[align=center]شمر العز والكرم والتاريخ العريض

شاب من أهل الجنوب ، من المثقفين جداً ، ومن المتفتحين ذهنياً جدا ، ومن محبي الترحال والتعارف ، قـُدر له أن يتعين معي في مدينتي ، ولثقافته ، ودينه ، ودماثة أخلاقه ، وسهولة إدارة الحوار الراقي معه ، لتخرج منه على ترسيخ لقناعات أو إعادة نظر بقناعات ، لكل ذلك ربطتني بهي علاقة ودٍ ، ومحبة ، وصداقة ، وبذلك اقترب من صديقين قدمين لي ينتسبان لشمر البطولات ، والعز ، والكرم ، والتاريخ العريض ، فكانت مجالسنا عامره بالحوارات حول كل شيء ،وعن كل شيء ، ولكن لا يغيب الود والاحترام وحب الوصول إلى الحقيقة والقناعات الصحيحة خلال تلك الحوارات ولو لطرفت عين ، فكنّا على سجيتنا مع صاحبنا الجديد ، في باب الصدق ، والنصح ، والكرم دون مبالغة أذكرها ، إلا ان صاحبنا أعظم ذلك منّا ، لديمومته ، والتصاقه بنا كما يزعم ..
فكان يسألنا دائما أكل شمر هكذا ؟
وكنّا نجيبه دائما بضحكاتنا ، وبأننا لا نذكر بين شمر ..
فزاد شوقه للتعرف أكثر عن شمر ..
فكان يسأل ما السبيل إلى ذلك ، والكتب لا تروي عطشي ؟!
فقال أحد أصحابنا : إن أردت فذهب زيارة إلى حائل ، وستعرف شمر ، فبتسم وقال : نعم سأذهب إلى حائل في أول فرصه لي ..
فخالجني شعور ببعض الخوف من تصرف أطيش قد يتعرض له أثناء زيارته يشرخ تلك الصورة التي صورها في نفسه ..
فقلت: يا أخي إن شمر عريضة ، نعم قد حبها ربي ببعض الصفات التي تكاد تتميز بها ، لظهورها بين إفرادها بجلاء ، إلا إنها في النهاية ، كباقي القبائل الأخرى بها الصالح ، وبها الطالح ، ولكن إن كان ولا بد ، فأعلمني فسأرافقك بسفرتك ..
توالت الأيام كعادتها بسرعة ، وحل الصيف.. وإذا بأحد أصحابي يُهاتفني ويقول: أتعلم أين فلان ؟
فقلت: لا ، لا أعلم !!
قال: هو في حائل مع أهله منـذُ صباح اليوم ، ويقول أنه سيمكث فيها ثلاث أيام ثم سيتابع جولته ...
عند ذلك ، والله أن الأرض قد ضاقت بي بما رحبت ، لا شكاً في قبيلتي ، ولكن لأني واقعي ، وأعلم الواقع ، وأخشى من تلك الصورة المثالية التي قد رسمها في مخيلته عن هذه القبيلة ، وأنا أعلم وأنتم تعلمون ، ان المثالية ليست لنا ولا لغيرنا ، ولو على كعبنا بين القبائل .... فأصبحت أعد الأيام والليالي متى سيأتي ، وأنا لا أستطيع مهاتفته ، لخشيتي من هذه الصورة المثالية جدا ... ثم جاءني الخبر أنه قد وصل من سفره ، فاتصلت بهي ، وحمدت الله على سلامته ، ودعوته للعشاء فستجاب لي بسرعة دون رفض يذكر كعادته ... فزورت في نفسي كلاماً أعجبني لمواجهته ، وأنا أخشى من تلك الصورة .. ماذا فعلت به !!
فأول ما دخل .. دخل بوجهٍ بشوش وهو يقول: ( يا بعد حيي يا حائل شمر ) والله مكثت فيها ، وبين أهلها ، أهل الكرم ، والجود ، والرجولة أربعة عشر يوماً كأنها ليلة وضحها ..
عندها كأنه رفعني فوق أجا وسلمى وأنا أنظر إليهم ، وكأنه وضع ثلوج القطبين على صدري ..
فقلت: أسترح إنّـا إلى أخبارك بالأشواق .
فقال: ألم تعجب من سرعة استجابتي لدعوتك ؟
قلت: بلا والله .
قال: السر في أهل حائل روضوني من أول قدمي إليهم ، فكنت أسأل عن شقق للإجار ، ويكون الجواب بيوتنا بيتاً لك ، فأترك الأول ، والثاني ، والثالث ، والعاشر ، والجواب لم يتغير ، فالكل يتمنع عن الجواب، ويصر على إجابة دعوته أولاً ليجيبني ، ولم يكن بداً من الرضوخ وإجابة دعوة الأخير ، على شرط عدم التكلف والاكتفاء بالقهوة فقط ، فانطلق أمامي وكأنه قد بشر بولد قد أتاه ، وبعد جلوسنا بمجلسه العامر بكل معاني الرجولة ، تبادل هو وأبنه بعض الإشارات ، ففهمت أن الشرط قد خرق من الشمري ، لما لا ؟ وهو شرط مخالف لما تربا عليه ، انتهينا من هذا ، وبعد أن هدانا إلى شقة قريبة من منزله ، أحببتها أنا وأهلي لقربها من مضيفنا الأول ، استأجرتها بتلك الحارة المكتظة بالمنازل ...
وعند صلات الفجر ،انطلقت لمسجد الحارة وكلي شوق للتعرف على أهلها ، وابتدأت الدعوات ، وتوالت الاستجابات ، وكثر هدم الشرط ، حتى مضت الأيام ، وتحولت الثلاث أيام إلى أربعة عشر يوماً كأنها ارتداد الطرف ، وأنا الذي لم أمكث في مدينة أكثر من ثلاث أيام . وعندما حانت ساعة الوداع قلت لأهلي استعدوا فنحن قبل الفجر سنسافر ، خيم الحزن عليهم ، وعليّ ، وكأننا سنفارق أهلاً ، وهم والله أمسوا أهلاً وخير أهل ..
فلا أستطيع أن أقول إلا شمر هم أهل الكرم والجود والتاريخ ..
(.. ( ويا ليت شمر هللي

فوالله ، وتالله ، وبالله . يوم سكت وانتهى من كلامه ، لا أغبط ملوك الأرض بملكهم ، لما أحسست به من عزة وفخر ، فلم أنم تلك الليلة .. وأنا أردد .. اللهم لك الحمد ..
وهي حقاً شمر البطولات والعز والكرم والتاريخ العريض ..
[/align]