بسم الله الرحمن الرحيم
استطاع المئات من الشباب الفلسطيني بالحيلة والالتفاف عن الحواجز العسكرية الصهيونيّة المحيطة بمدن الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة أنْ يصل إلى الشوارع القريبة المؤدية إلى المسجد الأقصى، إلاّ أنّ حواجز أكثر صرامة انتظرتهم عند بوابات المسجد الأقصى، تفتيش وتدقيق صهيونيّ في هوياتهم الشخصية يكشف بأنهم من سكان الضفة الغربية أو من القرى الواقعة خلف الجدار الفاصل المحيط بالقدس وهم الممنوعون من دخولها.
والأمر ليس بحاجةٍ إلى سؤالٍ من الشرطي الصهيونيّ، فالأمر واضح يكشف مكنون صدور الشباب هو أنّ وجهتهم المسجد الأقصى في شهر رمضان المبارك، وبكلماتٍ بذيئة وحركات مستفزة يدفع الجنود الصهاينة بكل هؤلاء الشباب ويجمعونهم في منطقة قريبة من المسجد الأقصى، باصات خاصة تحملهم وتنقلهم مجبرين إلى خارج حدود مدينة القدس المحتلة، لتحرمهم من صلاة ركعتين اثنتين في المسجد الأقصى في شهر رمضان المبارك.
شباب أعمارهم بين 18-25 عزفوا عن الدنيا ومشاغلها وملاهيها وأرادوا أنْ يواسوا الأقصى في وحدته، أعينهم اغرورقت بالدموع وقد كانوا قاب قوسين أو أدنى من باب "الأسباط" أو باب "حطة" أو باب "السلسلة"، وقد شموا رائحة القدس والأقصى، ولكن قساة القلب حرموهم من لذة الصلاة والرباط والإفطار في رحاب الأقصى، دمعت عيونهم... ولكن هيهات أنْ يُهزَموا وقد تعلّقت أرواحهم حبّاً لفلسطين وجوهرتها القدس وتاجها المسجد الأقصى... وأرواحهم تردّد "عايدين.. عايدين يا أقصى ولو بعد حين".
وكأن فلسطينيو الداخل يشاهدون هذه الصور المحزنة والمبكية، وكأنهم يردّون على ممارسات الحصار الصهيونيّ ومحاولات تفريغ القدس المحتلة من أهلها والمسجد الأقصى من مصلّيه..
وعلى عكس الصورة التي ذكرت، شباب في مقتبل العمر، وفتيات ونساء، رجال وأطفال، شيب وشباب، في تجمّعات كثيرة في مختلف مدن وقرى الداخل الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية (حيفا، عكا، يافا، اللد والرملة) ينتظرون في ساعات الصباح الباكر من أيام رمضان، حافلات "مسيرة البيارق" التي تسيرها مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية، لتنقلهم جميعاً إلى مدينة القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك، عشرات الحافلات تشقّ طريقها يومياً، وتيمّن نحو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، ولسان حالهم يقول: "من أجل عيونك يا قدس ويا أقصى تقصر المسافات وتهون الصعاب والمشاق".
عندما يتنفس الصبح في القدس، يصحو أهلها وزائروها القلائل على أنغام طيور "الكنار" الجميلة المنتشرة قبالة أو داخل المحلات التجارية في البلدة القديمة في القدس، فيكاد لا يخلو دكان أو حاصل أو مطعم إلا ويزيّن بطائر "الكنار" أو عدة منها، ترانيم مقدسية، وطيور تسبح بحمد ربها، تزيد القدس جمالاً على جمالها...
في هذه الساعات الأولى، أزقة القدس شبه فارغة من الزائرين وأول الواصلين إليها نسوة كادحات مسنات في الجيل، أراد الاحتلال إذلال أسرهم بالفقر والعوز، إلا أنّ الكبرياء والعزم والإباء دفعت هذه النسوة من الخليل وبيت لحم والعروب ورام الله وغيرها إلى تجميع بعض المحاصيل الزراعية الفلسطينية الأصيلة، لبيعها في أسواق القدس.. أميال وأميال تقطعها اؤلاء النسوة، بعضهنّ مشياً على الأقدام تخطياً للحواجز العسكرية الصهيونيّة الظالمة، عشرات من النسوة الفلسطينيات، شاب الشعر وانحنى الظهر ولكن الهامات مرفوعة، ينتشرن على مداخل البلدة القديمة وفي أزقتها يبعن العنب الخليلي، الكوسا، الفكوس، الشجيرة، والنعناع، وأنواع من الفواكه والخضروات الكثيرة، ومع مرور الزمن أصبحن يتقنّ فنّ الأخذ والعطاء وفنون البيع والتجارة، بل قل إنّه التحدّي والإباء ومحاربة الفقر والعوز، إلا لله رب العالمين..
أبواب المسجد الأقصى المحاطة بالكاميرات البوليسية والأسيجة الإلكترونية يربض عندها أفراد قوات الأمن والشرطة الصهيونيّة، ودون مراعاة حرمة المسجد، شرطية صهيونيّة تشعل سيجارة وتغازل شرطياً صهيونيّاً يجلس ملاصقاً لها، مشهد يتكرر على أكثر من باب من أبواب الأقصى خطوات داخل المسجد الأقصى صباحاً.. حراس المسجد الأقصى يجلسون على أهبة الاستعداد والترقب آخذين الحذر والحيطة، أحدهم يمسك المصحف الشريف يتلو آياتٍ من القرآن الكريم، عينه الأولى على المصحف والأخرى على الداخلين إلى المسجد الأقصى، قلائل هم الزوار من المصلين في هذه الساعات الأولى من اليوم، ينتشرون هنا وهناك في المسجد الأقصى وصحن قبة الصخرة، وفي باحاته وساحاته، المسجد الأقصى شبه حزينٍ لقلة الرواد والمصلين وكأنه ينتظر ويطلب المزيد.. المزيد.
في تمام الساعة العاشرة تقريباً تبدأ حافلات "مسيرة البيارق" تصل تباعاً إلى القدس والمسجد الأقصى، مئات وآلاف من الرجال والنساء والأطفال ينزلون من الحافلات مسرعين نحو الأقصى، من "الناصرة"، من "أم الفحم"، من "اكسيفة" في النقب، من "طمرة"، من "باقة الغربية"، من "الفريديس"، من "كفر قرع"، من "قلنسوة"، من "المشهد"..
نسأل الأخت "أمّ سليمان" من "المشهد" عن وجهتها فتقول: "نحن متّجهون كعادتنا في أيام كثيرة وخاصة في شهر رمضان للصلاة في المسجد الأقصى، لنصلي ونرابط ونعتكف في المسجد الأقصى"، ولماذا؟، لأنّ المسجد الأقصى في خطرٍ ويُحرَم أهلنا من الضفة الغربية وقطاع غزة الوصول للمسجد الأقصى والصلاة فيه، فنأتي لنواسي المسجد الأقصى"، وأيضاً تقول: "طبعاً نقوم بالتسوق وشراء الحاجيات والهدايا المنزلية حتى نرفع من معنويات أهل القدس المحيطين بالمسجد الأقصى، نعم ندعمهم معنوياً ومادياً مبتغين بذلك وجه الله".
أمّا الحاج "أبو ناصر" من "الناصرة" فيقول: "القدس والأقصى بمثابة الروح للجسد، القدس والأقصى آية في كتاب الله وعقيدة في قلوبنا، والتفريط فيهما تفريط بالعقيدة".. أما آخر فيقول: "لقد تعلقت قلوبنا وأرواحنا في المسجد الأقصى.. بل إنّ أرواح أطفالنا اليوم متعلقة بالأقصى ونراهم بمئات يأتون ليؤدوا الصلاة في المسجد الأقصى".
ورويداً رويداً يزداد عدد المصلين من الصائمين في المسجد الأقصى، ويمتلأ المسجد القبليّ الكبير بالرجال ومسجد قبة الصخرة يمتلأ بالنساء، ركعات وسجدات ودعوات في أنحاء المسجد الأقصى المبارك.
وكذا الأمر في البلدة القديمة، وكأنّ الروح تدبّ في المسجد من جديد ، فترشّهم الفرحة والبهجة على وجه المسجد الأقصى مروراً بالمصلين، أما أهل القدس فيكبّرون الله على ما رزقهم وبعث لهم من يشتري من أسواقهم ومحلاتهم التجارية من الأهل من فلسطينيي الداخل.
على مدخل سوق "القطانين" الملاصق للمسجد الأقصى حُفِر على قطعة حجرية "سوق القطانين"، تم إعماره في عهد السلطان محمد بن قلاوون، الفترة المملوكية، على يد نائب السلطان في الشام سيف الدين تنكز الناصري عام 737هـ/1336م وجددت عمارته على يد الأوقاف الإسلامية في القدس عام 1972م.
في سوق "القطانين" تنتشر الدكاكين التي تتبع الحاجيات الرمضانية، المسابح، الفوانيس، بعض الحلويات، الجلابيب، والشالات النسائية، الألعاب، والكتب الإسلامية.
في دكان "الأبناء" يجلس الحاج إبراهيم اسكافي (63 عاماً) ويحدثنا قائلاً: "الوضع في رمضان مزدهر والإقبال يتزايد، والحركة التجارية تنتعش.. ودعني أقول لك بصراحة: 80% من المشتريات يقوم بها أهلنا من فلسطينيي الداخل في مناطق الـ48، هذا الأمر يدعم أهل القدس، وكذلك يعمّر المسجد الأقصى بالمصلين على مدار اليوم والليلة".. الشيخ إبراهيم اسكافي يعمل حارساً في المسجد الأقصى منذ 27 عاماً، إلا أنّه يأبى ويصرّ على تعريف نفسه بأنّه "خادم المسجد الأقصى" وهو يقضي أغلب وقته في المسجد الأقصى، ويؤمّ المصلين في صلاة المغرب في مسجد قبة الصخرة، وفي بعض أوقات فراغه يجلس في دكان أولاده يساعدهم خاصةً في وقت ازدحام الزبائن، إلا أنّه في زحمة الدنيا لا ينسى أنْ يرفع يديه مراراً سائلاً المولى عز وجل أنْ يفكّ أسر المسجونين ويدعو بخيرٍ للقائمين على إعمار المسجد الأقصى ومن يقدّمون موائد إفطار الصائمين في المسجد الأقصى، ويخصّ الشيخ رائد صلاح بدعوة وسلام.
في سوق شارع "الواد" المكتظّ بالمتسوقين من أهل الداخل الفلسطيني يحدّث الحاج "أبو عاصم" محمود القيمري (53 عاماً): "لقد حوّلت الدكان منذ سنوات من دكانٍ سياحي أجنبي إلى دكان سياحي إسلامي، نبيع المسابح، الجلابيب النسائية، والدشاديش، وأطقم الصلاة، وهناك إقبال شديد، وعدد المصلين والمصليات من جيل الشباب يزداد، وأكثر من يشتري منّا هم أهلنا من الداخل الفلسطيني.. إنّهم يدخلون البهجة والفرحة على أهل القدس أنها بركات من الله"... يُقدّم لنا سبحةً هديةً لنا ونمضي نحن إلى حال سبيلنا.
ساعاتٌ يقضيها الناس في أسواق البلدة القديمة، بنيّة الدعم للمرابطين المحيطين في المسجد الأقصى، وما إنْ يقترب موعد صلاة الظهر حتى ترى الأغلب وقد توجّهوا للمسجد الأقصى للصلاة، طلابٌ صغارٌ من المدارس، وطالبات يملأن ساحات المسجد الأقصى، وآخرون رغم إعاقاتٍ في أجسادهم إلاّ أنهم يتحلّقون في المسجد الأقصى ينتظرون أذان الظهر حتى يُرفَع، وفي القضاء القدسيّ يُسمَع الأذان.. ويردّد المؤذن "حي على الصلاة.. حي على الفلاح"، فيلبّي له من يسمع، بالقرب من أحد أعمدة الأقصى يجلس الشيخ عكرمة صبري، مفتي القدس والديار الفلسطينية، والشيخ محمد حسين، مدير وخطيب المسجد الأقصى، ما إنْ يُنْهوا سنّة الظهر حتى يتوجّه لهم الكثير من المصلين بالاستفسار والتفقّه في أمور دينهم خاصة الصيام والزكاة.. يصلّي الآلاف صلاة الظهر، الرجال في الجامع القبلي الكبير والنساء في مسجد قبة الصخرة وآخرون في باحات وساحات المسجد الأقصى وتحت ظلال أشجاره المنتشرة في جوانبه، منهم من يجمع الظهر والعصر، وأغلبهم يمكث بعد انتهاء صلاة الظهر ليستمع إلى الدرس اليومي الذي تنظّمه مؤسسة الأقصى في شهر رمضان في محراب الأقصى تحت عنوان "إحياء دروس مصاطب العلم في المسجد الأقصى"... بصوته الجهور وخواطر إيمانية، يتحلق المئات حول الشيخ محمد أمارة ليستمعوا إلى درسٍ إيماني روحاني، حلقات من تلاوة القرآن تنتشر في أنحاء المسجد الأقصى، بعضهم يأخذ قسطاً أو حظاً من سنة القيلولة بانتظار صلاة العصر.
بعد صلاة العصر تبدأ حركة نشطة في الجهة الشرقية الجنوبية من المسجد الأقصى وتحديداً على سطح المصلى "المرواني".. هناك يبدأ التحضير لتقديم آلاف وجبات الإفطار للصائمين من أهل القدس وكذا من وصل رباطه في المسجد الأقصى من فلسطينيّي الداخل، وقبل صلاة المغرب تكون الوجبات قد وضعت وجُهّزت بنظام وترتيب، موقع لإفطار الصائمين من الرجال وآخر لإفطار الصائمات من النساء، ويشدّ الناظر مشهدٌ لأطفالٍ كثرٍ يرابطون في الأقصى.. أحدهم يسمى داوود الشلهودي وآخر اسمه مصطفى رمضان أبو هلال وأخوه عبد الهادي يبادروني بالقول: "نحن نأتِ يومياً للمسجد الأقصى لأداء الصلاة وصلاة التراويح وكذلك صلاة الفجر لأنّ المسجد الأقصى غالٍ على نفوسنا ونحبه كثيراً".
الآلاف يؤدّون صلاة المغرب، يتناولون شربةً من الماء وحبّاتٍ من التمر ثم يجلسون لتناول وجبات الإفطار في ساحات المسجد الأقصى، ومن ثم يقضون الوقت قبل صلاة العشاء بقليلٍ من الراحة وشرب الشاي أو القهوة أو تناول بعض الحلويات.
في الليل تلبس القدس والمسجد الأقصى حلة جديدة من الأنوار والفوانيس الرمضانية تنتشر في البلدة القديمة خاصةً على مداخل وأبواب المسجد الأقصى، ويتوافد المصلون بكثرة، ويزدحم المسجد وتمتلئ ساحاته، يصلون العشاء ثم التراويح بخشوع لينتهي يومهم المقدّس، فيعود المقدسيّون إلى بيوتهم... أمّا أهل الداخل الفلسطيني فتحملهم حافلات "مسيرة البيارق" إلى قراهم ومدنهم في الداخل الفلسطيني، مودّعين المسجد الأقصى الذي ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة وينتظر عودة الأحباء له غداً أو بعد غد..
وكل عم وانتم بالف خير
تحية شمرية طائية
القدس
المفضلات