قال لي صاحبي وهو يحاورني :
أحسبك استفدت عمليا من درس ( ماء من نور)
قلت في فرح كفرح طفل بهدية تعجبه :
نعم والله ، وجزاك الله عني خير الجزاء .. لقد اصبح للوضوء عندي متعة ، ولذة ما كنت أحسب أني سأجدها يوما ..
ابتسم صاحبي وقال : والآن تعال نخطو خطوة إلى الأمام..
كم مرة يغتسل الناس في فصل الصيف ، عن اشتداد حرارة الجو ؟
قلت : أحسب أن أكثرهم يغتسل مرتين ، وكثيرون يغتسلون أكثر من ذلك ..
قال : طبعا ، وبعد ذلك يطيبون ثيابهم ، ويرشون على أجسادهم رشات عطرية جميلة .. والسؤال : لماذا يفعلون كل ذلك يا ترى ؟
قلت : بسبب كمية العرق التي تتصبب من أجسادهم ، وربما بسبب الجو الخانق ، والرطوبة ، والغبار وحرارة الشمس الشديدة ..
اتسعت ابتسامته وقال : احفظ هذه الخطوة .. وتابعني .
قلت وأنا أضحك : انا معك .. لن أتركك ما دام طريقك إلى الفردوس !
-قال : أيهما أولى بالاهتمام والعناية :
جسد السيارة الخارجي ، أم محركها الذي لا تدور إلا به ؟
قلت على الفور : بل محركها والله ..
قال وهو يكاد يضحك لعجلتي في الرد :
ولو قلت كلاهما ينبغي الاعتناء به بدرجة واحدة ، لكنت أيضا أصبت ..
على كل حال .. تخيل إنساناً يجعل كل عنايته واهتمامه بجسد السيارة فقط .. تزيين ، وتلميع ، وتنظيف ومسح ، وغسيل و..و..و.. الخ
يبذل من أجل ذلك : مالا كثيرا ، وجهدا واضحا ، ووقتا كبيرا ..
ثم تكتشف أن محرك السيارة أصلا لا يعمل …. !!
قلت على الفور وبصوت حاد :
هذا مجنون رسمي .. أو أحمق أبله ..وهل يفعل ذلك عاقل ؟؟
صمت قليلا وهو يحدق في وجهي ثم قال :
اسمع المفاجأة إذن .. يفعل ذلك بالضبط أكثر الناس ، وربما أنا وأنت منهم .!
ارتسمت على وجهي علامات استفهام كثيرة وكبيرة ، وقبل أن أنطق قال :
نعود الآن إلى النقطة السابقة .. أيهما أولى بالاهتمام والعناية :
جسد الإنسان أم قلبه وروحه ؟
كعادتي أجبت بسرعة : بل قلبه وروحه .. لأنهما بمثابة المحرك للسيارة ..!
ابتسم ابتسامته المعهودة قال :
ومع هذا تجد أكثر الخلق يعتنون بأجسادهم غاية الاعتناء والاهتمام ، ولا يلتفتون إلى قلوبهم وما يصيبهم فيها من مقاتل وجراح ..
قلت : زدني توضيحا ..-
- -
قال : ألم نتفق أنهم في الصيف يغتسلون كثيرا لتنظيف أجسادهم مما علق بها من عرق وغبار ونحو ذلك ، ثم يطيبون ثيابهم ، ويعطرون أجسادهم ، وذلك ليكونوا مقبولين في مجالس الناس ، فلا ينفر منهم الآخرون ..؟؟
قلت : بلى ..
قال : فلماذا لا يغسلون قلوبهم ويطيبونها ، ويعطرون أرواحهم من غبار وصدأ المعاصي والذنوب ، والغفلات والهفوات ، والهمزات والهمسات ، وسماع ما لا ينبغي سماعه ونحو هذا كثير مما يدمر عليهم قلوبهم وهم يضحكون .. !!
أنهم لو فعلوا ذلك ، لكانوا مقبولين عند سكان السماء ..!! والأرض أيضا ..!
اتسعت حدقتا عيني حتى أقصاهما وكأني أسمع هذا الكلام لأول مرة ..
وواصل صاحبي حديثه :
نعم يا عزيزي ..
اعلم أن كل ما لا يرضاه الله تعالى ، يكون له أثر خطير على هذا القلب ، والعاقل الذكي يجتهد دائما أن يغسل قلبه باستمرار حتى يبقى مصقولا ، ليسهل عليه بعد ذلك أن يتلقى أمداد السماء في يسر ..
بحركة عفوية ضربت براحة يدي جبهتي وارتفع صوتي وأنا أقول :
يااااااااااه !! ما أحوجني إذن لعملية غسيل شديدة لقلبي ، فإني أشعر بأنني متلطخ حتى الذروة …!
ابتسم صاحبي وقال : بسيطة ..
اجمع قلبك .. وارهف سمعك .. وأصغ إلى نبيك العظيم محمد ( وهل مثل محمد أحد ؟ ) صلى الله عليه وسلم ..إنه الآن يتحدث فاستمع :
" تحترقون ، تحترقون .. فإذا صليتم الظهر غسلتها ..
ثم تحترقون ، تحترقون ، فإذا صليتم العصر غسلتها..
ثم تحترقون ، تحترقون ، فإذا صليتم المغرب غسلتها..
ثم تحترقون ، تحترقون ، فإذا صليتم العشاء غسلتها..
ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء "
- لاحظ أنهم كانوا ينامون بعد صلاة العشاء ، ومن ثم لا يحترقون ..!
أما نحن فأكثرنا يشتد حريقهم بعد صلاة العشاء ..!!!!!
-واضح من الحديث : أن القلب يحترق بسبب دخان المعاصي والذنوب ، والغفلات والهفوات وسماع ما لا يجوز .. ونحو هذا كثير .. كما قرر ذلك ربنا في كتابه الكريم ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )
ما كانوا يكسبون من السيئات والذنوب ..
فإذا صلى الإنسان صلاة خاشعة ، يجمع فيها قلبه وعقله ، ويعرف ماذا يقول وماذا يفعل ، ومعاني هذه الأقوال والحركات .. فإن هذه الصلاة تكون بمثابة محطة غسيل فريدة من نوعها لصقل القلب من كل الشوائب التي علقت به ..
كنت أتابع حديث صاحبي وأنا أشعر بانتشاء عجيب في قلبي ..
قال : يوضح هذا المعنى ويؤكده ويقرره قول نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم :- -
- : أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات ، هل يبقى من درنه شيء ( درنه : أي قذره ) ؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء يا رسول الله .
قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ..
قلت : صدقني يا أخي .. لقد شوقتني للصلاة ، وأحسب أنني سأصلي منذ اليوم ، وأنا استحضر كلماتك هذه بأن الصلاة عملية غسيل فريدة للقلب حتى يصبح مصقولا كالمرآة .. أسأل الله تعالى أن يعينني أن أجمع قلبي فيها ، وأركز عقلي خلالها ، وأعيش مع معاني كلماتها وحركاتها حتى أخرج منها مصقول القلب ..
قال وهو يبتسم : أنت تلميذ نجيب رائع متميز ، تحول الدروس إلى عمل على الفور .. وهذا هو مطلوب العلم ..
قلت : بل الأمر فوق ما تتصور ..
أنت يا صاحبي استطعت أن تفتح أمامي أبواب السماء ،وتقذفني مباشرة إلى داخلها .. وتقول لي : والآن عش في هذه الأجواء النقية ..!
منذ اليوم يا صاحبي سأجد لذة مضاعفة في الوضوء ، وحلاوة خاصة في الصلاة .
ما راعني والله إلا وصاحبي يهجم علي ، ويأخذني بقوة في حضنه ، ويقبلني وهو يحاول أن يداري وجهه عني ، فلما نظرت في عينيه وجدته يبكي ..!! ويتمتم :
لا تنسني يا أخي من دعائك ..!
المفضلات