الدين والدولة في المملكة العربية السعودية
العودة المستحيلة
(3 من 3)
محمد فؤاد
بين 2 أغسطس سنة 1990 و11سبتمبر 2001 يكتمل عقد المواجهة بين التيار الديني السلفي والحكومة السعودية، وفيه تكمن الانعطافة الحادة في علاقة الدين بالدولة، ففي الحدث الاولى استيقظ التيار الديني في السعودية على زلزال سياسي كانت ردود الفعل ازاءه تلتقي عند معنى الخديعة الطويلة الأجل التي عاشها التيار الديني السلفي بمستوياته الدنيا والعليا. وفي الحدث الثاني، جاء الرد على الخديعة، حيث استيقضت الحكومة السعودية في الحادي عشر من سبتمبر على انهيار لصورتها، وتاريخها، ودورها، وتحالفاتها السياسية ووجدت نفسها على حين غرة في موقف دفاعي امام العالم بأسره، تنشد حلاً لمعضلة جوهرية داخلية ودولية وتفتش عن طريقة في المرافعة عن الذات، وتتوسل أساليب في التبرير لما جرى بطريقة مثيرة للشفقة. أما القادة الاميركيون، فقد شعروا بالمرارة والخديعة في آن، فإن ما قاموا به بعد الثاني من اغسطس لدرء خطر ابتلاع السعودية قد حصدوا حصرمه في الحادي عشر من سبتمبر حيث انطلقت حملة التعبئة السياسية والثقافية ضد الولايات المتحدة من لحظة دخول القوات العراقية الى الكويت وحققت أهدافها الاولى بسقوط البرجين.
هذا الزمن الواقع بين 1990 ـ 2001 يمثل، في تقديري، ذروة العلاقة المشحونة بين الدين والدولة في السعودية، وتكشف الى حد كبير عملية الاهلاك المتبادل بين طرفين وصلا الى قناعة بانهاك قدرة كل منهما للآخر ونفاذ أغراضه منه. وكما أن موقف التيار الديني السلفي من الحكومة بعد الثاني من اغسطس يمثل انقطاعة مع الماضي، إذ لم تعد نظرة التيار الديني السلفي للحكومة هي ذاتها قبل الثاني من اغسطس، فإن موقف الحكومة من حليفها التاريخي والمضمد لانكساراتها السياسية والضامن لمشروعيتها الدينية قد ارتكس بصورة دراماتيكية بعد الحادي عشر من سبتمبر.
سنحاول هنا استكشاف رؤية التيار الديني السلفي للحكومة منذ الثاني من اغسطس 1990 وكيف طوّر هذا التيار خطاباً دينياً بلغ ذراه القصوى عند النقطة التي لامست فيها الطائرة الانتحارية الاولى لأحد البرجين في نيويورك.
أزمة الخليج..الحدود المدمّرة
ثمان ساعات مضت على انهيار المباحثات بين الوفدين العراقي والكويتي...وفي تمام الساعة الثانية من فجر اليوم الثاني من شهر آب/ اغسطس 1990م، اجتاحت القوات العراقية الحدود الكويتية...وبعد ثمان ساعات سقطت الكويت بالكامل تحت نير الاحتلال العراقي..
كانت لحظات حرجة وحاسمة لطرفين طالما تعاقدا على ان يحقق كل منهما أغراض الآخر، فالسياسي يحقق مشروعيته من ضمانة الديني له، والديني يحقق انتشاره من حماية السياسي له، وكل ذلك يتأسس على آصرة شديدة الوثاقة، آصرة طالما بقيت مصونة من الاختبار او الاهتزاز، حيث سعى الطرفان الدفاع عن الآًصرة وتوفير مبررات التشديد عليها طالما أن ثمة مصالح مشتركة تضغط لجهة تعميقها.
ما جرى بعد ساعات من دخول القوات العراقية الى الاراضي الكويتية ان اجتياحاً آخر قد جرى داخل وعي ومشاعر ومصير طرف طالما حشد خزانة فكره ومناشطه الاجتماعية والتوجيهية من اجل إثبات صدقية موقف السلطة السياسية، طرف وجد نفسه امام امتحان مصداقية تزلزت بعنف في الثاني من اغسطس.
لم يكن التيار الديني السلفي في شكليه الرسمي والشعبي في وضع يؤهله للدفاع عن نفسه مع قلة عتاده في تبرير سيفضي به قطعاً الى مناقضة فاضحة.
في الثاني من اغسطس 1990 كان ثمة ارتجاج في منظومة القيم والرموز والاشخاص والمواقف، فالازدواجية أصابت كل شيء بدءا من صورة الزعيم الذي كان بالامس حارس البوابة الشرقية وفارس العروبة، فيما أصبح اليوم نموذجاً للجريمة والدموية. ويشاء أن تتكرر هذه الازدواجية طالما بقي الموقف الديني يخضع تحت تأثير التوجيه السياسي وتقلباته السريعة. فبعد الاعلان عن استقدام قوات اميركية واجنبية الى الاراضي السعودية كان ثمة مسعى حثيث لايجاد المبرر الديني. نتيجة ذلك إصدار المفتي العام السابق للمملكة الشيخ عبد العزيز بن باز فتوى تجيز الاستعانة بالاميركيين والاجانب. وفي رد فعل على اللغط الذي أثارته فتوى الشيخ بن باز تلك، ألقى الاخير محاضرة في جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية نشرته جريدة (الشرق الاوسط) في 1/1/1991م قال فيها "يجوز الاستعانة بغير المسلمين للضرورة اذا دعت الى ذلك برد العدو الغاشم والقضاء عليه وحماية البلاد من شره، فاذا كانت القوة المسلحة لاتكفى لردعه جاز الاستعانة بمن يظن فيهم أنهم يعينون ويساعدون على كف شره وردع عدوانه سواءً كان المستعان به يهودياً او نصرانياً او وثنياً او غير ذلك اذا رأت الدولة الاسلامية ان عنده نجدة وان عنده مساعدة لصد العدوان المشترك ".
ثمة رأي بلا شك يثير شكوكاً كثيفة مع استحضار موقف مكتوب للشيخ بن باز في كتابه ( نقد القومية العربية على ضوء الاسلام والواقع ) يقول فيه بالنص:"قال تعالى( يا ايها الذين آمنوا لاتتخذوا بطانة من دونكم لايألونكم خبالاً ، ودّوا ماعنتم قد بدت البغضاء من افواههم وما تخفي صدورهم اكبر قد بينا لكم الآيات ان كنتم تعقلون )..فانظر ايها المؤمن الى كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام كيف يحاربان موالاة الكفار والاستعانة بهم واتخاذهم يطانة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من انفسهم.
"فلو كان في الاستعانة بهم مصلحة راجحة لأذن الله فيه وأباحه لعباده ..ولكن لماّ علم بما في ذلك من المفسدة الكبرى والعواقب الوخيمة، نهى عنه وذم من يفعله.
"واخبر في آيات اخرى ان طاعة الكفار وخروجهم في جيوش المسلمين يضرّهم ولايزيدهم يذلك الاّ خبالا.. ...واذا اختلط الكفار بالمسلمين وصار بعضهم اولياء بعض، حصلت الفتنة والفساد الكبير، وذلك كما يحلّ في القلوب من الشكوك والركون الى اهل الباطل والميل اليهم، واشتباه الحق على المسلمين نتيجة امتزاجهم بأعدائهم وموالاة بعضهم لبعض، كما هو الواقع اليوم من اكثر المدعين للاسلام ..حيث والوا الكافرين واتخذوهم بطأنة ، فألتبست عليهم الأمور حتى صاروا لايميزون بين الحق والباطل ولابين الهدى والضلال ولابين اولياء الرحمن واولياء الشيطان، فحصل بذلك من الفساد والاضرار مالا يحصيه الا الله سبحانه وتعالى". وكل ذلك اشارة واضحة للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر حين استعان بخبراء عسكريين من الاتحاد السوفيتي لتدريب القوات المسلحة المصرية .
على أنه يجب التنويه هنا الى أن موقف الشيخ ابن باز القاضي بجواز الاستعانة بالكفار يخالف ما ذهب اليه مؤسس المذهب الوهابي الشيخ محمد بن عبدالوهاب فقد جاء في الرسالة الثانية عشرة بعنوان ( نواقض الاسلام ) والتي حددها في عشر نواقض وفي الناقض الثامن منها قال:"مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى "ومن يتولهم منكم فإنه منهم، ان الله لايهدي القوم الظالمين "[1] ، وبذلك تكون المحصلة النهائية ــ حسب المعتقد الوهابي ــ انه "من استعان بغير الله فقد أشرك في عبادة الله غيره"[2].
في واقع الامر، أن الخطاب الديني السلفي لم يكن يملك قوة دفاعية كافية لدرء حملات التشكيك التي يثيرها نظام الرئيس العراقي الذي بات يملك من أسلحة الحشد والدفاع ما يفوق قدرة ضحاياه. وربما هذا يفسر لجوء حكومة المملكة الى محاولة كسب تأييد العرب والمسلمين، فقد عقدت في يوم الاثنين 4شعبان /1411هـ الموافق 18/فبراير 1991م مهرجان الجهاد وهو اول خطوة تتخذها الحكومة كاجراء ديني حضره عدد من العلماء من السعودية ومصر الاّ أنه لم يحظ بصدى كبير.
شعور التيار الديني السلفي بالخديعة في الثاني من اغسطس انتقل من جغرافية الحدث الى تاريخية موسعة لمنظومة ضخمة من الروابط والتحالفات والقيم والمواقف السياسية، ومن السياسي الى الايديولوجي. فالموقف السلفي من الاستعانة بالقوات الاميركية والاجنبية لم يتأسس على خلفية سياسية أي علاقات الاستتباع والاهداف السياسية المختبأة خلف قدوم قوات عسكرية اجنبية تنتمي الى قوة عالمية، وانما جرى انزال الموقف في قالب ايديولوجي أكثر اتساعاً. فالسياسي من الموقف السلفي يفترض انحصار مجال التجريم أو حتى المجابهة داخل دائرة ضيقة تضم الضالعين بصورة مباشرة في أي ترتيبات لقدوم قوات عسكرية أجنبية الى السعودية، بيد أن الايديلوجي يمتد الى مساحة أوسع تستوعب داخلها مجتمع أو مجتمعات بكالمها ضمن دائرة المجابهة والتجريم. بكلمات أخرى، أن الاستعانة بالقوات الاميركية لم تعالج ضمن منظور سياسي يقوم على علاقات غير متوازنة بين دول كبرى واخرى صغرى تفضي في الغالب الى آثار وخيمة على الدول الضعيفة من خلال علاقات قهرية، واتفاقيات غير متكافئة عسكرية واقتصادية، بينما جرت المعالجة على قاعدة دينية أي النظرة الصارمة المتضمنة لحكم ديني يفوح بالكراهية الشديدة لمجتمعات مصنفة على أنها كافرة او مشركة بما تبطن احكاماً قصاصية مدوّنة في الاضابير الدينية السلفية.
نقرأ هذا الموقف الايديولوجي في محاضرة للشيخ سلمان العودة المحاضر السابق في جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية بالرياض فقد تحدث مساء يوم الاحد 7 صفر 1411هـ في الحلقة الثامنة عشر حول "اسباب سقوط الدول " وقال في التاسع منها: (عدم تميز العدو من الصديق ) وذكر " بأن اليهود والنصارى اعداء مشركون ومن المؤسف ان يتحول هؤلاء للمسلم أصدقاء وأعواناً " وقال ايضاً " ان ثقتنا في هؤلاء اليهود والاميركان والبريطانيين والفرنسيين والشيوعيين الروس ليست في محلها وان كانوا في الظاهر يحموننا ولكنهم يجرّون إلينا خطراً كبيراً.. إننا نعلم خبايا هؤلاء وأغراضهم في بلاد الإسلام خاصة بلادنا التي حباها الله بهذه الثروة ـ البترول... فكيف نثق بهم وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العداوة التي بين المسلمين وبينهم".
واستنكر الشيخ العودة في محاضرة أخرى بعنوان (ويل للعرب من شر قد اقترب) موقف الحكومة السعودية من وجود القوات الاميركية من منطلق ايديولوجي، حيث استنكر عدم اتخاذ الحكومة" خطوات للعمل، للجهاد" وعليها "أن ترفع الخطأ بسبب الكفار والتبرؤ منهم واعلان الجهاد ضدهم إن كانوا ـ آل سعود ـ صادقين".
وعلى نفس النسق الاحترابي ضد اميركا لا كقوة سياسية تخضع لانتقادات حادة من قبل دول وشعوب ومنظمات وجماعات عديدة في ارجاء العالم، وانما اميركا كمعسكر ايديولوجي، انتقد الدكتور سفر الخوالي رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة في محاضر بعنوان (فستذكرون ما أقول لكم)، انتقد موقف العائلة المالكة من الغرب متسائلاً "وهل نثق بأن الكفار يدافعون عنا.. إن اميركا هي عدو للمسلمين".
وفي سياق الادلجة ايضاً تأتي معارضة الحوالي لوجود ثلاثين الف امرأة لحماية أبناء هذا البلد بينما "نحن لا نقوم بدفع الشر عن انفسنا.. واذا كان صدام قد أذل الامة، فالغرب أيضاً قد أذل الامة". وحدد الحوالي ثلاثة أهداف للوجود اللاميركي في المنطقة: إذلال الامة الإسلامية، وضرب الامة الإسلامية، واستنزاف خيرات المنطقة.
إن ثمة نزعة بعداً اسكاتولوجياً للغة الاحتراب هذه في الخطاب السلفي، فقد دعا الشيخ الحوالي الى "اعداد العدة لمقاتلة الغرب لأنهم أعداء لنا الى يوم القيامة انهم سيحاربوننا يوماً ما". وفي ختام المحاضرة سأل أحد الحضور عن اعتماد بعض الأدلة الضعيفة لتشريع الاستعانة بالقوات الأجنبية فقال الحوالي: "لا يصح أن تستدل بدليل ضعيف من أجل قضية غير صحيحة" وأضاف بأن رسول الله (ص) لم يستعن بالمشركين في معاركه.
سلسلة المحاضرات والخطب العامة لرجال الدين ولا سيما رجال المؤسسة الدينية الرسمية أجمعت على موقف ايديولوجي موحد هو التنديد بالوجود الأميركي كتمظهر للمجابهة المؤجل احتدامها بين الشرك والايمان وان آل سعود أسرى في أيدي المشركين. ولابد أن ثمة في موروث السلف ما يقعّد هذا الموقف، فقد ذكر الماوردي أسباباً لخروج الإمامة منها القهر وقال "وأما القهر فهو أن يصير مأسوراً في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه فيمنع ذلك عن عقد الإمامة له لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، وسواء كان العدو مشركاً أو مسلماً باغياً، وللأمة اختيار من عداه من ذوي القدرة"[3].
سلاح التكفير: تهريب من مخازن الدولة
مثّلت المؤسسة الدينية بانبثاثاتها الشعبية والمؤسسية الضمانة الكبرى لتحقق اسلامية الدولة وبالتالي مشروعيتها الدينية التي ستكون مكفولة على الدوام طالما بقي التحالف الوهابي السعودية متماسكاً. بل كانت الدولة بوجود حليف ديني راسخ الجذور ومتحصن خلف ترسانة ايديولوجية وشعبية قادرة على تقويض اركان خصومها المحليين بسهولة. فطيلة تاريخ الحكم السعودي كانت المؤسسة الدينية الوهابية العصا الغليظة التي تضرب الدولة بها القوى المعارضة دينية أو وطنية، فالأولى نصيبها حكم (الخوارج) والثانية قدرها حكم (الشيوعية) لتبرير إنزال أقصى العقوبات ضد هذه القوى وتصفية وجودها بصورة عنيفة وقمعية.
ويجب الفات الانتباه الى أن سياسة العصا الغليظة تلك طالت حتى الذين نشأوا داخل المؤسسة الدينية الرسمية حال خروجهم على السلطة والتنديد بممارساتها غير المشروعة. ولعل أبرز مثال في هذا الصدد جهيمان العتيبي الذي كان عضواً في الحرس الوطني مدة ثمانية عشر عاماً وطالب الفلسفة الدينية في جامعة مكة الإسلامية وانتقاله فيما بعد الى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث التقى هناك مع محمد بن عبد الله القحطاني تلميذ الشيخ عبد العزيز بن باز في الفلسفة الإسلامية. .......
المفضلات