تابع صفوة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم :
* البعثة وأول الوحي :
لما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين ، كانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه ، وحبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق ( هو طعام الخبز والشعير ) والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور ، على مبعدة نحو ميلين من مكة ، ومعه أهله قريبا منه ، فيقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قدرة مبدعة ، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة ، وتصوراتها الواهية ، ولكن ليس بين يديه طريق واضح ، ولا منهج محدد ، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه . وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له ، وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم ، ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى . لابد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت ، وانقطاع عن شواغل الرض وضجة الحياة ، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة . وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل خط التاريخ ، دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات ، ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان ، مع روح الوجود الطليقة ، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون ، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله . ولما تكامل له أربعون سنة بدأت آثار النبوة تلوح وتتلمع له من وراء آفاق الحياة ، وتلك الآثار هي الرؤيا ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصب ، حتى مضت على ذلك ستة أشهر ، ويروى عنه صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث . فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض ، فأكرمه بالنبوة ، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن . وكان ذلك على أرجح الأقوال يوم الاثنين لإحدى وعشرين ليلة مضت من شهر رمضان ليلا ، ويوافق العاشر من أغسطس سنة عشر وستمائة للميلاد ، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية ، وستة أشهر ، واثني عشر يوما ، وذلك نحو تسع وثلاثين سة شمسية وثلاثة أشهر واثني عشر يوما . ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها تروى لنا قصة هذا الحدث العظيم الذي كان شعلة من النور غيرت مجرى الحياة وعدلت خط التاريخ ، قالت عائشة رضي الله عنها : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه ( أي يتعبد ) الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع ( أي يرجع ) إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غر حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قال: ما أنا بقارئ ، قال: فأخذني فغطني ( أي عصره عصرا شديدا ) حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت: ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال: اقرأ ، فقلت: ما أنا بقارئ !؟ فأخذني فغطني الثالثة ، ثم أرسلني فقال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم , الذي علم بالقلم , علم الإنسان مالم يعلم ) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني ( أي غطوني ) فزمله حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة ، مالي وأخبرها الخبر ، لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة كلا ، والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ( أي يحمل عن غيره ما يهمه من الأمور ) وتكسب المعدوم وتقري الضيف ( أي تكرمه ) وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ وكان امرءا تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ـ فقالت له خديجة يا ابن عم ! اسمع من ابن أخيك ، فقال لهورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس ( الناموس: صاحب سر الملك ، كناية عن جبريل عليه السلام لأنه المختص بإبلاغ الوحي عن الله تعالى ) الذي نزله الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ( أي شابا قويا ) ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ( الفتور : الضعف ، والمراد انقطع ) . وكان انقاع الوحي مدة أيام سميت بزمن الفترة .
* انقطاع الوحي ثم عودته :
وانقطع الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيبا محزونا ، تعتريه الحيرة والدهشة ، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه : وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا عدا ( أي جرى ) منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا ، فيسكن لذل جأشه ( أي قلبه ) وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفي بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك . قال ابن حجر : وكان ذلك ( أي انقطاع الوحي ) أياما ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع ( أي الخوف ) وليحصل له التشوف إلى العود ، فلما تقلصت ظلال الحيرة ، وثبتت أعلام الحقيقة ، وعرف صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أضحى نبي الله الكبير المتعال ، وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء ، وصار تشوفه وارتقابه لمجيء الوحي سببا في ثباته واحتماله عندما يعود ، جاءه جبيل للمرة الثانية ، روى البخاري عن جابر بن عبدالله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي ، قال: فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت ( أي فزعت) منه حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت : زملوني ( أي غطوني) زملوني ، فزملوني ، فأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر إلى قوله فاهجر ، ثم حمي الوحي وتتابع .
المفضلات