[align=right]لازلت اذكر ذلك اليوم الذي حضر فيه إلى مجموعتي بوجهه الطفولي البرئ الملئ عزماً و رجولة و عنفوان فقد كان كمثل هذا اليوم يستعد فيه الصيف للرحيل و يلملم حقائبه بعد أن أرهقته عجلة الزمن
لازلت اذكر كيف وفق أمامي كشجرة أرز بشموخها و عزتها . تلمع في عينيه رايات التحدي
- وين أبو احمد ...
- موجود في مقره , شو شايف معاك شب جديد
- نعم هاد بدل الشهيد احمد
- الله يرحمو كان بطل , أبو احمد قاعد بمقره
- السلام عليكم أبو احمد
- و عليكم السلام يوسف اهلا وسهلا , شو اخبار الشباب
- الحمد لله كلهم بيسلموا .... القيادة بعتت الك هاد البطل
- يا اهلين يا ابني ... وصل .... يوسف فيك تمشي اذا بدك و سلم على الشباب كتير
- و أنت يا ابني شو اسمك
- اسمي علي و عمري 19 سنه
- العمر كلو .......... يا سعيد ... سعيد تعى لشوف
- بأمرك معلم أبو احمد
- خود علي عرفوا على الشباب , و خليه يرتاح اليوم , و من بكرى يبلش تدريب مع الشباب
- حاضر ... يلا خي علي
- بعد اذنك أنا مو تعبان , ممكن بلش يدريب من هاي اللحظة
- بس يا ابني أنت جاي من سفر
- مو مشكله ما بدي ارتاح .... و الشباب كمان تعبانين بالتدريب
- طيب متل ما بدك ..... سمعت يا سعيد خليه يبلش تدريب مع الشباب
في اقل من عشر دقائق كان بين الشباب منسجماً معهم كأنه يعرفهم منذ زمن بعيد , لقد كان أصغرهم سناً كان شغوفاَ جداَ بالتدريب حتى انه لم يكن يرتاح يحاول معرفة كل شيء حتى في وقت راحته , كان يطلب مني أن يذهب مع الشباب إلى الاستطلاع و كان يقول لي :
- لا تخاف يا معلم أنا بعجبك
و سرعان ما اكتسب محبة الجميع و تقديرهم
لازلت اذكر كيف كان يسهر على أي من الشباب إذا أصابه مرض أو تعرض لإصابة أثناء التدريب
وكم كان يغضب إذا ناداه احدهم يا ولد فقد كانت تثور ثائرته و يقول
- أنا مو ولد أنا رجال و بعشر رجال كمان و بكرى بتشوف
كنت أضحك من كل قلبي عندما اسمع كلامه الذي يسبق عمره بكثير كان مؤمناً بالشهادة و بالله إيماناً راسخ رسوخ الجبال .......
و تاتي اللحظة التي انتظرتها زمناً طويلاً بعد آخر عملية نفذناها ضد قوات الاحتلال الغاشم , و يتم استدعائي إلى المقر القيادة و هناك أقابل القائد المسؤول عن العمليات العسكرية ....
- نعم سيدي
- كيفك يا أبو احمد و كيف جاهزية الشباب
- الحمد لله و الشباب جاهزين 100 %
- شوف يا أبو احمد العملية مو سهلة ... فيه دورية إسرائيليه مكونه من دبابات و عربات بدها تتحرك من مرجعيون و مجموعتك مكلفة تنصل الها كمين و تدمرها ..
- نحن جاهزين سيدي
- شوف هاي الطريق يلي بدهم يتحركوا عليه ... بدء التحرك الساعة 4 الفجر رح يوصلوا لموقع الكمين
الساعة 5.30 صباحاً .. حاولوا تدمير الدبابات بالألغام و الـ ار بي جي
- حاضر سيدي ... رح نبدأ التحرك الساعة 9 مساء , منوصل إلى موقع الكمين الساعة 11 ليلاً و رح نقوم بالازم
- موفق يا أبو احمد و الله معاكم و يحميكم و تبيضوا وجهنا
- ان شاء الله سيدي ... بتأمر بشي تاني
- الله معاك و مع رجالك
خلال طريق العودة كنت ارسم خطة الكمين وكيف يجب ان ينفذ و استعيد بذاكرتي كل العمليات التي نفذتها سابقاً و مر أمامي شريط الشهداء الذين سقطوا وهم يرسمون لوحات بطولية و سقوا الأرز و منحوا شقائق النعمان لونها الأرجواني , بدمائهم الطاهرة .
و صلت إلى المعسكر و استدعيت سعيد و محمد و طلبت منهم أن يجمعوا الرجال فورا في قاعة الاجتماعات
بدأت الاجتماع :......
بسم الله الرحمن الرحيم
- يا شباب اليوم وصلتنا تعليمات للتحرك عندنا عملية , جهزوا نفسكم للتحرك و لا تنسوا ترتاحوا
- أنت يا علي رح تبقى هون
- ليش يا معلم أنا بدي كون معكم
- بس يا علي أنت جديد و هاي مهمة خطيرة كتير
- و أنا ما اجيت على المقاومة مشان ارتاح , أنا بدي روح معكم . بعد إذنك طبعا يا معلم
- طيب جهز نفسك مع الشباب , و بتبقى جنبي
لن أنسى تلك الضحكة التي لمعت في عينية و هو يصيح الله و اكبر ....
- شباب الساعة ألان 12 بعد الضهر معانا تسع ساعات لحتى نتحرك جهزوا كل شي , الساعة 8 المسا منكون جاهزين لأخذ التعليمات والتحرك .... ناموا منيح و لا تنسوا شي
ثم عدت إلى مقري برفقة سعيد و محمد حيث أطلعتهم على المهمة ووضعنا خطة التنفيذ و حددنا المجموعات اللازمة لتنفيذ المهمة ثم طلبت منهم أن يذهبوا و يرتاحوا هم أيضاً ..
بقيت وحيداً في مقري جلست ارتشف فنجان قهوة و انظر إلى الخريطة المعلقة على الجدار أمامي من خلف سحابة من البخار المتصاعد من الفنجان الذي في يدي .....
في الوقت المحدد كان الجميع جاهزاً و اتى سعيد ليخبرني عن جاهزية الرجال للتحرك بعد ان تلقوا المعلومات اللازمة لتنفيذ المهمة كل بما يفيد عمله مع مراعاة المعرفة على قدر الحاجة
خرجت إلى الرجال و تلونا الفاتحة معاً و بدأنا التحرك تحت ضوء النجوم , و كان علي يتحرك إلى جانبي وهو فرح بأنه موجود معنا و في الطريق قال لي
- معلم ممكن كون أنا أول من يطلق النار على أولئك الأوغاد
نظرت إليه و مشاعر كثيرة تدور في عقلي دهشة ... و فخر ... و فرح وقلت في نفسي هنيئاً لك يا بلدي بوجود مثل هذا الشباب و أجبته بضحكة صغيرة ...
فقال لي
- السكوت علامة الرضى معلم
و غمز لي بعينه التي لمعت في الظلام كوميض البرق
في الساعة 11.05 ليلاً كنا في المكان المحدد للكمين
حيث بدء الرجال بزرع الألغام على الطريق الذي من المقرر أن تسلكه آليات العدو و كذلك العبوات الناسفة على أطراف الطريق ....
و توزع الرجال حول جانبي الطريق و بدءوا بتمويه أنفسهم حتى أصبحوا قطعة من الأرض التي اقسموا أن يرووها بدمائهم و الأشجار التي عاهدوا الله أن تبقى شامخة .
و بدء الوقت يمر ببطء شديد و نحن ننتظر
كان علي ينظر كل ثانية إلى ساعته عشرات المرات فقلت له اهدأ يا بني إن الانتظار يمر ببطء فلا تقلق وهذه مهمتك الأولى فتحلى بالهدوء .
و مرت الثواني و الدقائق و الساعات بثقل ... و مع خيوط الصباح الأولى بدأت أصوات هدير محركات الدبابات بالاقتراب و بدأ الرجال الاستعداد للقتال و ما هي إلا لحظات حتى ظهرت أول دبابة و خلفها تتحرك البقية من آلات الدمار ... و ما ان وصلت إلى ذلك المنعطف حتى مزق صمت السكون دوي انفجار تطايرت معه قطع الحديد و صراخ الجنود ....
و كبر الرجال و بدأت المعركة بالأسلحة الرشاشة و مضادات الدروع و بدأت جحافل الحديد تحترق و تستقبل الفجر بنيران تلتهمها و تحيلها إلى رماد
و بدأت الدبابات بالتحرك خارج الطريق و يتحرك خلفها جنود أصابتهم الدهشة و تملكهم الخوف و كانت تجد مضادات الدروع لها بالمرصاد و تمكنت إحدى الدبابات من الابتعاد قليلا ً خارج مرمى نيراننا و فتح نيران أسلحتها الرشاشة ومدافعها على أماكن الرجال و هي تحمي من بقي من الجنود و تغطي هربهم
هنا قال لي علي :
- يا معلم حرام هاي تبقى تعيق عملنا
- مو مشكله يا علي المهم انو احبطنا تقدمهم و دمرنا عدد كبير من دباباتهم و قتلنا عدد كبير من جنودهم
- محمد ... سعيد يلا خلونا ننسحب ... المهمة نفذت على أتم وجه
نظرت إلى علي فلم أجده في مكانه ... نظرت حولي بحثاً عنه و إذا بسعيد يصرخ :
- يا أبو احمد شوف علي وين صار ؟؟؟!!
نظرت إلى حيث أشار بيده فإذا بعلي يزحف نحو مربض تلك الدبابة كنمر يتحين الانقضاض على فريسته
و بدأت قطرات من المطر الخفيف تروي وجه الأديم وبدأت رائحة التراب تعبق في المكان ....
و اقترب علي أكثر من الدبابة الإسرائيلية و انقض عليها و دوى انفجار مزق نوره نور الصباح و تطايرت الدبابة قطعاً في الهواء و كان صوت صراخ علي بكلمة الله اكبر أعلى من صوت الانفجار ....
حتى السماء بكت علياً و استقبلته الملائكة بعطر الأرض .......................... [/align]
المفضلات