د. حسن بن فهد الهويمل
اثارت ثائرة الكاتب (علي بن فايع الألمعي) حين أيقظه حديثي عبر برنامج (إضاءات) على المفهوم الصحيح لمقاصد (الأدب الإسلامي) ومقتضياته، وكتب بروح الشمت المشيِّع لفعاليات (الأدب الإسلامي) إلى مثواه الأخير (جريدة الوطن 4-4- 1427هـ). وتبين لي أنه من أولئك النفر الذين يسهل اختراقهم، ويمكن تشكيل وعيهم، ولم يكن بهذه الاستجابة ألمعيَّا. وهذه النوعية من الناس مصابة بقابلية الاستجابة الفورية، وبسرعة الانقياد، وقد تستمع القول فتتبع أسوأه. لقد فهم (الأدب الإسلامي) على غير مراد أهله وخاصته، وتصور أنه يقوم على التصفية والتصنيف والإقصاء، بحيث لا يبرح ثنائية (الكفر) و(الإسلام)، وأن ذويه يحملون درة (عمر)، يشجون بها رؤوس المخالفين لمرادهم المفرط في الغلو، وما هو - علم الله - كذلك، ولكنه التوهيم الذي فعل فعله بأدمغة لا تحمي أجواءها من اللوثة والتلوث.
والأستاذ (الألمعي) مهذب في خلقه، ومؤدب في حديثه، كما يبدو من تعقيبه، واحترامي لإثارته، حملني على الرد، لتصحيح مفهومه، والكاتب محق حين يسأل عما قلت في برنامج (إضاءات)، لأنه كسر مسلماته التي لم يُدرك خطأها، ولربما ظن أن ما قلت تحولاً في المفاهيم، وفراراً من الزحف، وبداية انقسام خطير. وأخذه للمعلومة من مصدرها بدون حائل غيَّر كثيراً من تصوراته، وما ضلت المشاهد إلا بالشائعات والافتراءات والتقول على الخصوم بعض الأقاويل.
لقد كان برنامج (إضاءات) منبراً حيادياً، قلت من خلاله ما أعتقد، ووصول خطابي إلى الذين يصرون على رؤيتهم التي تشكلت في غياب استبدادهم يثير التساؤل، وكم كان بودي أن يستمع الخصوم والمتحفظون، ماذا يراد ب(الأدب الإسلامي) وما حدوده ومجالاته، وما مدى صلته بالأدب العربي؟. وعبر فترات متقاربة، التقيت بأدباء ومفكرين في سائر الأقطار العربية والإسلامية, وحاولت أن أبسط لهم القول عن مفهوم (الأدب الإسلامي) ومقتضياته، ومدى صلته بالآداب الأخرى، وموقفه من كل الأبعاد اللغوية والفنية والدلالية، وما من مستمع يلقي السمع، وهو شهيد إلا ويبارك الخطوات، ثم لا يجد غضاضة في أن يعيد صياغة مفهومه وموقفه. ويا ليت قومي يعلمون أن المراد من وراء هذا الاتجاه إشاعة الكلمة الطيبة، ولو كنت فيما أرى على خلاف ما أقول، لاستبان ذلك زملاء وطلاب، كنت معهم مشرفاً على رسائل (الدكتوراه) و(الماجستير)، ومناقشاً لها، أو محكماً في بحوث الترقية ومواد المجلات المحكمة؛ وأعمال المرشحين للجوائز العالمية، أو محاضراً ومنتدياً. وعبر هذه المهمات لم اختلف مع أحدٍ من أولئك بالشكل الذي يتصوره البعض، فكيف يتصور صاحبنا أن (الأدب الإسلامي) خلق آخر؟ واختلاف (الأدب الإسلامي) مع حداثة الفكر والفوضوية الأخلاقية عين التعالق مع الكلمة الطيبة.
والأستاذ (الألمعي) يحسب أن إشاعة الكلمة الطيبة من السهولة بمكان، بحيث تمر مرَّ السحاب لا ريث ولا عجل، وما يدري أنها لن تشيع إلا إذا أجهضت الكلمة الخبيثة. ولأن للكلمة الخبيثة أنصارها ومنتجيها والمستفيدين منها فإن (الأدب الإسلامي) وأنصاره مكرهون على الصراع أو الصدام، بعد استنفاد وسائل الدفع بالتي هي أحسن، وكلمة (خبيثة) دركات، فهي تطلق على الرديء المباح، وعلى الفاسد المحرم، وقد ترد في سياق يمنحها المشروعية على حد: (حاكي الكفر لا يكفر). و(أدب الاعتراف) و(الواقعية) و(الفوضوية) أضلت أفهاماً، وأزلت أقداماً، ولمَّا تزل مصدر اختلاف في المواقف والمفاهيم، ولا ينجو من مزالقها إلا العالمون بالمحظور والمباح. ولما كانت (الحرب خدعة) فإن الذين لا يحترمون المصداقية يفترون الكذب، ويمعنون في التضليل، ويخوفون أولياءهم من هذا المصطلح الذي أرست قواعده (آيات الشعراء)، ومن أصدق من الله قيلا، وأملي من كل الطيبين ألا تغشاهم المفتريات، فيصدقون ما يقال.
إن (الأدب الإسلامي) هدف كل مسلم، ومطلب كل شريف، ومن ذا الذي يود إشاعة الرذيلة، وتدنيس المقدس، وإفساد الأخلاقيات. ولهذا فقد أنس (الألمعي) بهذا القول الذي قلته، وتبقى مع كل ذلك مساحة للاختلاف، فلكل أديبٍ أو مفكر رؤيته وحدود تصوره، فما يراه (الألمعي) مسموحاً به، قد لا أراه أنا، ومن هنا ينشأ الاختلاف المشروع. وإشكالية التفريق بين الثابت والمتحول، والفكر والعقيدة، والعادة والعبادة، قائمة على أشدها وستظل مجال تباين وتنازع، فقد يكون الثابت عندي متحولاً عند غيري. على أن الحل ممكن، لو عرفنا حتمية الرد لله ولرسوله والتسليم بقضائهما، وأنه لا خيرة عندئذ (إن الحكم إلا لله).
وإذ نتفق على حق الحرية، وحق الإمتاع واللهو المباح على حد (إن الأنصار يعجبهم اللهو)، فإننا نختلف حول الحدود والمجالات والمقادير والأنواع، وهذه الضوابط لم يتفق عليها الفقهاء والأصوليون، فضلاً عن الأدباء والنقاد، الأمر الذي جعل الجميع على موعد مع الاختلاف. ومن الخير لنا أن ترحب صدورنا، وأن تحسن مقاصدنا، وأن نقبل الرأي الآخر، متى كان في إطار اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.
و(الألمعي) ومن معه تصوروا أن لقائي يشكل تحولاً في الآراء والمواقف، وعلم الله أنني لم أزل على العهد وعلى الوعد، وأنني لم أتحول قيد أنملة، وما كنت لأساوم على موقفي، ولا أن أتملق النظارة، فما عدت في هذه السن وفي تلك المكانة محتاجاً إلى استرضاء الآخر على حساب مواقفي. وإشكالية (الألمعي) أنه يحتفظ بصورة مزورة عني، ولما رآني على حقيقتي راعه الأمر، ورابه الموقف، وظن بي الظنون. (الأدب الإسلامي) في نظري منذ أن باركت خطوات المؤسسين والمناصرين له، لا يعدو إشاعة الكلمة الطيبة، والدليل على ذلك أن فنّياته وأشكاله ومجازاته واستعاراته وكافة محسناته لا تختلف عما هي عليه في (الأدب العربي) منذ العصر الجاهلي، حتى كتابة هذه الأسطر. ولأجل تقريب وجهات النظر كانت لي محاضرة في (مصر) عن (علاقة الأدب الإسلامي بالأدب العربي)، ولتعميم الفائدة نشرتها في هذه الجريدة، وهي في موقعها على (الإنترنت)، وخلاصة القول إن (الأدب الإسلامي) جزء من (الأدب العربي) وإن كان ثمة اختلاف فإنه في الانحراف الفكري أو السقوط الأخلاقي الذي وسعه (الأدب العربي) وتحاماه (الأدب الإسلامي)، ولمَّا يزل (الأدب العربي) مطية مذللة لكل خطاب، وما اعتراه من تسييس و(أدلجة) و(حدثنة) يوجب على الخيرين انتباذ مكان قصي تمارس من خلاله الكلمة الطيبة.
وما فعله الأستاذ (الألمعي) من إحالة للتراث واستنجاد ب(أبي محمد بن حزم) رحمه الله في كتابه (طوق الحمامة) حجة واهية، فالتراث العربي له وعليه، ولا تخلو فترة من فتراته من علماء وأدباء وشعراء ومؤلفين وموسوعيين يقترفون ما هم مقترفون، والعصمة والتزكية ليست إلا للرسل. ف(ابن حزم) رحمه الله عالم موسوعي، وفقيه متبحر، ومحدث حافظ، ولديه حس أدبي، وهو و(ابن عبدالبر) من أوائل من تلقيت كتبهم بالقبول الحسن. ولعل (الألمعي) يقرأ شيئاً من (نزهة المجالس) ل(ابن عبدالبر)، ومع هذا فإن (ابن حزم) لم يخل من الخصوم في الفقه والحديث وعلم الكلام والأدب، حتى وصفه البعض بالجهمي الجلد، وله رؤية شاذة في كثيرٍ من الفنون.
والتمترس خلف الموروث الإنساني مؤشر فهم ناقص، إذ كل عالم راد ومردود عليه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم والمؤيد. وإذا اختلفنا في شيء من أمر الدين أو الأخلاق أو السلوكيات أو مضامين القول، فإنه لا يرد إلى التراث البشري، وإنما يرد إلى الله والرسول. ولست على أي جبهة مدافعاً عن تجاوزات بعض المشايعين ل(الأدب الإسلامي) فهم قد يردون قولاً مشروعاً، وقد يضيَّقون واسعاً، فكل أديب مسؤول عما يفعل وعما يتصور. فالمبادئ لا تحتمل أخطاء المطبقين، والتاريخ الإسلامي يختلف عن تاريخ المسلمين. ولسنا بقادرين على أن يكون كل منتمٍ للأدب الإسلامي على حق، يتصرَّف وفق مقتضيات (الأدب الإسلامي) إن دفاعي عن مفهوم الأدب ومقتضاه، وليس عن الأديب الإسلامي ومقترفه. والمتبدي من خلال رد (الألمعي) أن نَفَسَه مع الحداثة دون تحفظ، وأساطين الحداثوية من خلال قولهم المنحرف كما المنافقين الذين قال الله لهم: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}. ولسنا نطلق الكفر على معين، ولكننا نحكم بكفر القول حين يدنس المقدس أو يستهزئ أو يرد ما علم من الدين بالضَّرورة، والحداثة حداثة فكر وحداثة فن، والحكم بعد التصور، والتجديد غير الحداثة، فأنا مع التجديد، ولست مع الحداثوية
وحين أرد على (الألمعي) قوله لا أدافع إلا عن نفسي، ولا أحتج إلا برؤيتي، ولا أقدم (الأدب الإسلامي) إلا من خلال تصوري ومفهومي. ولكنني مع هذا أثق بالاخوة والزملاء في الرابطة، فسوادهم الأعظم على وعي تام بالمقتضيات والأهداف، وليس فيهم من هو على شاكلة ما يتصوره الكاتب. ومع تجاوزاته فإنني أحمد له البوح بما يعتمل في صدره. وهو قد وصفني ب(الشراسة) و(العناد)، وأحسبها كلمات لا تليق بي، ولا تحسن منه، ولكنني سأمضي، وكأنه لم يقل، ولم أسمع، مردداً قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}.
وأحب أن أطمئن الأخ أن أنصار (الأدب الإسلامي) لن ينشقوا على أنفسهم، وأن لهم آراءهم المختلفة، وأنهم كغيرهم يدركون تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر. وقولي إن (الأدب الإسلامي) يقوم على إشاعة الكلمة الطيبة قول يؤمن به كل المنتمين لهذا الأدب وهو ما يرحب له صدر (الألمعي). ومهمة (الأدب الإسلامي) لم تنتهِ، ولن تنتهي كما يتصور الكاتب، إنها مرتبطة بالبلاغ والدعوة، وأملي أن يحسن الكاتب ظنه بإخوانه، فليس لهم أهداف، ولا غايات دنيئة، ومعاذ الله أن أكون المبشر بالنهاية. وكل الذي أقوله لأخي: عليك الثبات على المبادئ. ولا تمل مع الريح حيث مالت.
وإذا كان من أنصار (الأدب الإسلامي) من له هدف أو نيَّة دنيئة فذنبه على جنبه، وهو وحده الذي سيحاسب على ما في صدره. وليس بغريبٍ أن تسوء بعض النوايا، فالمنافقون خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتلون، وهم في الدرك الأسفل من النار، ولا نزكي على الله أحداً، فالله أعلم بما في نفوسنا. نعم نحن في الدنيا نحاسب على الظواهر، ولا نقدر على شق صدور الناس لنعلم ما فيها، وفي الآخرة وحدها (يحصَّل ما في الصدور). فعلى أخي (علي) أن يُعرض عن اتهام الناس في نواياهم، وأن يستغفر لذنبه، وأن يكف عن التوهين، وأن يعرف أنه يتحدث في قضايا ذات مساس بالدين، وعليه أن يقرأ آيات الجدل مع الذين يخوضون في آيات الله بغير علم، وآيات التأنيب للمستهزئين، فهي الروادع والمؤطرة. ودون ذلك وفوقه أحسب له ثناءه الذي لا استحقه، وإعجابه الذي لا أراه، ولو كانت القضية ثنائية بينية لما كتبت الرد، ولكن الأمر يمس قضايا حساسة.
وحول رغبته في أن أُسأل عن كتاب (الانحرافات العقدية في شعر الحداثة) ليكون في هذا السؤال إحراج لي، وكشف عن تناقض مواقفي. أحب أن أصحح مفهومه، فالكتاب لم أكن مشرفاً عليه، ولا مشاركاً في تأليفه، ولست مسؤولاً عما فيه من أخطاء، إن كان ثمة أخطاء، وكل دوري فيه دعوتي بأن أكون مناقشاً خارجياً. فالكتاب رسالة دكتوراه تقدم به الدكتور (سعيد بن ناصر الغامدي) إلى قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام، والمشرف عليه (سماحة المفتي)، والمناقشون معالي رئيس مجلس الشورى، وفضيلة الدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل، وهم من هم في علمهم وورعهم وحرصهم على سلامة المقاصد، ولقد دعيت للاشتراك في المناقشة. والباحث بذل جهداً في تقصي الانحرافات العقدية في شعر الحداثة، وناقشها على ضوء رؤيته المستمدة من الشريعة، ولما يزل عمله مشروع أخذ ورد، ولقد جادلته أكثر من ساعة، وما ازددت إلا إعجاباً بدفاعه عن رؤيته. ولاشك أن في شعر الحداثة انحرافات فكرية، تصل إلى حد الإلحاد. وأعيذ (الألمعي) من أن يتحمل أوزاراً ليس له دور فيها، وأتمنى ألا يكون معذراً لشعراء يدنسون المقدس، ويتطاولون على الذات الإلهية. وإذا كان الباحث قد تجاوز أو أخطأ فعلى الأستاذ (الألمعي) أن يضع يده على ذلك لتداركه، ولقد كان لي إسهام يسير في رد كثيرٍ من أحكام البحث، طاوعني الباحث في بعضها، واحتفظ برؤيته في البعض الآخر، ومن ألف فقد استهدف. والباحث مع كل ما تتسم به الرسالة من الحدة والغيرة المحتدمة على محارم الله مثال الجد والاجتهاد، ومع الثناء والتقدير لا نزكيه، ولا نبرر أي خطأ وقع فيه، وفات علينا. وأحسبه سعيداً لو وضعت يده على الهفوات، وممتناً من كل من يهدي عيبه إليه، وما من مؤلفٍ عاد إلى عمله إلا تمنى التعديل والتبديل والحذف والتقديم والتأخير. وواجب (الألمعي) أن يهدي عيوب صاحبه إليه، وحق كل متحدث على مستمعيه أن يرشدوه إذا ضل. وأحب أن أؤكد للأخ أنني على العهد، ولم أتراجع، ولن أتراجع، ولكنها حقائق دامغة، سمعها فكشفت عن تحامل الخصوم. فما كان منه إلا أن حملها على التراجع، وما هي كذلك. وأنا من قبل ومن بعد لم أخف قناعتي، ولست محتاجاً أن أداهن، ولا أن أجامل، فأنا غني بالله عن كل مجاملة تجر مصلحة عاجلة.
وامتناني من كلمات الثناء والإشادة لا تحول دون عتبي على كلمات اللمز والغمز، ولما أزل مطمئناً كل الاطمئنان على أن البقاء للأصلح، وان الله يحاسب على النيات. وكل الشكر للمثير ف:
(لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود)
المفضلات