم يعرف قلبه المعروف وينكر قلبه المنكر انتكس " .
وإذا ضيعت الأمة هذا الواجب بالكلية، وأهملت العمل به، عمت المنكرات في المجتمعات، وشاع الفساد فيها، وعندها تكون الأمة مهددة بنزول العقوبة الإلهية عليها، واستحقاق الغضب والمقت من الله تعالى.
والمتأمل في أحوال الأمم الغابرة، يجد أن بقاءها كان مرهونا بأداء هذه الأمانة، وقد جاء في القرآن الكريم ذكر شيء من أخبار تلك الأمم، ومن أبرزها أمة بني إسرائيل التي قال الله فيها: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } ( المائدة : 78 – 79 ) .
وتكمن خطورة التفريط في هذا الواجب،
1. أن يألف الناس المنكر،
2. ويزول في قلوبهم بغضه ،
3. ثم ينتشر ويسري فيهم ،
4. وتغرق سفينة المجتمع ،
5. وينهدم صرحها ،
وفي ذلك يضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا رائعا يوضح هذه الحقيقة، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) رواه البخاري .
إن هذا الواجب هو مسؤولية الجميع ، وكل فرد من هذه الأمة مطالب بأداء هذه المسؤولية على حسب طاقته، والخير في هذه الأمة كثير، بيد أننا بحاجة إلى المزيد من الجهود المباركة التي تحفظ للأمة بقاءها، وتحول دون تصدع بنيانها، وتزعزع أركانها.
ورفع الأذى عن النساء والمستضعفين والولدان يدخل تحت إنكار المنكر ونتوزع نحن أفراد المجتمع على الأقسام الثلاثة المذكورة في الحديث الشريف كل حسب قربه من الحدث ومقدرته الفعلية على الإنكار والتغيير،
فلينظر كل منا حوله ويجيب بكل صدق:
هل أنا فعلاً أنكر المنكر بقدر ما أستطيع أم أنني أجنح غالباً إلى تكرار الجملة المألوفة:
"هذا ليس من شأني"
__________________________
د. عبدالله بن عبدالرحمن بن دهيم
رئيس المركز الإقليمي بالشرق الأوسط
للأكاديمية العالمية لإعادة الاتزان البشري
المفضلات