بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأحبة / نَبِيُّنَا وحَبِيُبنا - صلى الله عليه وسلم - يحدثُ صحابتَه وأمتَه عن أحاديثَ بني إسرائيلَ ، وذلك لأخذ العبرِ والدروس منها ، وممن حدّثَ به ونحن نسوقُه بمعناه : قصةَ رَجُلٍ من بني إسرائيلَ احتاجَ في تجارته إلى المال ؛ فجاء إلى رجل من أصحاب الأموال عُرِف عنه أنه يُقْرِضُ الناسَ يبتغي الأجرَ والثواب من الله ، فطلب منه أن يُسْلِفَهُ مبلغاً يُعتبرُ في زمن هذا الرجلِ مبلغاً كبيراً : ألفَ دينارٍ ، فطلب منه إحضارَ شُهُودٍ يشهدون على الدين الذي سَيُقْرِضَه إياه فقال له : كفى بالله شهيداً ، وطلب منه الإتيانَ بكفيل يَضْمَنُه إذا عَجَزَ عن السداد ، فقال الْمُقْتَرِضُ : كفى بالله كفيلاً , فقال له التاجرُ صَدَقْتَ ، وبذل له المالَ الذي طلبَه من غير شهودٍ ولا كفيل ، ورضي بشهادة اللهِ وكَفَالَتِهَ .
واتفق الرَّجُلان ِعلى أجلِ السداد ومكانِه ، وكانا يعيشانِ في مدينة ٍتَقَعُ على شاطئِ البحرِ, ومضَى الْمُسْتـَلِفُ بالمال ، وَرَكِبَ الْبَحْرَ ، وقضى حاجَتَهُ .
وعندما قاربَ حُلُولُ الأجَلِ ؟ لَمْ َيجِدْ سفينةً تَحْمِلُهُ إلى صاحب المال ، فآلمَه أشَدَّ الألم أََنْ يُخْلِفَ الْوَعْدَ الذي قَطَعَهُ على نفسه ؛ كيفَ وقد أشهدَ ربَّه على نفسه ، واكتفى به كفيلا ً، وقطع على نفسه عَهْداً بالسداد !!
وقد تَفَتَّقَ ذِهْنـُهُ عن طريقةٍ يَبْعَثُ بها المالَ إلى صاحِبِهِ ، فَحَشَى ذلك المالَ في خَشَبَةٍ بعد أنْ نَقَرَها , مُرْفِقاً بها رِسَالَةً تُوَضَّحُ بها حَقِيقَة َالحالِ ، والمانِعَ له من الحضور ، ثم أحْكَمَ إِغْلاقَها ، وَقَذَفَ بها في البحر ، واسْتَوْدَعَها رَبَّهُ تبارك وتعالى .
لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ في وقته هذه الْحَوَالاتُ السَّرِيعَة ُ، ولم يكن في عهده طائراتٌ وسيارات ٌ، فَأَرْسَلَ المالَ في هذه الطريقة الفريدةِ النَّادِرَة ِ، ولم يكن هذا الرجلُ غَبِيًّا ولا مُفَرِّطاً , ولكِنَّهُ فَعَلَ ماقَدرَ على فعله , ووكَّلَ أمرَه إلى ربه ، وتوجه إلى الله بصدقٍ لِتَوَلىَّ إِيصالَ المالَ إلى صاحبه , وهو يَعْلَمُ أنَّ الله َعلى كُلِّ شيءٍ قَدير .
وأَنْتَ ترى هذا اليقين َوالإيمانَ والثقة َبالله والتوكل َعَليهِ من خِلالِ ذلك الدعاء ُالذي تَوَجَّهَ بهِ إلى ربه ، وهو يَقْذِفُ بالخشبة التي فيها المال ُفي البحر : (( الَّلهُمَّ إِنَّكَ تعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاناً أَلْفَ دِينارٍ ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاً , فَقُلْتُ:كَفَى باللهِ كَفِيلاً ، فَرَضِيَ بِكَ ، وَسَأَلَنِي شَهِيداً , فَقُلْتُ :كَفَى باللهِ شَهِيداً ، فَرَضِيَ بِكَ ، وَإَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَباً أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ ، وَإِنِّي أَسْتـَوْدِعُكَهَا ))
ولاشك أن الله َتبارك وتعالى تَوَلَّى حِفْظَ هذه الخشبة ِالتي تَحْمِلُ المالَ في جَوْفِهَا ، فَهُوَ الذي وَجَّهَ أمْوَاج َالبحرِ كَيْ تَقْذِفُ بها إلى المدينة التي فيها صاحبُ المالَ ، وهو الذي أوْجَدَ في هَمِّهِ كَيْ يَخْرُجَ إلى شاطئِ البحر في ذلكَ اليومِ , وفي تلكَ الساعة ِالتي وَصَلَتْ فيها الخشبة ُ, وهو الذي أوجد فيه الدَّافِعُ ِلالْتِقَاطِهَا ، وأمرَ أَهْلَهُ بِكسْرِها بعد وصولِه إلى المنزل ، , ولو تخلف احْتِمَال ٌمن هذه الاحتمالاتِ ؛ وَهِيَ كثيرةٌ وعَدِيدة ٌ فَإِنَّهَا ماكانت لِتَصِلَ لذلك الرجلِ .
كان من الممكنِ أنْ تَـغُوص الخشبةُ في أعماق البحرِ ، وخاصةً أنَّها تَحْمِلُ في جَوْفِها ثُقْلا ًكَبِيراً , والخشبُ يَغوص ُفي مثلِ هذا الحالِ , ولا يَطْفـُو على وجه الماء , وكان يمكنُ أنْ تَلْتقِطَها بعضُ السفنِ المارة ِفي ذلك المكان ِ، كما كان من الممكن أنْ تَقْذِفَها الأمْواج ُإلى بُقْعَةٍ بعيدةٍ نائيةٍ عن مدينة الرجل الْمُقْرِضِ , ولو أن َّالرَّجُلَ لم يَخْرُجْ مُطْلَقا ًإلى شاطئ البحر , أو خرجَ إليه قبلَ وُصُول ِالخشبة أو بعدَ وصولهِا بِفَتْرَة ٍمِنَ الزَّمَنِ لما وَصَلَتْ إليهِ .
إنه الله ُهُوَ الذي حَفِظَهَا , وسَيَّرَ بها الأمواجُ , وَوَقَّتَ وُصُولَهَا في اليوم الذي بَعَثَ صاحِبَ المالِ على الخروج إلى شاطئ البحر , وهو اليومُ الذي يَحِلُّ فيه سَدادُ الدَّيْنِ .
وعندما هُيِّئَتِ اْلفُرْصَةُ لذلك المستدين عاد سريعاً إلى صاحبِ المالِ بعد أنْ أَحْضَرَ مَعَهُ ألفاً أُخْرَى , خَشْيَة َأنْ يَكُونَ المالُ لم يَصِلْ إليه , وجاءَهُ يَشْرَحُ عُذْرَه ُ, وَيُبَيِّن ُلَهُ سِرَّ تَخَلُّفِهِ عن الموعدِ ، فَأخْبـَرَه بما سَرَّ نَفْسَهُ وَطَمْأَن َقَلْبَهُ , وجَعَلَهُ يَحْمِد الله عل فضله ونعمائه , وأخْبَرَهُ ويا رَوْعَةَ مَا أخْبَرَهُ بهِ حَيْثُ قالَ لَهُ : (( هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيءٍ ؟ قَالَ : أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَباً قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ ، قَالَ : فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ )) [رواه البخاري ] وكان بإِمْكَانِ صاحبِ المال أن يُنْكِرَ وُصُولَ ماله ليأخذَ الألفَ الثانية , ولكنْ لصلاحِه وتقواهُ حَفِظَ الله ُبِلُطْفِهِ وَرِعَايَتِهِ وتدبيرِهِ له مالَه .
أيها الأخوة / لقدِ اسْتَشْعَرَ هذا الْمُسْتَدِينَ أنَّ الدينَ أمرُه عظيمٌ وخطَرُهُ جسيمٌ ! كيفَ لا ! والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - أخْبـَرَ أنَّ الله َيَغْفِرُ لِلشّهِيدِ كُلَّ ذَنْبٍ إلا الدًينَ )) [رواه مسلم ] .
فإذا كان الدين ُلا يغفرُهُ الله ُلِمَنْ قُتِلَ في سبيله ! فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ دُونَ ذَلِكَ ؟
وفي حديثِ أبي قتادةَ – - َأنَّ رَجُلاً قال: يا رسولَ الله ! أرأيتَ إن قُتِلْتُ في سبيل اللهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطايايَ ؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( نَعَمْ وَأَنْتَ صابِرٌ مُحْتَسِبٌ ، مُقْبِلٌ غَيْر ُمُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ )) [ رواه مسلم ]
وعن محمد بنِ جَحْشٍ – - قال :كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَفَعَ رأسَه إلى السماء ثُمَّ خَفَضَ بَصَرَهُ فَوَضَعَ يدَهُ على جَبْهَتِهِ ، ثُمَّ قال : (( سُبْحانَ اللهِ ! سُبْحانَ اللهِ ! ماذا نزلَ مِنَ التَّشْدِيدِ ؟ فَسَكَتْنا وَفَزِعْنا )) فَلَمَّا كان مِنَ الْعَدِ سَألْتـُهُ : فقلتُ يا رَسول َالله ِ! ما هذا التَّشْدِيدُ الذي نَزَلَ ؟ فقال : (( وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ أنَّ رَجُلاً قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ ، ثُمَّ أُحْيِيَ ، ثُم قُتِلَ، ثم أُحْيِيَ ، ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مادَخَلَ الْجَنَّةَ حَتىَّ يُقْضَى عَنْهُ دَيْنـُهُ )) [ رواه احمد ]
وقد امتنع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة على من مات وعليه دَيْن ٌ، كما في حديثِ سلمةَ بنِ الأكوع – - قال :كُنَّا جُلوسًا عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أُتِيَ ِبجِنَازَةٍ ، فقالوا : يا رسولَ اللهِ صَلِّيِ عَليْها ، فقالَ (هَلْ ترك شيئاً ؟)) قالوا : لا ، قالَ : (( فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟)) قالوا : ثلاثةَ دَنانيِرٍ . قالَ ( صَلُّوا على صَاحِبِكُمْ )) قال أبو قتادةَ : صَلِّي عَلَيْهِ يا رسولَ اللهِ وَعَلَيَّ دَيْنـُه ، فَصَلَّى عَلَيْهِ )) [ رواه البخاري ]
وفي رواية عند أحمدَ والحاكِمِ مِنْ حَدِيثِ جابرٍ – - : أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -(( إذا لَقِيَ أبا قتادةَ يَقُولُ(مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ ؟)) قُلْتُ : إنَّما ماتَ أَمسِ . قالَ : فعادَ إليْهِ مِنَ الْغَدِ فقالَ : قدْ قَضَيْتـُهُمَا يا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((الآنَ بَرَدَتْ جِلْدَتـُه ُ)).
أيها الأخوة / كثيرٌ من الناس عَظُمَ بَطْنـُهُ، وَنَبَتَ لَحْمُهُ بِمَالِ غيرِه ! يُذِلُّ نَفْسَهُ لِيَسْتَدِينَ وَيَسْتَدِينَ ، يأتي إلى أخيه في بداية الأمرِ لِيَطْلُبَ مِنْهُ سُلْفَةً نَقْدِيَّةً أوْ سِلْعَة ًيَشْتَرِيها بالدَّين، ويُظهِرُ لَهُ حُسْنَ النيةِ بِكَلامٍ مَعْسُولٍ وَعِبَارَاتٍ مُنَمَّقَةٍ ، وأنه سَيُسَدّده في الوقتِ الذي يحدّده الْمُقرِضُ ، وهو في الحقيقةِ يُضْمِرُ خِلافَ ذلك، ثم يَأخذُ المالَ وَتَمُرُّ عليهِ الشهورُ وَرُبَّمَا السُّنـُونَ دُونَ أنْ يَعْتـَذِرَ مِنْهُ ، أوْ يَطْلُبَ فُسْحَةً في الأجَلِ ؛ بَلْ رُبَّما تظاهرَ بِنِسْيانِ الدينِ أوْ جُحُودِهِ ! فينْقلبُ الجميلُ على صاحبهِ همّا ًوَنَدَماً .
وَلذلِكَ أحْجَمَ كثيرٌ من الناسِ عَنِ الْقَرْضِ والتَّسْلِيفِ خَوْفاً على أموالِهِم من الضَّيَاعِ ؛ لِضَعفِ ذِمَمِ الناسِ ، حتى اشْتَهَرَت تلك المقولة : ( إذا أقْرَضْتَه فَارَقْتـَهُ ) وهذا ليس من خُلُقِ الْمُسْلِمِ ، وليسَ من الأدب الإسلاميِّ في شيءٍ، فإنَّ دِينَنَا يَحُثُّ على رَدِّ الجميلِ ، والْمُكافَأةِ لِلْمَعْرُوفِ بِمِثْلِهِ أوْ أَحْسَن منهُ والدعاءِ لِصَاحِبهِ ، قالَ - صلى الله عليه وسلم - : ((خَيْرُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً )) متفق عليه . وَلَقَدْ كان رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يَقْضِي الدَّائِنَ بِأَكْثَرِ مِمَّا اسْتدَانَ مِنْهُ ، وَيُضَاعِفَ له الوفاء، ويَدْعُوَ له، كما قالَ جابرُ بنُ عَبْدِ اللهِ – رضي الله عنهما -: كان لي عَلَى النَّبيِّ دَيـْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي [ رَواهُ أبو داودَ والنسائِيُّ ]
وقالَ عبدُ اللهِ بنُ أبي ربيعةَ – - : اسْتَقْرَضَ مِنِّي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أربعينَ ألْفاً ، فجاءَه مالٌ، فَدَفَعَهُ إِلي َّ، وقالَ : ((إِنَّما جَزاءُ السَّلَفِ الحمدُ والأداءُ)) [ رواه النسائي وابنُ ماجه وأحمد ] فهذا هَدْيُ رَسُولِنا في قَضاءِ الدين. ولنا فيه أسوةٌ حسنةٌ .
والأَصْلُ – أحبتيِ- أنْ يَنْطَلِقَ العبدُ في الدينِ عندَ الحاجة إليه ِمِن مَقَاصِدَ حَسَنَةٍ، وَعَزِيمةٍ صادِقَةٍ على الوفاء ، وَمِنْ نية طيبةٍ في القضاء، لا يُبَيِّتُ نيةً سَيِّئَةٍ ، ولا يُخْفِي مَقْصَداً خَبِيثاً، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((مَنْ أخذَ أموالَ الناسِ يُريدُ أداءَها أدَّى الله ُعنه، ومن أخذَها يُريدُ إتلافها أتْلَفـَهُ الله ُتعالى )) [رواه ُالبخاريُّ , من حديثِ أبي هريرة َ– ]
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((مَنْ أخَذَ أمْوالَ الناسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى الله ُعَنْهُ )) وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ آخرَ : ((مَا مِنْ عَبْدٍ كَانًتْ لَهُ نِيَّـةً في أَدَاءِ دَيْنِهِ إلا كانَ لَهُ مِنَ اللهِ عَوْنٌ )) [ رواه أحمدُ من حديثِ عائشةَ –رضي الله عنها – ]ومَنْ عَجَزَ عنْ أداءِ ما عليه من دين ٍفي مَوْعِدِه ِالْمُحَدَّدِ ، فَلْيَسْتـَسْمِحَ مِنْ صاحبِ المالِ ؛ فإنه أطيبُ لِخَاطِرِهِ وأَهْدَى لِبَالِهِ ، وأَدْعَى لِتَأْجِيلِ موعدِ السدادِ , أو الْحَطَّ من الدينِ كُلا ًّ أوْ جُزْءاً .
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين , وافض الدين عن المدينين يارب العالمين .
وإلى لقاء قريب .
المفضلات