[align=center]قصة حقيقية أنقلها هنا بتصرف وصياغة عن شاب من سكان جدة:
كنا في صباح يوم جمعة, في بيت والدتي بمدينة جدة. وعندما أقبل الضحى طلبت من خالي الذي توافق وجوده معنا ذلك اليوم أن نذهب لأداء صلاة الجمعة في مكة, ثم نعود بعدها مباشرة. قال خالي: فكرة, ولكن نحتسي أولا كوبا من الشاي ثم نذهب. قلت: بل نشرب الشاي على الطريق, ولك علي أن أشتري لك شايا عدنيا استثنائيا. نريد أن نبلغ الحرم قبل الزحمة. وافق الخال, وانطلقنا إلى مكة, وفي الطريق إليها لفت نظري قبلها بحوالي خمسة وأربعين كيلومترا بيت أبيض بعيد عن الطريق, بيت من بيوت الله, كان أكثر ما يميزه لونه الأبيض الجميل, ومئذنته العالية الوادعة. كان المسجد مبنيا على سفح جبل أو تل, ما يجعل الوصول إليه صعبا, خاصة على كبار السن, وإن كان واضحا أن من بنى المسجد بناه على هذا الشكل ليجعله ظاهرا للعيان.
كان المسجد مهدما, وبمعنى آخر: كان ثلثي مسجد, الجزء الخلفي مهدوم تماما, لا توجد به أبواب ولا شبابيك.. لم يكن أكثر من مسجد مهجور في مكان مرتفع من الأرض.
واصلت المسير إلى مكة, لكن صورة المسجد المتداعي لم تفارق مخيلتي أبدا, ربما لجماله وموقعه الأخاذ, وربما لشموخه ووقوفه في وجه تقادم السنين.
بعد أن وصلنا الحرم, وأدينا الصلاة فيه, قفلنا راجعين إلى جدة. كنت في الطريق أتطلع إلى رؤية المسجد, طيفه لم يبارح ذاكرتي, ولم أعرف لماذا شدني منظره إلى ذلك الحد.
تمهلت في سرعتي أملا في رؤيته. أذكر أن المعهد السعودي الياباني لا يبعد عنه أكثر من خمسمائة متر, وكل من يمر بالطريق السريعة يستطيع تمييزه بسهولة. ولمحته وخفق قلبي.. لا أدري لماذا؟
هذه المرة لفت نظري شيء. سيارة فورد زرقاء اللون تقف بجواره. ترى, ما شأن هذه السيارة؟ وماذا لدى سائقها ليوقفها في هذا المكان؟ وهنا قررت الذهاب إلى المسجد. انعطفت يمينا باتجاه الطريق الترابي المؤدي للمسجد. سألني خالي: خير؟ وش فيك؟
اتجهت يمينا من ناحية المعهد السعودي الياباني في طريق ترابي طوله خمسمائة متر, ثم يمينا مرة أخرى, ودخلت بعد ذلك سورا لمزرعة قديمة, وإذا بي أمام المسجد مباشرة. هتف بي خالي: وش فيك؟ رد علي.
قلت: أبدا.. أشوف راعي السيارة وش عنده.
قال: مالنا ومال الناس؟
قلت: خلنا نشوف يا ابن الحلال, وبالمرة نصلي العصر.
أوقفت السيارة قرب السفح. وصعدنا إلى المسجد. ولما وقفنا على مقربة من عتبته, سمعنا صوت شاب يرتل القرآن باكيا, وإذا به يردد الآية من سورة (الرحمن): "كل من عليها فان, ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام".
قررت أن نبقى في الخارج لننصت إلى التلاوة, لكن فضولي غلبني, لأرى هذا المسجد, أو بقايا هذا المسجد, الذي هجرته حتى الطيور.
ودخلنا المسجد, وإذا بشاب مفترش سجادة على الأرض, وفي يده مصحف صغير يقرأ فيه, ولم يكن في المسجد سواه, أجل, لم يكن هناك أحد غيره. سلمت على الفتى, فنظر إلي باستغراب, كأنما أفزعته, ثم رد التحية.
سألته: أصليت العصر؟
- لا
- هل أذنت؟
- لا, كم الساعة؟
- خلاص, دخل الوقت.
رفعت الأذان, ولما هممت بالإقامة, رأيت الشاب ينظر ناحية القبلة مبتسما. لمن يبتسم؟ ولماذا؟ وقفت لأصلي, فإذا الشاب يقول: أبشر.. جماعة مرة واحدة. انعقد لساني, ولم أحر كلمة, ونظر إلي خالي متعجبا, لكنني قررت تجاهل الأمر وكبرت للصلاة. صليت, وفي ذهني تتردد عبارة الشاب: "أبشر, جماعة مرة واحدة".
بعد الصلاة أقبلت بوجهي على (الجماعة), وأشار خالي لي بالانصراف, لكنني قلت له: اسبقني إلى السيارة. نظر إلي كأنما يشفق علي من هذا الفتى الغريب, الذي يتوقف عند مسجد مهجور, ويقرأ القرآن فيه, ولا ندري مع من كان يتحدث حين قال: أبشر, جماعة مرة واحدة!
لقد كان المسجد خاليا إلا منا نحن الثلاثة. هل هو مجنون؟ هل دخل شخص آخر لم أره؟ لا, مستحيل, لم يدخل أحد غيرنا.
بقيت أنا والشاب وحدنا بعد خروج خالي, ونظرت إليه فإذا هو مستغرق في التسبيح, سألته: كيف حال الشيخ ؟ قال: بخير ولله الحمد.
سألته: هل لي أن أعرف من أنت؟ فأخبرني باسمه واسم أبيه.
قلت: فرصة سعيدة يا أخي, بس الله يسامحك, أشغلتني عن الصلاة.
- ليش؟
- سمعتك تقول أثناء الإقامة: أبشر جماعة مرة واحدة.
قال ضاحكا: ويش فيها؟
قلت: من كنت تخاطب؟
أطرق الشاب هنيهة وكأنه يفكر كيف يجيبني, ثم رفع رأسه وقال: أخشى أن تقول إنني مجنون. تفرست في ملامحه, ثم ضممت ركبتي إلى صدري حتى أشعره بالحميمية والقرب. قلت: لا أعتقد أنك مجنون. أنت شاب هادىء, وصليت معنا ولم أسمع أو أر منك ما يدعوني إلى هذا الظن.
نظر لي .. ثم قال بهدوء: كنت أكلم المسجد.
سألته فورا وكأني أريد حسم النقاش مبكرا: وهل رد عليك المسجد؟
تبسم قائلا: ألم أقل لك إنك سترميني بالجنون؟ وهل ترد الحجارة؟ وكيف يمكن لإنسان مثلي أن يخاطب الحجارة وتخاطبه؟
ابتسمت: حسنا, ما دامت لا ترد فلماذا تخاطبها؟
قال: أليس من الحجارة ما يهبط من خشية الله؟ أليس منها ما يشقق فيخرج منه الماء؟
- سبحان الله, كيف لي أن أنكر ما جاء في كتاب الله؟
- حسنا, وقوله تعالى: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده".
- لم أفهم.
نظر الشاب إلى الأرض, ثم قال دون أن يرفع عينيه: أنا أحب المساجد, وكلما رأيت مسجدا قديما أو مهجورا أو مهدما, يخفق قلبي وأفكر في أمره. يراودني شعور أنه مشتاق إلى الأذان, مشتاق إلى الركع السجود, مشتاق إلى تلاوة القرآن. أشعر أنه يحن إلى التسبيح والتهليل, يتمنى لو آية واحدة تهز وجدانه أو جدرانه.. هكذا أفكر إذا رأيت مسجدا مهجورا. أتطلع إلى مئذنته وأقول في نفسي: أجزم أنك مشتاقة إلى الأذان.. وتتمنين لو انبعث منك نداء (حي على الصلاة).. المسجد المهجور يشعر باليتم, يشعر بالوحدة. يشعر أنه غريب بين المساجد. أتأمل القبلة والمحراب فألمس الحزن والكآبة تجللانهما.. أشعر أن المحراب يتمنى لو أن عابر سبيل يتمتم فيه: الله أكبر.. ثم يتلو: الحمد لله رب العالمين.
وإذا رأيت هذا المشهد الحزين لا أتمالك نفسي, وأقول: والله لأطفئن شوقك أيها المسجد, لأعيدن بعض أيامك الجميلة الزاهرة. ثم آتي إليه وأصلي ركعتين, وأقرأ فيه شيئا من القرآن.
سألته: أليس هذا غريبا؟
قال: لا.. أنا أحب المساجد.
هنا ترقرقت الدموع في عيني, وتذكرت حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, ومنهم رجل قلبه معلق بالمساجد, وقلت في نفسي: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
دق خالي منبه السيارة, وودعت الفتى قائلا: جزاك الله خيرا, لا تنسني من صالح دعائك.
وهممت بالخروج, فقال الشاب وعيناه ما زالتا تنظران إلى الأرض: هل تعرف ماذا أدعو الله وأنا خارج من مسجد مهجور؟ قلت في نفسي: من كان هذا فعله, فما عسى أن يكون دعاؤه؟ تأملت وجه الفتى الوضيء متمنيا لو توقف الزمن لأراه أكثر. سألته: لا أعلم..فأخبرني عن دعائك.
قال: اللهم إن كنت تعلم أني آنست هذا المسجد بذكرك العظيم, وقرآنك الكريم, فآنس وحشة أبي في قبره يا رؤوف يا رحيم.
عندئذ لم أتمالك مشاعري فانفجرت باكيا, وعجبت من بر هذا الفتى بأبيه بعد موته, وجاشت في نفسي مشاعر شتى: ليتني مثله, بل ليت لي ولد مثله.. ترى, كيف رباه أبوه, وعلى أي شيء نربي نحن أبناءنا؟
ركبت السيارة وعدنا إلى جدة, ولا يزال طيف الفتى وصوته يلحان علي ويتملكان وجداني.[/align]
المفضلات