حكاية رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) صدق الله العظيم
يحكى في قديم الزمان وسالف العصر والأوان وفي زمن الخلافة العباسية , وعندما كانت بغداد تكتظ بالعلم والعلماء , كانت هناك عائلة فقيرة في مدينة الموصل قد أنجبت طفلا , وعندما كبر هذا الطفل وترعرع , اتجه صوب المدارس الدينية , فحفظ القران الكريم , والحديث النبوي الشريف على يد أكبر مشائخ المدينة , ثم أتجه إلى التتلمذ على يد طبيب بارع مشهور في المدينة , وأكب على هذه الصنعة , فوجد الطبيب فيه نفسا تواقة للعلم والطموح والمثابرة , فشجعه إلى السفر إلى بغداد لنيل شهادة في هذه المهنة , والتمس له بالدعاء , وأشار إلى والد الشاب بتجهيز ولده للسفر , ولكن من أين له هذه القدرة على التكاليف وهم في فقر مدقع , جمع لوده ما تيسر من الدراهم القليلة , وأعدت له أمه ما تيسر من الطعام والزاد , وأعدوا له الراحلة , ........ شد والده على يده وعانقه , بعد أن تهيأت له صحبة السفر مع قافلة من التجار ....................
هم الشاب الطموح وأدرك أهمية ما قد نوى عليه .........حط الرحال بعد شهر أو شهران في مدينة العلم .
أتجه صوب أحد الخانات المنتشرة في المدينة , سأل عن أجرة المبيت , قصد خان ثاني , أسودت الدنيا في عيناه فدراهمه لا تكفي لطول الإقامة , لم يكن له أقرباء في المدينة , ولم يكن يسعى أن يثقل الناس بطلبه , أحتسب بربه وخرج طالبا ما يخفف وطأته هذه ماشيا بأزقة المدينة , وسرح في هواجسه وشجونه .................
لا أريد أن أطيل في الحديث مر الفتى أحمد بن يحيى بصبية هنا وهناك , والكل كان معجبا بخصاله وسماحة خلقه , وقوة ذاكرته بعد أن تعرفوا عليه في حلقات المساجد , الكل كان مندهشا من جرأته وأقدامه فذاع صيته وأحبته الناس لحلو معشره وطيبة أخلاقه , الكثير من كان يود مساعدته وأرشاده أو تخفيف وطأة الغربة عنه وهذا شأن أهل بغداد في ذالك الزمان , ولكن الفتى كان أبي النفس , فحتم أمره على أن يوفق مطلبه وما سعى أليه ........
كانت هناك دار يقال لها الدار المشؤومة , وهي قصر عتيقة قد أحيطت ببستان , وقصة هذه الدار أن كل من حاول دخولها أما أن يموت أو يصاب بالجنون , وهكذا تحكي الخرافات عنها وبالعامية الدارجة كما يقولون مسكونة , فالكل تتسمر قدماه من الاقتراب منها , وهكذا شأن الفتية يتبارون بينهم , والشجاع فيهم من يقترب من بابها والأشجع من يلمس هذا الباب ................... كانت هناك دارا تطل نافذتها على الباب الكبير لهذا القصر الخرب , وكانت هناك شابة لاهل هذا المنزل قد أثارها المشهد , الصياح والضجيج عندما أقترب الشاب الغريب بعد أن سأل الصبية فيما إذا كان هناك مأوى مجاني يأوي أليه بعد أن ضجر من الخانات , أقترب من الصبية , فدلوه على هذه الدار أنها ضالته ..... سخر قسم منهم , والآخر جزع على مصيره , والآخر رثى له حظه , كان بينهم شاب سيئ الطباع , هو من أشار أليه بدخول هذه الدار ليرى مصير هذه الحكاية , لاموه رفاقه , ولكن الشاب الجريء عزم على دخول الدار والمبيت بها بعد أن توكل على الحي القيوم , وأدرك حديث الرسول (ص)
لسعد بن معاذ ( أني أعلمك كلمات إذا ذكرت فأذكر الله وأذ استعنت فأستعن بالله , وأعلم أنا الأمة لو اجتمعوا ...
إلى أخر الحديث ) فأغره المشهد فاستوت عنده الأمور , وهانت عنده نفسه .............................
لا أريد أن أطيل في السرد , الفتى احمد ولج إلى الدار وكل ما خارج الدار قلق عليه وينظر ماذا سيأتي صباح الغد , هذا كل ما في الموضوع أما أحمد فقد دخل إلى الدار ونام ليلته فيها , ووجدها دارا خربة , وقد أصبحت مأوى للكلاب والقطط السائبة , لم يفكر بإخراج هذه الحيوانات لأنها فقيرة على العموم وقد أوصى ديننا بالرفق بالحيوان .................أما الدار فلا سراج فيها وقد تآكلت جدرانها , وأمتلات أرضيتها بالتراب , رأى أن هناك بابا كبيرا مواريا لباب صغير آخر , فتح الباب الصغير وكان مؤديا إلى غرفة ضيقة الجدران , مسح ما يمكن مسحه بمكنسة قديمة , وأعلق له سراجا , انتابته الوساوس والهموم فكر في أمه وأخوته , وعلم أنه لا بد أن يقاسي الهموم والمتاعب من أجل الحصول على لقمة العيش لمن جاء من أجله , صلى لربه ما تمكن وقرأ سورة الكرسي وغط في نوم عميق كمن لم يذق حلاوة النوم فترة طويلة , وهنا بدأت معجزة هذه القصة التي تنقل الأحداث صدق روايتها , فقد رأى في المنام أن شيخا جليلا قد قدم له حجرا كريما , وكتابا ثمينا فيه علم وحكمة , ومفتاحا , وزهرة فواحة , أشتاق كثيرا إلى تفسير حلمه , وتمنى لو يتحقق فعلا , أما الحجر فقد عثر على حجر قرب عتبة الباب ما أن دخل الدار ولم يعرف قيمته بل أراد أن يلقيه حينما وجده , ولكن لانعكاس الأشعة عليه من ضوء السراج رآه جميلا وقال لاحتفظ فيه من أجل الذكرى , سمع آذان الفجر المنبعث من المسجد القريب , نهض وأغتسل وأدى وضوءه من أغرب شيء لم يتوقعه هو أن في الدار حبا مملوءا بالماء النظيف , فتعجب , وأدرك أن في ألام سرا لا محال , فكيف تقول الناس أنه قصر تسكنه الهوام والجن وما شاكلتها والماء الطازج متوفر , فمن وفره ؟.......................... انتابته الوساوس مرة أخرى ولكن لصدقه مع ربه لم يقدر له عاقبة سوء
مر بالطريق , نظرت له الناس , هرول إلى المسجد , التحق بصف الصلاة , أفشى السلام , رحب به الإمام بعد الصلاة , حظر حلقة الدرس , عجب الجميع من جدارته وشجاعته وغزارة علمه وحسن خلقه , في اليوم الرابع أو الخامس أمتحنه الإمام , ولما وجد فيه من العلم والمعرفة قاده من يده وأوكله إلى أشهر طبيب في المدينة وأوصاه به خيرا , لننظر ماذا جرى للفتى بعد ذالك , كان أبا تلك الصبية المعجبة به آنفا , قد راق له قلبه لفقره وغربته فدعاه يوما إلى العشاء , أوشك الفتى أن يفشي سر حلمه ولكنه عدل عن ذالك , وجد في دار من أضافه أناسا آخرين , سلم عليهم , بادروه بالتحية وحسن الضيافة , سيما الصبية كانت لتسرق من طرفها وتنظر أليه بعض الشيء لما سمعت من ظرفه , وحسن سلوكه وأمانته التي تناقلتها الناس , بالصدفة مد يده إلى جيبه فأخرج الحجر من دون القصد , رآه أحد الجلوس , وطلب منه أن يتفحصه , وبعد برهة من الزمن ساومه على سعره بعد أن عرفه حجرا كريما , فأعلم الفتى بحقيقة الأمر , ودفع له ألفا , ثم ألفا أخرى , وأزاد عدة مرات , ولكن الفتى لم يقبل بالعرض , وأجاب كيف يمكن له أن يتصرف في شيء هو ليس ملكه , دهش الحضور كلهم لغرابة المشهد , حتى أن فتاة صاحب الدار رمقته بنظراتها عندما هم بالخروج من دار أبيها , فأنكس رأسه في استحياء
ذهب إلى داره ( الدار الخربة ) , اضطجع على سريره الترابي , أبصر وكأنه نور يقترب رويدا من غرفته يشق ذالك الظلام الداكن , لم يخف هكذا قد بدا له , كلما أنتابه الخوف قرا قسطا من القران , طرق باب الغرفة , آو قد شعر بحركة في ممر الدار أو هكذا قد بدا له , فتح الباب فوجده أنسانا شيخا بلحية وقورة , بادره بالتحية قبل أن يبدأ الشيخ , أكرمه بالكلام والسلام إذ لم يكن عنده ما يقدمه له , أنصرف الشيخ كما دخل , وقد رآه الفتى أو تبين له أنه يدخل من الباب الكبير المجاور أو يقطن خلفه , هكذا فسر الأمر في نفسه , في الصباح التالي ذهب إلى صلاة الفجر , علم أن أتاه في ظلمة الليل هو الأمام بنفسه , فتعجب لهذه الصروف والظروف , وأعتقد أن في الأمر سرا ولكنه لم يسمح حتى لنفسه بالتفكير في الآمر , وتركها على من يستحق تركها أليه وهو الله عز وجل
فسبحان الله , في اليوم التالي أو الذي بعده وفي نفس الموعد تقدم الشيخ مرة أخرى من غرفة الفتى وقال له يا بني أني شيخ كبير وموحد وليس عندي من أورثه أما الدار فلك المبيت فيه ما شئت وهذا مفتاح خزانته ودله على مكانها , وأما الحجر الذي أطلعتني عليه ولم تبعه فهو لك أستعن بثمنه على دراستك , فلم أجد شابا متواضعا وأمينا مثلك , وكل ما تجده في الدار هو مسخر لخدمتك منذ الساعة , نهض الشيخ يريد الانصراف , فجذبه الفتى برفق من رداءه , وكأنه قد أستذكر شيئا , وقال له ألا تجلس يا عماه وتحدثني قليلا , فسأله على الفور لمن هذه الدار وما شأنها , فأجابه الشيخ أنها لشيخ غريب من أهل الموصل كان منقطعا من أهله , وقد عهد لأبى بمفتاحه
وكنوزه , إذ كان والدي حارسا له , ومنها الكتاب الذي أعطيتك إياه فهو كنز في المعرفة وفيه تحليل المعادن , وسر الكيمياء , فمسك الشاب الكتاب بقوة وعلم أنه الكنز الذي لا يقدر بثمن , وقد أوصى صاحب الدار أن تسلم إلى صاحب علم وتقوى , فلم أجد أجدر منك شابا مترعرعا في العلم والهدى , فأنت من يستحقها , ولولا ذالك أصابتك الأضرار كما أصابت غيرك بشر البلايا , اكملا الليلة في الحديث عن هذا الموضوع , وبعد صلاة الفجر سأل الفتى الشاب الشيخ الوقور ألم تكن هذه الدار للعالم الفيلسوف الغريب الأطوار ( أحمد بن طاهر ) , وكيف عرفت ذالك سأل الشيخ , أجاب أخبرني والدي في يوم من الأيام وأنا صغير بأن جد أبي قد ضاقت معيشته في بلدته أو لانه ضاق ذرعا من أهله فاختار الغربة وقد كان عالما زاهدا , وفيلسوفا كما قلت , وهذه الدار الخربة كان يدخل الطلاب فيها ويدرسهم , وقد أكرمه الوزراء , وأما المال فمن تعبه , وأنت ما علاقتك به , أجاب الفتى أنه جد أبي وكذا قصته ولم يكن بخلدي يوما أن أجد أنا أو أبي أثرا له , أما ألان قد تحققت لي صحة القول , فأنه جدي لا محال وماله أستحقه ألان , وفي اليوم التالي أرسل بشيرا إلى أهله في الموصل أرسل معه الهدايا إلى أمه وأبيه وأخوته أن هلموا سريعا فقد فرج الله عنا كربة الفقر , وان حظيت بالعلم , وأورثني الله مال جدي , ثم أخذ يفكر في حلمه مرة أخرى , المفتاح قد عاد له , الحجر , الكتاب , ولكن ما بال الزهرة لم يذكرها لي الشيخ
فكر من جديد مرة أخرى , ولكنه سمع صوت الطارق قطع عنه أفكاره وكان هذا الطارق والد الفتاة ( جاره )
دعاه الشيخ إلى العشاء قائلا له لا تبقى وحدك هكذا فيصيبك السأم , تعال وأفطر عندنا متى شئت وأقضي مساؤك عندنا وقد رق قلب الشيخ له كثيرا منذ أول وهلة وقد كان الفقر وعوارضه مصاحبتان للفتى أما الآن وقد أفرجها الله عليه فتمنيا القرب منه وأبنته لا تقل عن الفتى زهدا وكفافا وخشية لله فأعجب بها وخطبها من أبيها وتحقق حلمه وما أن أجتمع شمله بأهله حتى علت الفرحة في ذالك البت المهجور وزغردت النسوة وأجمتع شمل الأحبة والأصدقاء وعاشوا حياة ملؤها السعادة والرخاء بفضل الأيمان والتكريس له وسلامتكم .
المفضلات