الأبعاد الفلسفية في قصة حيّ بن يقظان عند ابن طُفَيْلْ
٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦ ، بقلم أنور أبو بندورة
توطئة
إن ما يميز قصة حي بن يقظان التي كتبها الأديب والطبيب والفيلسوف الأندلسي أبو بكر محمد بن طفيل، هو الفرادة في اعتماد الفكرة، الابتكار في البناء الفني، البراعة في المعالجة، والفعالية في الإيحاء. لقد عرض ابن طفيل في هذه القصة سيرة المعرفة الإنسانية، عبر سيرة ربيب ظبية دُعِي حي بن يقظان، وكيف تمكن بفطرته الفائقة من الارتقاء بالمعرفة من الحواس والتجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على نتائج ومعطيات ما جربه وخبره في عالم الكون والفساد حتى الخلص إلى الحكمة الشرقية.
القصة
إن ولادة حي بن يقظان يبقى لغزا، ومع ذلك فإن الرواية السائدة تقول أن حي بن يقظان قد ولد تولدا جسديا مألوفا من أم هي شقيقة ملك إحدى الجزر الهندية، ومن أب هو قريب لها اسمه يقظان، كانت شقيقة الملك قد تزوجته خفية عن شقيقها الذي منعها من الزواج، وعندما وضعت المرأة طفلها خشيت من نقمة شقيقها الملك، فوضعت الطفل في تابوت وألقته في البحر. حملت الأمواج التابوت حتى ألقته على ساحل جزيرة مجاورة هي جزيرة الواقواق. وصادف أن مرت في المكان الذي استقر فيه التابوت ظبية كانت تبحث عن ابنها الذي فقدته فسمعت صوت بكاء الطفل فاتجهت نحوه، وكان أن عثرت على حي الوليد فأرضعته وحضنته.
يكبر حي بن يقظان وتمر حياته في سبع مراحل. أما الأولى فهي إرضاع الظبية لحي وحضانتها ورعايتها له حتى جيل سبع سنوات. ثم بعد ذلك وفاة الظبية وتشريحها من قبل حي لمعرفة سبب الوفاة، وهنا بدأت تتكون عند حي المعرفة عن طريق الحواس والتجربة. أما المرحلة الثالثة فكانت في اكتشاف النار. أا المرحلة الرابعة فكانت في تصفحه لجميع الأجسام التي كانت موجودة حوله، فكن بذلك يكتشف الوحدة والكثرة، في الجسم والروح، واكتشف تشابه الكائنات في المادة واختلافها في الصور. أما المرحلة الخامسة فكانت في اكتشاف الفاء وهذا شجعه إلى الخروج من رصده إلى معارف في العالم بقدمه وحدوثه. عند بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره، بدأ حي مرحلته السادسة وهي الاستنتاج بعد التفكير، فتوصل إلى أن النفس منفصلة عن الجسد وفي التوق إلى واجب الوجود. وأخيرا، يصر حي بن يقظان، في المرحلة السابعة على أن سعادته تكون في ديمومة المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود ورغبته في البقاء داخل حياة رسمها هو لنفسه .
مما ينبغي إضافته أيضا في بداية الدراسة هذه، أن معنى اسم حي بن يقظان لم يكن وليد صدفة. ف"حي" يرمز إلى العقل الفعال أو النفس الملكية المفكرة، وهو عقل خالد حي لا يتغير ولا يهرم. و"ابن يقظان" هو القيوم الذي لا ينام له جفن، ويهدي الإنسان إلى الحقائق عن طريق المنطق ويحذره إتباع الحواس والغرائز فقط .
روبنسون كروزو، نظير لاحق لقصة حي يقظان
لعل غوتيه كان أول من بحث علاقة قصة حي بن يقظان بقصة روبنسون كروزو المنشورة عام ١٧١٩ تحت عنوان The life and strange surprising adventure of Robinson Crosoe of Daniel de Foe. لدانييل دو فو، ووقف غوتيه عند حد افتراض اطلاع دو فو على قصة ابن طفيل .
فالتشابه في الأحداث مثير حيث بناء البيت، إنشاء المخزن، تدجين الحيوانات. والقصتان تسجلان تطور الإنسان والتاريخ من البدائية والحيوانية إلى الحضارة. ونتذكر هنا المراحل التي مر بها حي في صنع الملابس والسلاح للدفاع والصيد واكتشاف النار. وننوه أيضا أن روبنسون كروزو قد علم اللغة فرايدي اللغة بنفس الطريقة التي لجأ إليها إسال في تعليم حي.
فالرأي القائل بتأثر دو فو بقصة ابن طفيل، هو رأي قوي، وهذا ما نوه عنه محمد مندور في كتابه "نماذج بشرية" من انفعال دو فو بحادثة واقعية حصلت سنة ١٧٠٥ وهي حادثة إلقاء الربان سترلنج للبحار سالكرك في جزيرة فرنناديز المهجورة عام ١٧٠٥ حيث عاش أربع سنوات في عزلة تامة. ذلك أنه يجب أن لا ننسى أن دو فو قد كتب قصته هذه بعد إحدى عشر سنة من هذه الحادثة، وأن ترجمة قصة ابن طفيل إلى الإنكليزية قد ظهرت سنة ١٧٠٨ أي بعد حادثة سالكرك بثلاث سنوات وقبل قصة دو فو بإحدى عشر سنة.
وهذا أمر يحملنا على تأكيد الاعتقاد بأن دو فو قد اطلع ولا شك على قصة ابن طفيل وتأثر بعالمها، فكان انفعاله بحادثة سالكرك ثم تأثره بعالم قصة حي بن يقظان مصدر وحيد في كتابة قصة روبنسون كروزو، ويكفي أن كروزو يلح على تذكيرنا بحي بمساعيه في تحويل العزلة إلى أنس والبطالة إلى عمل والعبث إلى جدوى.
لكننا نضيف أن كروزو يمثل نمطا للرجل العملي دنيويا، في حين يمثل حي بن يقظان نمطا مثاليا للحياة التأملية الصوفية. فالحاجة أم الاختراع.. هكذا فُسرت منجزات روبنسون كروزو.. ومن هذه الزاوية يمكن تفسير منجزات حي الحسيّة دون إغفال فطرته الفائقة.
من القصة إلى الفلسفة
إن استحضار عالم الخيال أو الرمز لعرض الأفكار الفلسفية أو للتعبير عنها في قالب فني من الأساليب التي عهدتها الفلسفة منذ نشأتها، وفي ذلك أمثلة لا تحصى فيها على سبيل الذكر استخدام أفلاطون للترهات الإغريقية وللأساطير إطارا أو على سبيل الاستشهاد في محاوراته مع طيماوس وكريتياس من الشعر وتشوانغ تزو من القصص قوالب لعرض الفلسفة الطاوية . وهنا لا بد من التنويه بما وصلت إليه العناية بالقالب الفني جماليا وتقنيا لدى ابن سينا في قصيدة النفس ، والمعري في رسالة الغفران، بحيث وصلت هذه الأعمال فنيا إلى المستوى الفني الراقي فلسفيا حتى كانت قصة حي ابن يقظان القمة. ولا شك أن المقومات التي نشأت وقامت عليها القصص الفلسفية الأوروبية ابتداء من القرن الثامن عشر حتى اليوم من "فولتير Voltaire" و "روسو "Rousseau و "سارتر "Sartre و "كامو Camus"وغيرهم مثلا تنتمي إلى تلك المقومات التي حُبكت عليها قصة حي بن يقظان.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد ما تقدم هو هل أن للعمل الفني الطاقة في التعبير عن الفكر الفلسفي لصاحبه. الجواب على هذا السؤال هو ما ردت به سيمون دو بوفوار على أولئك الذين يرفضون اعتماد العمل الفني للتعبير عن أفكارهم ومواقفهم الفلسفية فاعتبرتهم"يفضلون الماهية على الوجود، ويحتقرون المظهر بوصفه دون الحقيقة المشتركة، وأما إذا عرفنا أن المظهر نفسه حقيقة وأن الوجود إنما هو حامل الماهية، وأنه لا سبيل إلى فصل الابتسامة عن الوجه الباسم، ومعنى الحدث عن الحدث نفسه، فهنالك لا بد للرؤيا الفلسفية من أن تعبّر عن نفسها من خلال اللمع الحسية والبوارق المادية التي تنبعث من العالم الأرضي نفسه" .
فلسفة ابن طفيل: من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة
تنبه ابن طفيل منذ قرون عديدة إلى ما يمكن أن يؤديه الفن في التعبير عن فكره الفلسفي، فكان أن استخدم فن القصة، وكانت قصة حي بن يقظان التي قدمت لنا فكر ابن طفيل الفلسفي، فإذا نحن أمام سيرة للمعرفة الإنسانية.
أ - من العزلة إلى المعرفة
في سيرة المعرفة الإنسانية تلك التي يعرضها كتاب حي بن يقظان تلفت نظرنا في نشأتها تلك البيئة، ونعني بها العزلة عن الناس، التي يعيشها نموذج هذه السيرة. وسرعان ما يتكشف لنا أن حياً أخذ يغالب هذه العزلة بطلب المعرفة، فطلب المعرفة وسيلة من وسائل التغلب على العزلة، إذ تدفعنا المعرفة إلى الانصراف عن عزلتنا المركزة في ذواتنا، وتنقلنا إلى مكان آخر وزمان آخر، حيث نتصل بالذات الأخرى، فهي فرار من العزلة ومخرج لمعرفة أنا أخرى. وعن طريق المعرفة يخرج الانسان من توحده، ويتوقف عن الحياة في نفسه لنفسه. وليس من الممكن أن نتجاهل الجانب الاجتماعي للمعرفة إذ أنها تساعد على إقامة الاتصال بين الناس، فإن كل محمولاتها وكل منطقها الجماعي وجهازها المنطقي من تصورات ولغة ومعايير وقوانين.. كلها اجتماعية.
وللمعرفة عند ابن طفيل نهج وصفات. أما النهج فهو سبل وأسباب الحصول عليها، وهي عديدة: النظر، المراقبة، المحاكاة، الملاحظة، الاكتشاف، المصادفة، الحاجة، التجربة، الاختبار، المقارنة، القياس، الاستنتاج، الحدس، التصرف.. إذاً فالمعرفة مكتسبة وليست مخلوقة، وتلك هي الصفة الأولى من صفاتها، أما الصفة الثانية فهي أن المعرفة متطورة وليست ناجزة، وعلى هذا كانت صفتها الثالثة كمتدرجة وليست خالصة. أما الصفة الرابعة فهي كونها متفرعة متنوعة.
ويكاد النظر والمراقبة والملاحظة تجتمع معا، ذلك أن حياً كان "ينظر إلى جميع الحيوانات" "وكان يرى أحياء الوحوش تتحامى ميتها وتفرّ عنه".. كل هذه الاقتباسات وأخرى تدل على اجتماع النظر والمراقبة والملاحظة.
أما المعرفة عن طريق الاكتشاف أو الصدفة، فبمسعى حي (قيامه بتشريح الظبية) يكتشف حي ما في داخل الظبية من أعضاء داخلية وصفاتها ووظائفها، وقد يجتمع الاكتشاف مع الصدفة فيأتي نتيجة لها.
أما المحاكاة وهي من نتائج النظر والمراقبة والملاحظة، فقد باشرها حي منذ طفولته مقلدّاً الحيوانات والطيور في دفاعها وكسائها فيتخذ له بدل قرونها وأنيابها عصياً وبدل وبرها كساء من أوراق الشجر أو من ريش الطير. وبعدما يشرح الظبية يدفنها تقليداً للطير في دفن موتاه.
أما الحاجة فكانت تدفع بحي إلى المعرفة بين الحين والحين. فحاجة حي لاتقاء البرد وللحماية دفعته إلى تقليد الحيوان في كسائه ودفاعه عن نفسه. "واهتدى إلى البناء بما رأى من فعل الخطاطيف.. فاتخذ مخزناً وبيتاً لفضلة غذائه".
أما التجربة والاختبار فيتجليان في مواضيع عدة، منها تشريح حي للظبية، ثم اختباره لقوة النار.
والمقارنة والقياس والاستنتاج هي نتاج ما تقدم من سبل وأسباب مجتمعة أو منفردة بنتيجة تجربة حي في تشريح الحيوان يستنتج حي وجود روح حيواني في أجزاء الجسم المختلفة، ويتبين له اختلاف الأشياء بصفات واشتراكها أو اتفاقها في صفات أخرى من خلال تصفحه الأجسام. ثم يتوصل حي بالقياس والمقارنة إلى طبيعة المادة وتركيب الأجسام من هيولي وصورة حتى إذا تأتى له ذلك خلص إلى أن الفساد مُحدثٌ للصورة وهكذا حتى آخر أدوار حياته قبل لقائه بأسال.
أما الحدس فهو طريق حي لمعرفة ما هو غير محسوس عن طريق ذاته، ويأتي هذا الحدس دوماً مرتبطاً أو ناتجاً عن أسباب ومصادر. فوجود العالم هو الذي جعل حي يحدس بوجود قوة أقوى ذلك أن "كل حادث لا بد له من مُحْدِث".
بقي السبيل إلى السعادة وهو في دوام المشاهدة للموجود أمامه ويتسنى ذلك بالمشاهدة الصرف والاستغراق الكامل بوجه من الوجوه أو بشيء من الأشياء.
إذاً فالمعرفة، لا بد أن تكون مكتسبة، لا مخلوقة مع الإنسان. وهذه المعرفة لا تقف عند حد، فهي تتطور وتتدرج. فحي يرتقي في المعرفة عن طريق الحواس والنجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على الإستنتاج من التجربة في عالم الأرض إلى التأمل في السماء والعالم بأسره خروجاً من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، وكان لا بد وللمعرفة تطورها وتدرجها من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة أن تتفرع جوانبها فتتنوع موضوعاتها. وهكذا توصل حي إلى الإحاطة بمواضيع تنتمي إلى ما اصطلح على تسميته بالعلوم وهي بالواقع الصيغ التي انضوت فيها المعارف الإنسانية، وهكذا حوت قصة حي بن يقظان التربية Pedagogy، والجغرافية Geography، وعلم نشوء الكون Cosmography، والرياضيات Mathematics، والأخلاق Moral، والفلك Astronomy، والعلوم الطبيعية من فيزياء Physics، والكيمياء Chemistry، وعلم الحياة Biology، وأخيرا إلى علم الإجتماع Sociology، وما وراء الطبيعة ****physics.
لا بد لنا أن نقارن بين الالتقاءات العجيبة بين المعرفة عند ابن طفيل وبين المعرفة عند ديكارت.
فالقواعد الديكارتية الأربعة في المنهج، نجد ملامحها في المباحث التي يقوم بها حي. فالقواعد الديكارتية الأربعة هي اليقين، وخلاصتها تجنب التهور والسبق إلى الحكم قبل النظر، قاعدة التحليل، وقوامها تقسيم المشكلة التي تُدرس إلى أجزاء بسيطة قدر الحاجة، وقاعدة التركيب والهدف منها التدرج في المعرفة من البسيط إلى المركب، ومن ثم قاعدة الإحصاء أو التحقيق ومفادها القيام باحصاءات كاملة ومراجعة شاملة للتحقيق من أن الباحث لم يغفل شيئا.
وعلى الرغم من أن ابن طفيل لم يتخلَّ عن القياس الأرسطوطاليسي، فإنه لم يكن بعيداً عن تلك الاستوائية القائمة على المنهج التجريبي الذي نادى به بعده بعدة قرون فرانسيس بيكون صاحب "الأرجوان الجديد" عندما ذهب إلى "أن الفلسفة الحقيقية إنما تلك التي تعمل على إيضاح لغة الكون وتفسير كلمات الطبيعة فلا تُضيف شيئا من عندها إلى ما تجده مدوناً في الطبيعة أو ما يمليه عليها الكون" ذلك أننا نجد حي بن يقظان يسعى عبر قصته إلى إيضاح لغة الكون مما يمليه عليه هذا الكون وإلى تفسير كلمات الطبيعة من خلال ما وجده مدوناً فيها.
ب - تربية حي بن يقظان
أول ما يُلفت النظر في تربية حي بن يقظان هو ذلك الحنان الذي تُضفيه الظبية على ربيبها حي. لم يترك ذلك الحنان أمر ترك الطفل ينشأ تنشئة طبيعية بحيث تنمو شخصيته بحريته دون أن تفارقه مربيته الظبية. وبعد موتها نجد حيّ بن يقظان إنساناً يعيش بعيداً عن المجتمع البشري يسعى إلى النعرفة ويكتسبها متطوراً بكل الأساليب المذكورة أعلاه.
أما الأخلاق في قصة حي بن يقظان فهي تتجلى حيناً في موقف نفسي عاطفي يظهر مثلاً في تلك المحبة، وذلك العرفان بالجميل من حي نحو الظبية التي ربته من خلال مساعدتها وإطعامها وجلب الثمار لها عند عجزها. كما نرى الأخلاق تتجلى حيناً في موقف من النمط الاجتماعي التمدني – رغم عدم وجود مجتمع أو مدنية – بمساعدته كل الحيوانات أو الطيور التي تعاني من عاهة ما أن يساعدها، برفعها او اقتلاع شوكة ضارة.. ويصل الموقف الاجتماعي التمدني لدى حي على المستوى الطهارة وإزالة الدنس والرجس عن جسمه والاغتسال بالماء في أكثر الأوقات، وتنظيف ما كان من أظافره وأسنانه وبواطن بدنه، وتطييبها بما أمكنه من طيب النبات وصنوف الدواهن العطرة.
ج - حي من معارف إلى الطبيعة.. إلى علومها
وكانت المعرفة بالصيغة التي سُميت علوماً طبيعية هي أول ما وصل إليه حي بن يقظان، وقد باشر بعلم الحيوان والطب إذ قام بتشريح الظبية وتعرف إلى أعضائها الداخلية عضواً عضواً ودقق في أوصافها ووظائفها، ومن ذلك ينتقل إلى النبات والمعادن وأصناف الحجارة والتربة والماء والبخار والدخان.
وبالنسبة إلى صفات الأجسام وخواصها نجد حياً يكتشف الأحجام في الأجسام، وإلى الحرارة والبرودة وتحولاتها ونحو ذلك من الاختلافات. ويبدو أن حياً اكتشف الجاذبية وأثرها على الأجسام من حيث ثقلها.
أما مسألة النشوء، فنراه في ولادة حي بن يقظان نفسه حيث يعرض ابن طفيل النشوء المرتجل لحي بن يقظان على أساس أنه عمل طبيعي يلتزم بمسألة النمو الطبيعي أي البيولوجي من خلال التغذية والحفاظ على صحة المولود.
والجدير بالذكر هنا أن المكان الذي ذكره ابن طفيل عن حدوث النشوء الطبيعي فيه جزيرة من جزر الهند تحت خط الاستواء هو نفسه الذي يشير إليه إنجلز في بحثه تحت عنوان: "دور العمل في تحول القرد إلى إنسان" .
وقد كان التشريح أداة حي للتعرف إلى الأعضاء ودراسة وظائفها. فإذا بقصة حي بن يقظان تقدم ما يشبه دروساً ابتدائية في التشريح وأصوله. ثم ينتقل حي من وصف الأعضاء ووظائفها وسيما القلب إلى التعرف إلى الحواس وميزاتها، ويلاحظ حي بن يقظان دقة الحواس بالدماغ والأعصاب.
د - حي من الهندسة إلى الفلك
والسؤال هو ما إذا كان حي بن يقظان عندما أثبت بطلان لانهائية الجسد بنموذج هندسي كان يسلك مسلك العالم التجريبي، أم مسلك الفيلسوف العقلي. وأبعد من ذلك، أكان ابن طفيل في معرض ذلك يأخذ بالهندسة الإقليدية أم يذهب إلى أبعد من ذلك؟ الجواب على السؤال يعود للاختصاصيين في الرياضيات، لذلك نقف عند حدود عرض النموذج من خلال ما قاله هانز ريشنباخ في كتابه "نشأة الفلسفة العملية".
يستنتج راينباخ أن الطابع الفلسفي للهندسة ينعكس في كل الأوقات على الاتجاه الأساسي للفلسفة، وبذلك كان التطور التاريخي للهندسة ينعكس في كل الأوقات على الاتجاه الأساسي للفلسفة. وبذلك كان للتطور التاريخي للهندسة تأثير قوي في تطور الفلسفة. فالمذهب العقلي الفلسفي، من أفلاطون إلى كانت، كله قد أكد ضرورة بناء كل معرفة على نموذج الهندسة. وكان الفيلسوف العقلي قد بنى حجته على تفسير للهندسة، ظل بمنأى عن الشك طوال ما يربو على ألفي عام. هذا التفسير هو القائل أن الهندسة نتاج للعقل، بعين العالِم الفيزيائي. وعبثاً حاول الفلاسفة التجريبيون أن يكافحوا ضد منطقة ميئوساً منها. غير أن الآية انعكست بعد كشف الهندسة اللأقليدية. فقد اكتشف الرياضي أن ما كان يستطيع إثباته لا يتعدى أن يكون نسق علاقات نسق اللزوم الرياضية، أي علاقات "إذا كان.. فإن" التي تؤدي من البديهيات إلى النظريات الهندسية. ولم يعد يرى أن من حقه تأكيد الحجة بالبديهيات، وترك كهمة إصدار هذا التأكيد للفيزيائي. وهكذا أصبحت الهندسة الرياضية حجة حقيقية تحليلية، واستسلم الجزء التركيبي من الهندسة للعلم التجريبي، وفقد الفيلسوف العقلي أقوى حليف له، وأصبح الطريق خالياً للتجريبي. ولو كانت هذه التطورات الرياضية قد حدثت قبل حدوثها بألفي عام لاختلفت صورة تاريخ الفلسفة.
وعلى كل، فإنه لا خلاف على أن ابن طفيل قد جعل حي بن يقظان يعتمد الرياضيات ليتأكد من نظرياته الفلسفية، ذلك أن حياً بعد أن ينتهي إلى هذه المعرفة "تفكر في العالم بجملته، هل هو شيء حدث بعد أن لم يكن، وخرج إلى الوجود من العدم؟ أو هو أمر كان موجوداً فيما سلف، ولم يسبقه العدم إلى بوجه من الوجوه". في هذه العبارة يلمح ابن طفيل إلى المبدأ المشهور الذي أثبته لافوازييه بعده بستة قرون عندما قال: "لا شيء ينعدم في الصدفة ولا شيء يُخلق من العدم، كل شيء يتحول ويتبدل" .
ه - حي يخرج إلى ما وراء الطبيعة
قبل أن يطرح حي بن يقظان مسألة قدم العالم، نجده يمرر مبادئ فلكية وكوسموغرافية مختلطة بالجغرافيا. نلاحظ أن اهتمام ابن طفيل بالعالم الطبيعي عظيماً جداً، لكن قصد تأليف حي بن يقظان أن يبحث عن عالم ما وراء الطبيعة في الدرجة الأولى.
ونضيف أن ابن طفيل قد أراد من خلال تناوله عالم ما وراء الطبيعة كشف الوصول إلى "الحكمة المشرقية" التي ذكرها ابن سينا، كما أكد ذلك لبن طفيل نفسه في مطلع قصة حي بن يقظان، باعتبار أن الحكمة المشرقية على ما يبدو من رأيه هي قمة المعرفة الإنسانية.
ما وراء الطبيعة يتناول الوجود الطبيعي في ماهيته الأولى التي لم يتح للوجود الإنساني معاصرة أو مشاهدة نشوء هذه الماهية، ولم يكن للعقل البشري المجال للإحاطة بمدى هذه الماهية. ولتأريخ نشوء الوجود الطبيعي لا بد من اعتماد المقياس التقليدي ونعني به الزمن. وفي قصة حي بن يقظان لا يُجْزَمْ ما إذا كان الزمن سابقاً لوجود العالم أم لاحقاً به.
ونحن نرى أن المشكلة الأساسية في نظر ابن طفيل ليست هي اعتقاد حدوث العالم أو اعتقاد قدمه، وإنما هي فيما ينشأ عن كل من الاثنين، وهو يرى أنه سواء اعتقادنا قُدم العالم أو حدوثه، فإن النتائج عن ذلك واحد، وهو أن هذا العالم لا بد له من موجِد ومن محرك.
وعلى كل فإن نشوء وتحقق الوجود يمر عند ابن طفيل بمراحل ثلاث هي، وهذا يعني أن ابن طفيل قد ذهب مذهب أرسطو في ذلك:
الهيولي: ومن المعروف أن الهيولي شبيهة بالعدم فهي خالية من الحياة مجردة من الماضي المادي وتنتفي منها الصورة.
العناصر الأربعة: وهي الماء والهواء والتراب والنار، وهي المظاهر الطبيعية الأولى أو أولى مراتب الوجود، فقد تبين لحي أن جميع الأجسام التي في عالم الكون منها ما تتقوم حقيقتها بصورة واحدة زائدة على معنى الجسمية، وهذه هي العناصر الأربعة.
الصور: ومنها تتقوم حقيقتها بأكثر من ذلك كالحيوان والنبات. فما كان قوام حقيقته بصور أقل، كانت أفعاله أقل، وبعده عن الحياة أكثر، فإن عدم الصورة محله لم يكن فيه إلى الحياة طريق، وصار في خال شبيهة بالعدم، وما كان قوام حقيقته بصور أكثر، كانت أفعاله أكثر، ودخوله في حال الحياة أبلغ. وإن كانت تلك الصور بحيث لا سبيل إلى مفارقتها لمادتها التي اختصت بها كانت الحياة حينئذ في غاية الظهور والدوام والقوة.
فالشيء العديم للصورة هو الهيولي والمادة، والمادة ولا شيء من الحياة فيها وهي شبيهة بالعدم، والشيء المتنوه بصورة واحدة هي العناصر الأربعة وهي أولى مراتب الوجود في عالم الكون ومنها تتركب الأشياء ذات الصور الكثيرة.
وهكذا كانت الطريق التي سلكها حي نحو الحكمة المشرقية تكشف عن أسرارها.. فما هي الحكمة المشرقية هذه؟
و - حي من الحكمة المشرقية إلى التصوف
يذكر ابن طفيل في مطلع قصته أن الحكمة المشرقية المقصودة هي "التي ذكرها الشيخ الإمام الرئيس أبو علي ابن سينا". والحكمة المشرقية، عند ابن سينا، هي إدراك حقائق العالم من طرق الإرادة والعقل. وسبيل ذلك أن يقصد الإنسان إلى أن تتسع معرفته بالوجود ويعظم اختباره حتى يصبح له حدس قوي فيصرف حقائق العالم وعلل المظاهر المتعددة بأدنى تأمل. ويريد ابن سينا أن يفرق بين الحكمة المشرقية وبين التصوف حينما يقول وهو المعنى الذي يسميه الصوفية بالاتحاد. ومع أن ابن سينا ينسب هذا العلم إلى الإدراك العقلي، فإنه يعتقد أن العبادة الباطنة على الأخص وهي التأمل والاستغراق في تفهم حقائق العالم، كالعبادة الظاهرة من الصلاة والصيام، تساعد هذا الإدراك على أن يقوى. أما ثمرة هذا التفهم لمظاهر الوجود وحقائقه، ثم الاستعانة على ذلك بالعبادة الظاهرة والباطنة فهو الكشف أو المشاهدة. وهذا ما أشار إليه ابن طفيل.
وهكذا نرى بوضوح أن الحكمة المشرقية توافق التصوف المعتدل في النتيجة في الكشف والمشاهدة ولكنها تخالفه في الطريقة. إن الكشف في الحكمة المشرقية يأتي من طريق الإرادة والتفكير فإذن هو إدراك عقلي واضح. أما في التصوف فإن ما يُسمى كشفاً يأتي عن طريق إماتة الحواس وإنكار التفكير، فإذن هو صور تُنسَج في الخيال .
وعندما نتابع سيرة حي بن يقظان نجد أن حيّاً قد استطاع أن يحيط بكل شيء عن الوجود من أدنى الأجسام المادية وأصغرها إلى أرقى درجات الصور الروحانية عن طريق العقل الذي أعياه فأصبح متصوفاً، وعرف الله من خلال المشاهدة والكشف. أما كيف حصل على هذه النتيجة، فبوثوب العقل إلى نتيجة التأمل الذي خضع له العقل زمناً طويلاً قبل ذلك من غير شعور بأنه قد مر في مراحل طوال كثار قبل أن وثب إلى تلك النتيجة المعينة.
وللوصول إلى هذه المعرفة لم يسلك حي سبيل التعلم، فهو لم يكن قد التقى باسال، بل سلك سبيلاً آخر هو التصوف، وذلك باعتبار أن التصوف هو أسلوب من أساليب المعرفة، أو على حد شرح ومقارنة ر. أوتو R. Otto في كتابه Zur Wesendeutung west – Ostlich Mystik: Vergleich und Unters Cheindung ، حيث يُظهر أن المعرفة الإنسانية في نظر الصوفي ليست مقصورة على معطيات الحواس، كما يقول العقليون فإن هذا في نظر الصوفي تحديد لمدى النشاط الروحي عند الإنسان وتخطيط قاصر لميدان الحياة الروحية، لأن وراء كل هذه المعارف وفوقها نوعاً ثالثاً من المعرفة هو المعرفة الذوقية التي يصح أن نسميها المعرفة الإلهامية. إن العقل وحده يفشل في الوصول إلى الحقيقة المطلقة، إذ المطلق اللامتناهي لا يمكن إدراكه بإرادة لا تعرف المتناهي في الأشياء. والفيلسوف الميتافيزيقي على خطأ – كما يقول كانت – عندما يطبق مقولات العقل الخاضعة لهذا العالم على موضوعات ما بعد الطبيعة التي لا تخضع لهذا العالم، هو فشل ما بعد الطبيعة. ولكن كانت نفسه الذي أغلق باب المعرفة بمسائل ما بعد الطبيعة في وجه العقل النظري، فتح هذا الباب في وجه العقل العملي الذي يعمل عن طريق التجربة والإدراك الذوقي المباشر.
وهكذا سلك حي تلك الحال أو التجربة الروحية الخاصة التي يعيشها الصوفي ويدرك في وضوح تميزها واختلافها عن تجاربه الأخرى. وأداته القلب الذي يمكن أن نسميه مركز الوعي السامي أو الحاسة الكونية التي تختلف اختلافاً جوهرياً عن العقل من أية حاسة من الحواس البدنية .
فالقلب في فلسفة التصوف، رغماً عن اتصاله مع القلب الجسماني المعروف فإنه لا يتكون من لحم ودم، وإنما هو خاص بالعقليات لقدرته على إدراك كنه الأشياء، وإذا أضاءت جوانبه أنوار المعرفة والإيمان كان مصدراً للوحي والإلهام.
المفضلات