الحمد لله الذي أعطى كل شيء خلْقه ثم هدى ، الذي أهلك عادا الأولى ، وثمود فما أبقى ، وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ، والمؤتفكة أهوى ، فغشاها ما غشّى ، فبأي آلاء ربك تتمارى ، وأصلى وأسلم على من لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، محمد بن عبدالله العربي القرشي الأمي اللهم ارض اللهم عن صحابته أجمعين ، ومن سار على نهجه واتبع هديه ونصر سنته وذاد عن شرعه الطاهر ، إخوتي في الله ، كثيرا ما أقرأ في هذه المضايف مواضيع ، يكثر فيها الجدل ، ويحتدم فيها طرفان حول مسلمات شرعية ، بل عقدية ، طالما تم بيانها في كثير من المواضع ، وتم مناصحة أهلها ، وإفهامهم بأن سياسة المضايف واضحة ، ومنهجها واضح ، وطريقتها واضحة ، وقد بينها صاحب الموقع حفظه الله في أكثر من مكان ، لأن دين الإسلام ، دينٌ كاملٌ لا نقص فيه، محكمٌ لا ثغرة فيه، مضيءٌ لا ظلمة فيه، والكامل هو الّذي يراد بالتّنقّص دون النّاقص.
وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ فهي الشّهادة لي بأنّي كامل
وكما قال الصّينيّون: "إنّ النّاس لا يرمون بالأحجار إلاّ الشّجرة المثمرة"، لهذا فقد كان هذا الدّين غرضًا لسهام كثيرٍ من الحاقدين، وكان هذا الدّين مظنّةً لظنون كثيرٍ من الجاهلين، وأمّا أولئك الّذين لم يكونوا حاقدين ولم يكونوا جاهلين فإنّ كثيرًا منهم وقفوا عاجزين عن ردّ شبهات المشبّهين وعن ردّ ظنون الظّانّين، فضاع الإسلام بين حاقدٍ وبين جاهلٍ وبين عاجز.
ولكنّه لا يحتاج إلى من يدافع عنه؛ لأنّه حقّ بذاته لا بمدافعيه، ولأنّه كمالٌ بذاته لا بمناصريه، ولكن شرفًا للمرء أن يكون مدافعًا عن الدّين الكامل وإن كان هذا الدّين مستغنيًا عنه؛ لأنّ الله جلّ وعلا تكفّل بحفظه ببشرٍ أو بغير بشر، وتكفل بنشره بعزة عزيز أو بذلة ذليل ، فالدين محفوظ ، والقرآن محفوظ ، والسنة محفوظة .
شبهات كثيرة ، تقع من همج الورى ، وتقع من رعاع الأمه ، ومن غثاء سيلها ، وما هم من بلعام بن باعوراء ببعيد ، الذي قال الله عز وجل فيه ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (لأعراف:175- 176)
لقد دندن أولائك ومن ورائهم حول مسائل العقوبات الشرعية ، وحول مسائل الحجاب وحقوق المرأة وحقوق الإنسان ، وقضايا الإختلاط ، وغيرها من القضايا العصرية ، التي أججت وأذكيت نارها من قبل أعداء الدين ، ومن سار في ركبهم ، ودار في فلكهم ، وصاروا كل قضية تبرز في المجتمع من خلال أتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكل كلمة تقال ، يضعونها تحت المجهر ويقيمون الدنيا ويقعدونها من أجلها ، ووالله لو انتهكت أعراض ، وظهرت منكرات ، وعطلت عبادات ، لما أحسست منهم من أحد أو سمعت لهم ركزا ، يبرزون هذه القضية ، وكأنه ليس في الكون إلا هذه القضية ، وليس لهؤلاء المحتسبين ، مقعد على رحلة حسن الظن ولا حتى في قائمة الإنتظار ، يقلبون هذا الدين ذات الشمال وذات اليمين ، هذا الدين الذي أعزنا الله به ، ورفع رؤوسنا به ، فكنا بنعمته إخوانا ، هذا الدين الذي عجزت أن تقوم لهذه الأمة قائمة إلا به ، لا أدري هل يلمزون الدين بأهله ، أم أهله به ، قد قرأنا كثيرا من كتاباتهم ، زعموا أنّ الإسلام دين عنفٍ وقسوة ودين إرهابٍ وتطرّفٍ وبطش، قالوا هو دينٌ يطالب بإيجاد مجتمعٍ إرهابيٍّ تسود فيه الأحكام الجائرة، فتارةً يذبَّح أشخاصٌ، وأخرى تقطّع أيديهم، يجلدون ويرجمون بالحجارة حتّى الموت، عقوباتٌ عفا عليها الزّمان كما يقولون، عقوباتٌ صارت تتنافى مع حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين، عقوباتٌ صارت بعيدةً عن الحسّ الحضاريّ لإنسان العصر الحديث ولإنسان النّظام العالميّ الجديد؛ لذلك علينا أن نقوم بأحد أمرين: إمّا أن نُنظّف الإسلام من هذه الأحكام الجائرة حتّى يصير دينا حضاريًّا، وإذا عَجَزنا عن هذا التّنظيف فلندع الإسلام جملةً وتفصيلا؛ لأنّ دينًا فيه مثل هذه الأحكام ليس أهلاً لأن يُطبّق في زمان النّظام العالميّ الجديد.
سمع سذجٌ مسلمون هذا الكلام فأعجبهم وغرّهم، فأخذوا بالرّأي الأوّل ظانّين أنّهم به يكونون مسلمين، قالوا: إذًا نبقى مسلمين ولكنْ مع إجراء بعض عمليّات التعديل والتّطهير والتّنظيف لهذا الدّين؛ لا بأس بالإسلام ، ولكن نريد إسلامًا حضاريًّا خاليًا من الشّوائب، نريد إسلامًا لا عنف فيه، نريد إسلامًا لا إرهاب فيه، نريد إسلامًا لا تقطع فيه أيدي السارقين ، ولا يرجم فيه الزناة المحصنين من الرّجال والنّساء ولا يجلد فيه القاذف وشارب الخمر ، فهؤلاء بزعمهم برءاء أذنبوا ذنبًا لا يتناسب مع هذه العقوبة العظيمة.
صدّق أولئك هذا القول، فإن حملناهم على محامل صدق الطوية ، وسلامة النية ، فإذا بهم يحاربون الإسلام من حيث أرادوا أن ينصروه، ويوسّخونه من حيث أرادوا أن ينظّفوه، الإسلام برّاقٌ بذاته ، لا يحتاج إلى من يلمّعه، فإذا زعم امرؤٌ عندما يُحرف شيئًا من تعاليم الإسلام وأحكامه ، أنّه يلمّع الإسلام فإنّه يزعم إذًا أنّه يزيد فيه، والإسلام كامل، وليست الزّيادة على الكامل إلاّ نقصانا، الكامل لا يُزاد فيه، فمن زعم أنّه زاد الكامل فوق كماله فهو إذًا ينقصه، ومن زعم أنّه يلمّع الإسلام فوق لمعانه فهو إذًا يُبهته.
خذوا الإسلام كما هو، خذوه جملةً واحدة، أو فدعوه جملةً واحدة، ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85]، كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، جعلوا القرآن عضين ، أعضاء وأشلاء مفرقةً مبعثرةً، يأخذون ما بدا لهم ويدعون ما لم يبدُ لهم، يأخذون ما توافق مع هواهم ويدعون ما تخالف معه، يأخذون ما وافق عقولهم الفاسدة ويدعون ما خالفها، ( كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الحجر:90-93].
خذوا الدّين جملةً أو فدعوه جملة من حيث الاعتقاد ، ومن حيث القبول ، ومن حيث الإستسلام ، ومن حيث الإنقياد ، فالدين ليس مائدة طعام يتخير الإنسان ما يحلوا له ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:208) أمّا من حيث التّطبيق فالأمر يختلف قليلا لأن هناك فرق عظيم ، وبون شاسع ، بين من يقبل أمرا شرعيا قبول عقدي ولا يطبقه تطبيق تعبدي وبين من يرفض الأمر ويرده ولا يقبل به ، لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم منعت قبائل من العرب الزكاة وقالوا كنا نؤديها على وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد مات الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلا نؤديها لأبي بكر ، ( سبحان الله ، أنظر كلامهم ، أهي لله أم للرسول ) فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه وقال : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، ولم يقل رضي الله عنه ما داموا يصلون وقبلوا بالصلاة ولم يقبلوا بدفع الزكاة فالأمر هين ، وكان المسلمون آنذاك بأشد الحاجة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف والتضامن ، فهل سعى أبو بكر رضي الله عنه إلى تقريب وجهات النظر ، وقال هذه حرية فكر ، أبدا ، بل قاتلهم وكل يعرف حروب الرده ، وذلك لأن هذا الإمتناع إمتناع عقائدي ، الاعتقاد عند الله لا يجزّأ، فإمّا أن يقبل كلّه أو أن يُردّ كلّه، ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) [البقرة:85]، الخطابُ هنا خطابُ عقيدةٍ إذًا لا خطابُ تطبيق،
وكم من أُناسٍ عجزوا أو نكصوا عن أن يطبّقوا الإسلام كلّه فتركوا بعض تعاليمه، فهل نقول: إنّ كلّ ما طبّقوا مردودٌ عليهم لبعض ما تركوا؟! لا، بل إنّهم يُؤجرون ويأثمون، ميزان حسناتٍ وميزان سيّئات دقيقان لطيفان يحاسبان بمثقال الذّرّة، فالحسنة محسوبة والسّيّئة محسوبة، أمّا إن تعلّق الأمر بالاعتقاد فإنّ التّجزئة هنا غير مقبولةٍ بحالٍ من الأحوال، أن يقول قائل: "يعجبني في الإسلام تعاون أفراده ، ويعجبني في الإسلام الحسّ الرّوحيّ اللّطيف فيه ، ويعجبني في الإسلام تهذيب الأخلاق فيه ، ويعجبني في الإسلام الصّلة بين العبد وربّه ، كلّ هذا أقبله ، فأنا مسلمٌ من هذا المنطلق ، ولكنْ أن تقول لي: عبوديةٌ في القرن العشرين والحادي والعشرين! وأن تقول لي: قطعٌ للأيدي في عصر حقوق الإنسان! وأن تقول لي: رجمٌ بالحجارة في عهد المنظّمات الدّوليّة ووسائل الإعلام تبثّ كلّ صغيرةٍ وكبيرة! فإسلامٌ من هذا النّوع لا يعجبني، إذًا أنا مسلم"، نقول له: إذًا أنت غير مسلم، لأنّ المسلم مستسلم، وليس الإسلام إلاّ إسلام الكلّ لله تعالى، فلا تكون مسلمًا ما لم تسلّم عقلك وهواك وجوارحك بعد ذلك كلّه للدّين، فإن كنت غير مستعدٍّ لأن تستسلم جملةً وتفصيلا فإذًا أنت لست مسلما، ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب:36]، ((لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) أخرجه الحسن بن سفيان وغيره عن أبي هريرة، قال ابن حجر: "ورجاله ثقات" وصححه النّووي في الأربعين، حتّى يكون عقله، حتّى يكون منطقه، وحتّى تكون طريقة تفكيره، كلّ ذلك تبعًا لما جاء به .
فبالله عليكم إذا كنا بهذا نخاطب المؤمنين الّذين زعموا أنّهم يكونون مسلمين وإن ردّوا بعض عقائد الإسلام، فبماذا نخاطب غير المسلمين؟
هنالك من نذر حياته للشبه ، وإثارة البلبلة ، تحت شعار حرية الفكر ، وحرية الرأي ، تشدّقوا بها ولاكتها ألسنتهم، وعندما تكلّموا بها زعموا أنّهم أصابوا من الإسلام مقتلا، وزعموا أنّ المسلمين أجمعين سيقفون عاجزين لأنّ الإسلام ثبت أنّه دينٌ غير حضاريّ، وقالوا إنّها حرّيّة الرّأي، إنّها حرّيّة اعتناق المذهب والمبدأ والتوجه والإعتقاد ، إنّها الحرّيّة الّتي أعطاها الإسلام أتباعه ورعايا دولته من غير أتباعه على حدٍّ سواء، بينما زعم غير المسلمين أنّها حرّيّةٌ مفقودةٌ في ظلّ دولة الإسلام، تلك الدّولة الّتي يزعمون أنّها دولةٌ ثيوقراطيّة؛ دولةٌ يسود فيها الحكم الدّينيّ الإرهابيّ الجائر، وليست الثّيوقراطيّة من الإسلام في شيء، إنّما الإسلام أُنموذجٌ لا يمكن أن يُعبّر عنه مصطلحٌ من المصطلحات الغربيّة؛ لأنّه أُنموذجٌ لا يعرفونه، فلا يشبهه حكمٌ دينيٌّ نصرانيّ، ولا حكم دينيٌّ يهوديّ، ولا حكمٌ دينيٌ بوذيّ، ولا يشبهه بالمقابل حكمٌ مدنيّ، هو حكمٌ دينيٌّ مدنيٌّ في آنٍ معًا، هو حكمٌ منضبطٌ حرٌّ في آنٍ معًا، ولكنّ ذلك التّحرّر يرسم أسمى معاني الوسطية بين التّحلّل والتّحجّر، ديننا دين أوساط ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) ، وما من وسطٍ إلاّ هو فضيلة ، فالفضيلة هي وسطٌ بين رذيلتين، يعرف ذلك علماءالدين وعلماء الأخلاق والسلوك ، فلماذا حاكموا الإسلام بمعيارٍ آخر؟ فأرادوا أن يكون الإسلام بعيدًا عن الوسط طوباويًّا خياليًّا على طرف نقيضٍ من الرّذيلة ، أفلا يعلمون أنّ كلّ طرفي نقيضٍ متقابلين متشابهان؟! فما قابل الرّذيلة فهو رذيلة ، ما قابل التّزمّت المذموم تحلّلٌ مذموم ، ما قابل التّعصّب المذموم تسيّبٌ مذموم، والحقّ هو الوسط بين الأضداد، التّحرّر وسط بين التّحلّل والتّحجّر، الإسلام ما دعا إلى تحجّرٍ وتزمّتٍ وانغلاق، ولكنّه بالمقابل ما أفسح المجال لأيٍّ كان حتّى يتحلّل من الضّوابط والقيود ويفعل ما يشاء متى يشاء بالشّكل الّذي يشاء،
الحرّيّة الدّينيّة ـ أيها الأحباب ـ أسٌّ من أسس الإسلام، لمّا كان الأنصار أوسًا وخزرجًا في الجاهليّة قبل أن تصهرهم بوتقة الإسلام كان بعضهم لا يعيش له ولد وكان ينذر إن عاش له ولدٌ أن يهوّده ؛ بحكم معاشرة اليهود للعرب ـ الأوس والخزرج ـ في تلك المدينة ، فلمّا جاء الإسلام ونُوِّرت المدينة المنوَّرة كان كثيرٌ من أبناء الأنصار عبدة الأوثان يهودًا ، فأسلم الآباء وبقي الأبناء على دينهم، رغب الآباء في إسلام أبنائهم، ورغب الأبناء عن إسلام آبائهم، وما بين الرّغبة في الإسلام والرّغبة عن الإسلام صار الحبل يُشدّ بين الآباء والأبناء، حتّى همّ الآباء بإجبار أبنائهم على اعتناق الإسلام، عندها أنزل الله تعالى قوله: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة:265]. فهل بعد هذه الحرية من حرية ،ودونك مثالا خر : الجهاد الذي يصمونه بالإرهاب ، وأقصد به الجهاد الذي ورد في الكتاب والسنه بضوابطه الشرعية التي قررها أهل العلم ، فهل علمتم أن الجهاد لم يكن من أجل الإكراه، ولكنّ الجهاد كان من أجل التّحرير، كان الجهاد تحريرًا لآراء الشّعوب وعقائدهم من سلطان الملوك الجائرين، حتّى يستطيع الشّعب اتّخاذ كلمته بعيدًا عن سلطة المتسلّطين، فلمّا حارب المسلمون الملوك والجيوش ولم يحاربوا الشّعوب أفسحوا المجال للشّعوب لاتّخاذ القرار ولإعلان الكلمة، فمنهم من دخل الإسلام ومنهم من لم يدخل، ولم يُكره على ذلك أحد، وحسبك بذلك ذلك الحدث الجليل الّذي وقع في عهد عمر بن عبد العزيز ، عندما انزعج والي مصر من دخول النّصارى في مصر في الإسلام؛ لأنّ دخولهم في الإسلام كان يُقلّلُ ريع الدّولة من الجزية، فأرسل إلى عمر بن عبد العزيز يشكو له ذلك، يشكو له أنّ أهل مصر يدخلون في الإسلام بكثرة، وإنّ هذا سينقص من أموال الجزية، فأرسل عمر بن عبد العزيز إلى والي مصر مَن عاقبه ضربًا بالسّياط، وقال له: (لوددت أنّ أهل مصر كلّهم دخلوا في الإسلام، إنّ الله بعث محمّدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا).
أفترى في موقف الوالي ثمّ في موقف أمير المؤمنين أيّة إشارة أو تشمّ أيّ رائحة بأنّهم أكرهوا النّاس على الدّخول في الإسلام؟! والأمثلة بعد هذا كثير، فلم يكن الجهاد إذًا مظهرًا من مظاهر الإكراه، ولكنّه كان مظهرًا بالغًا من مظاهر التّحرير، ومن مظاهر الإطلاق والإعتاق، فلمّا انعتق النّاس اتخذوا قراراتهم بأنفسهم، ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ )
ها هو تعالى يقول في موطنٍ آخر: ( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ) [الكهف:29]. إنّها حرّيّةٌ مطلقةٌ في الرّأي والاختيار، ولكنّها حرّيّةٌ تترتّب عليها نتائج عظيمة، وبقدر ما يُعطى المرء من الحرّيّة يُحمّل من المسؤوليّة، فلمّا أُعطي حرّيّةً عظمى تتعلّق باتّخاذ القرار في أهمّ مسألةٍ في الكون وأهمّ مسألةٍ على مرّ التّاريخ، ألا وهي حرّيّة اتّخاذ الإله وحرّيّة انتساب الدّين، عندها حمّله أعظم مسؤوليّةٍ على الإطلاق، حمّله نتيجةً عظيمة هي الخلود في نعيمٍ أو في جحيم، ، ولكنْ ما بعد ذلك؟ ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29-31].
هم اختاروا فتحمّلوا نتيجة اختيارهم، ولو أنّه أجبرهم على اتّباع مبدأ أو امتثال أمرٍ أو اعتناق دين لما تحمّلوا هذه المسؤوليّة العظيمة؛ لأنّه سبحانه كما قال: ( لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [يونس:44]، ( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ) [الكهف:29]، ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًَا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) [الأنعام:153]. إنّه تخيير، وما أكثر النّصوص الّتي تُقرّ التّخيير إقرارًا نظريًّا في الكتاب أو في السّنّة، فطريق الخير وطريق الشّرّ بيّنان.
فإذا أسلم أحدهم فالحمد لله ، وإن لم يك مسلمًا فإنّه ليس ملزمًا بأن يصير مسلمًا، فإن صار مسلمًا فبها ونعمت، وإلاّ فإنّ الدّولة الإسلاميّة تحفظ له حقوقه، تحفظ للنّصارى كنائسهم ولليهود بيعهم، وإنّ الدّولة الإسلاميّة تحميهم من أعدائهم، فقط عليه الجزية ، فما أشبه الجزية ببدل حماية ، وأمّا المسلم فليس له ذلك، ليس له ، بل هو ملزمٌ بالجهاد، صار التّفاوت هنا نظريًّا من النّظرة الدّنيويّة لصالح النّصرانيّ، وأمّا من النّظرة الأخرويّة فإنّ الجهاد فضلٌ وشرف وليس قسرًا وكلفة، الدّولة الإسلاميّة مطالبةٌ بأن تحمي النّصارى من بعضهم، كما حدث في إنطاكيّة في بعض عصور الدّولة العثمانيّة، عندما خصّصت الدّولة جنودًا وأحراسًا يحمون طوائف النّصارى من بعضهم لعظيم الفتنة الّتي كانت بينهم، حتّى في فلسطين، حتّى في مهد النّصرانيّة في بيت لحم، كان النّصارى يذبّحون بعضهم ويقتتلون؛ من الّذي يحوز مفاتيح كنيسة المهد ـ مهد المسيح عليه السّلام ـ؛ لهذا فقد آلت المفاتيح إلى المسلمين إلى ذرّيّة أبي أيّوبٍ الأنصاريّ رضي الله عنه.
الدّولة الإسلاميّة مطالبةٌ بتأمين الحياة الكريمة لهؤلاء من غير المسلمين: (فوالله، ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثمّ نخذله عند الهرم)، قالها عمر بن الخطّاب في رجلٍ يهوديّ.
إذًا ليس غير المسلم مطالبًا بالدّخول في الإسلام إلاّ مطالبةً دينيّةً معنويّةً، وأمّا من النّاحية المدنيّة فلا، فإن لم يسلم فإنّه لن يجبر ولن يؤذى ولن يقتل، ولكنْ إذا أسلم صار عضوًا في هذا المجتمع الإسلامي ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، صار عضوًا في الإسلام، فلا بدّ إذًا أن يتحمّل نتائج انتسابه لهذ المجتمع، ولا بدّ من أن يكون راضيًا بكلّ ما فيه من مبادئ وقوانين، لم نأت بهذه القاعدة من عندنا فقط ، بل إنّ كثيرين من غير المسلمين اعترفوا بها، فذلك على سبيل المثال جون جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعيّ) يقرّ أنّ امرأً فردًا من النّاس إن دخل في اجتماعٍ معيّن، وإن صار عضوًا في مجتمعٍ معيّن فقد عقد بينه وبين هذا المجتمع عقدًا بطريقةٍ تلقائيّةٍ، وإن لم يوقّع ويوقّعوا، وإن لم ينصّ وينصّوا، فإنّ العقد قد أبرم لأنّه صار عضوًا في هذا المجتمع، إن أنت دخلت بلدًا من البلدان فهل لك أن تخالفَ قانونه بدعوى أنّك لا تعترف بهذا القانون؟! إن أنت دخلت بلدًا يحرّم أمرا ما في وسائل النّقل ففعلت ذلك الأمر في وسائل النّقل وطولبت بالغرامة أو حبست ربّما، فهل لك أن تقول: أنا لست مقتنعًا بهذا القانون؟! إذا كنت غير مقتنعٍٍ بقانون البلد فلمَ دخلت البلد من الأساس؟! ما دمت قد دخلت البلد فأنت ملزمٌ بكل قوانينه، إن كنت معتادًا على التّسيّب في بلدك ثمّ سافرت إلى بلدٍ آخر لا تسيّب فيه وتسيبت ، فهل تعذر لأنّك من بلدٍ آخر؟! لا، بل إنّ قوانين البلد الجديد صارت نافذةً عليك ملزمةً لك بكل تفاصيلها وحذافيرها، إذا كان هذا يتعلّق بالدّخول في بلد فمن باب أولى الدخول في الإسلام ، ما قيمة إسلامي إذا كنت أتهجم على مسلماته ، وأضع معولي في ثوابته ، وأقلل من شأن من يحملون ألوية الدعوة والإفتاء والتوجيه وقد صدق القائل :
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكموا
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
فإذا دخلت دينٍ الإسلام ، وقلت أنا مسلم ، فأنت إذًا ملزمٌ بتفاصيل هذا الإسلام، وعالمٌ مسبقًا بما يترتّب على كلّ فعلٍ تفعله، ملزمٌ بكلّ تفاصيله لأنّه دينٌ لا يجزَّأ، نظامٌ محكمٌ لا يفتّت، ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) [البقرة:85]. فعليك أن تقبل به كما هو، وما أكثر ما نرى اليوم من مسلمين ضَعف إيمانهم لا لأنّ الإسلام فيه خطأٌ أو أنّ الإسلام فيه عيبٌ، ولكنْ بما يرون من تقصير من حَولهم، فكيف إذا رأوا من حولهم ينخرون في العقائد ، ويفتون في الثوابت والمسلمات ؟! كيف إذا رأوا نكوصًا عن الدّين جملةً وتفصيلا؟!
إخوتي في الله : في أصل الدّين والإيمان لا يمكن أن يتخلى عن الدّين امرؤٌ لشبهةٍ تتردّد عنده في الأصل كما قال أبو سفيان في جوابه على أسئلة هرقل، قال له: هل يدخل أحدٌ دينه ثمّ يخرج منه سُخطةً له؟ قال: لا، فقال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يخرج منها.
ولكن عندما صارت الشّبهات تُشاع وصارت الأمراض تفشو في عقائد النّاس صار بعضهم يتخلى عن مسلماته وعقيدته لشبهة، وإلاّ فلم يكن ذلك في الأصل واردًا؛ لأنّ النّاس كانوا يؤمنون إيمانًا خالصًا، وكانت عقائدهم صافية، إذًا ما دامت الأمراض عارضة فلا بدّ إذًا من أن نعالجها علاجًا حكيمًا، ولا بد من التفريق بين من لابسته شبهة لا يدري أين الحق والباطل فيها وبين من أراد تخريب الإسلام وأراد إفساد عقائد المؤمنين ، تحت مسميات شتى ، فالأول تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ويناصح بالتي هي أحسن لأنه يريد أن يصل إلى الحق من خلال مغالطاته وليس صاحب هوى وأما الآخر فإنه يعرف الحق كما يعرف الباطل ولكنه يرمي لإغواء الناس وتلبيس دينهم عليهم ، وإثارة الشبه ، فإن جودل في الأمر وعاد أو نفى ما علم الناس منه ، فإنه لا سبيل عليه ، ولك مثالا في المنافقين ، ولا نرمي إن شاء الله أحدا بذلك ، فنحسب أننا إن شاء الله إخوة نسعى للحق والصواب ، أقول ، ها هم المنافقون الّذين عاصروا النّبيّ ، لطالما ارتدّوا عن الإسلام، فلمّا قُرِّرُوا بردّتهم نكصوا وأنكروا، فلم يقتلوا بردّة لأنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أخذ بالظّاهر، ها هو ذا رأس النّفاق عبد الله بن أبيّ بن سلول يسبّ النّبي صلى الله عليه وسلم ويذمّه، كانوا راجعين من غزوة بني المصطلق عندما اختصم رجلٌ خزرجيٌّ مع أجيرٍ لعمر بن الخطّاب، والخزرجيّ من أهل المدينة ومن قبيلة عبد الله بن أبيّ لعنه الله، وأجير عمر من أهل مكّة من المهاجرين، فلمّا وصل الخبر لعبد الله بن أبيٍّ قال: أوَيناهم في ديارنا ثمّ يقاتلوننا، ما مثلهم ومثلنا إلاّ كقول من قال: سمّن ***ك يأكلك ـ يقول ذلك عن المهاجرين ـ، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأزل - لعنة الله عليه، يقصد بالأعزّ نفسه، ويقصد بالأذلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصل الخبر إلى المصطفى عليه الصّلاة والسّلام فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ: ((أأنت قلتها يا ابن أبيّ؟)) قال: لا، قال: ((فانصرف)). لقد أقرّ الوحي ذلك الخبر، وثبت بالدّليل القاطع الّذي لا شبهة عليه فقال تعالى: ( يَقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)[المنافقون:8]، ومع هذا لم يقتل رسول الله ابن أبيٍّ لأنّه لم يعترف ولم يصرّح بما قال. جاء عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، مرني أضرب عنقه، قال: ((لا يا عمر، لا أقتله حتى لا يقول النّاس: إنّ محمّدًا يقتل أصحابه)). صلّى الله عليك وسلم يا رسول الله، ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين ) [الأنبياء:107]، ((لا أقتله حتّى لا يقول النّاس: إنّ محمّدًا يقتل أصحابه)). منافقٌ يسبّه ومع ذلك لا يقتله كما يُقتَل المرتدّون، يأتي عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول رضوان الله عليه ولعنة الله على أبيه، يقول: يا رسول الله، إنّه ليس أحدٌ أبرّ بأبيه منّي بأبي، وإنّي سمعت ما قال أبي، وإنّي أخشى أن تأمر واحدًا من المسلمين بقتله فلا أتحمّل ولا أطيق أن أرى قاتل أبي أمامي فأقتله ـ لبرّي بأبي أقتل قاتل أبي ـ فأكون قد قتلت مسلمًا بكافر ـ وهو يعترف أنّ أباه كافر، ولكنّه يخشى من حميّة البنوّة ـ، فيا رسول الله إن أردت أن تقتل أبي فمرني أقتله بنفسي، حتّى لا أتعرض لقتل رجلٍ قتل أبي بل أقتله أنا، فيقول عليه الصّلاة والسّلام: ((لا، ولكنْ نحسن إليه ما دام بيننا)). صلّى الله عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين ). يمضي عبد الله بن عبد الله رضوان الله عليه إلى أبيه لعنة الله عليه، فيقول له بعد أن أمسك به وهمّ بقتله همّ بضربه، قال له: والله، لا أدعك حتّى تقول: إنّك أنت الذّليل ورسول الله هو العزيز، حتّى إذا اعترف أبوه بذلك تركه، اعترف بأنّه هو الأذلّ ورسول الله هو الأعزّ. وتمضي أيّامٌ ، ويموت عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النّفاق، فيأتي ابنه إلى رسول الله ويطلب منه رداءه ليكفّن به أباه، فيعطيه رداءه، ويقول له: ((إن فرغتم منه فأعلموني))، إذا فرغتم منه فأعلموني، يقول عمر: يا رسول الله، تكفّنه ببردتك وقد نافق! فيقول: ((وما ينفعه بردي إن لم ينفعه عمله؟!))، يعلمون رسول الله بأنّهم فرغوا من تجهيزه، من تغسيله وتكفينه، فيأتي النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ليصلّي عليه وهو الذّي ذمّه، وهو الذّي سبّه، وهو الّذي اتّهم زوجته بالفاحشة، وهو الّذي قال عنه ما قال، وهو الّذي أيّد اليهود عليه، وحاربه وحارب أصحابه، وهو الّذي قال: ( آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ، فيقف عمر بن الخطّاب بينه وبينه يقول: يا رسول الله، أتصلّي عليه وقد نافق؟! يقول: ((دعني يا عمر))، يقول: يا رسول الله، أتصلّي عليه وقد نافق؟! يقول: ((دعني يا عمر، فإنّ الله قال لي: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التّوبة:80]، فوالله لو علمت أنّني لو استغفرت له واحدةً وسبعين مرّةً لغفر الله له لاستغفرت له)). وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين، لو علم أنّه لو استغفر واحدةً وسبعين مرّةً لغفر الله لابن أُبَيّ لاستغفر له واحدةً وسبعين مرّة، ويصلّي عليه، عندها أنزل الله تعالى تأييدًا لعمر بن الخطّاب: ( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ) [التّوبة:84]. ارتدّ فلم تُقَم عليه عقوبة الرّدّة لأنّه لم يصرّح بِرِدَّتِه، بل كان يُظهر حبّه للنّبيّ، فعامله النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بالظّاهر مع يقينه من الباطن.
ديننا هو دين الحرّيّة، وهو دين المنطق، وهو دين الرّأي، الرّأي الّذي ينضبط لا الرّأي الّذي ينعتق من الضّوابط ، ديننا هو دين الحرّيّة، تلك الحرّيّة، وذلك التّحرّر الّذي هو وسطٌ بين التّحجّر والإنحلال ، فليس دينًا إرهابيًّا ثيوقراطيًّا، وليس دينًا متحلّلاً متسيّبًا، بل إنّه دينٌ وسطٌ بين هذا وذاك، وإنّما الكمال يكون في الوسط، و((خير الأمور أوسطها)) أخرجه البيهقي عن مطرف رضي الله عنه وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي قلابة.
فحرية الرأي ، وحرية الفكر ، بهذا المعنى المطاطي ، غير المقيد بقيد الشريعة ، غير المنضبط بضوابط العقيدة ، إنما هومسخ في الفكر ، وعته في الفطرة ، وخلل في السلوك ، وتشوه في المنطق ، ووالله ما أتيت بهذا الموضوع ، رغبة في المشاحنة ، ولا المداهنة ، ولا المنابذه ، إنما هي نصيحة لكل من قرأها خالصة لوجه الله ، والتماسا لرضى الله ، وخوفا من سخط الله ، وتبيينا للحق الذي أمر الله ببيانه ، وحذر من كتمانه ، خوفا على كل من قرأها ، وشفقة عليه ، وحبا له ، وليس ذلك من باب الدّفاع عن الإسلام لأنّ الإسلام حقٌّ بذاته لا يحتاج إلى من يدافع عنه، إنّما ذلك تشريفٌ لنا بأنْ نصير مظهرين للإسلام على حقيقته، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأستغفر الله لي ولكم جميعا من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
المفضلات