(تسلل من بين الجموع مهنئا على أدائي المسرحي،شد على يدي بحرارة)
:إيه الحلاوة دي،واد سنجري صحيح
( شكرته بينما دارت بعيني علامات الاستفهام البلهاء تبحث جاهدة في الذاكرة عن اسم صاحب هذا الوجه القمحي ،ارتدت أبواب الذكرى في وجهي منغلقة دون حراك ،فابتسمت ابتسامة بلهاء)
عاجلني بذكاء
:مش عارفني؟
(أكاد أجزم بأن هذا الوجه وجهي ولكن لم أر في حياتي كلها وجها يشبهني بهذا الشكل حتى أخي حازم ، ولذلك رفعت يدي مستسلما) :الصراحة مش قادر أجمع
:أخوك أيمن سنجر
( تعانقنا نطفئ حرارة فراق سنين طويلة ،بالرغم أن كل ما يربطنا هو تشابه في الاسم إلا أننا لدينا جميعا اعتقاد أننا جميعا أبناء عمومة فرقتهم دروب الحياة ، تعاتبنا على فراق لا ذنب لنا فيه ،تعاهدنا على ترقيع ما تبقى من شتات عائلتنا ووضع خطة لإتمام هذه المهمة الصعبة)
جلسنا نتجاذب أطراف الحديث
أفقنا على عامل المسرح يسألنا مستنكرا
: أجيب لكم بطانيتين ؟
( أفقنا ويا غرابة المشهد ) فعلا لا يوجد غيرنا ،مئات المشاهدين و الممثلين و المهنئين حتى الأصدقاء رحلوا في صمت ،سألنا العامل الحانق : وديت الناس فين ياعم؟
انفجر صارخا
: بلعتهم ،يالا يا خويا انت وهو هوينا
:ماشي ياعم المفترس
خرجنا نلحق بالفلول لعل منهم من ينتظرنا بالخارج
لم نجد إلا الصمت الذي أسدل ستائره على شوارع المدينة الغارقة في حزنها الأبدي، أبحرنا سويا إلى المجهول بدأنا رحلتنا بالمسرح ثم انعطفنا إلى الأدب ، حتى رسونا إلى ضفاف الشعر العربي
: بتحب شعر مين
: الصراحة ، المتنبي - إليا أبو ماضي - إبراهيم ناجي – نزار- مصطفى الضمراني – الأبنودي- نجم – فاروق جويدة، ده بقى غير أصدقائي ، ناصر الجيلاني ، عماد أغا ، فداء الشندويلي ، أسامة شريف ، صلاح أبو حطب
: ما قرأتش لصديقي أمل دنقل ؟
: مين أمل دي شاعرة برضة ؟
نظر لي نظرة استنكارية عجيبة ، عاقبني على جهلي بأمل ...بتجاهل الرد
و فجأة ..........قفز سابحا في روافد أمل دنقل
أخرج عملة من جيبه.......
ورفعها في الهواء ثم التقطها في خفة... وقال
:ملك أم كتابة؟
صاح بي صاحبي ،وهو يلقي بدرهمه في الهواء
ثم يلقفه ..
( خارجين من الدرس كنا ..
وحبر الطفولة فوق الرداء والعصافير تمرق عبر البيوت،
وتهبط فوق النخيل البعيد)
من يملك العملة يمسك بالوجهين
و الفقراء بين بين
( فتح كفه ،هوى كفي عليه في حرارة )
:الله الله الله ............
صاحبك ده بجد ؟ طب قول و الله
( تجاهلني وقفز ثانية يغوص و لكنه جذبني من يدي فهويت أغوص معه)
:لا تسكتي ..
فقد سكت سنة فسنة..
لكي أنال فضلة الأمان
قيل لي ( اخرس)
فخرست .. وعميت..
و ائتممت بالخصيان
ظللت في عبيد (عبس) أحرس القطعان
أجتز صوفها .. أرد نوقها .. أنام في حظائر النسيان ..
طعامي:الكسرة..و الماء..وبعض التمرات اليابسة
و ها أنا في ساعة الطعان
ساعة تخاذل الكماة..و الرماة... و الفرسان
دعيت للميدان
( و انزوى بي بين يدي زرقاء اليمامة ،
وكان الشاهد الوحيد على مقتل القمر ،
و روى لي ما حدث في مخيم الوحدات ،
قال لي : أن الطوابير التي تمر ..في استعراض عيد الفطر و الجلاء
( فتهتف النساء في النوافذ انبهارا)
لا تصنع انتصارا ،
إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحاري ،
لا تطلق النيران ..إلا حين تستدير للوراء)
تحشرج صوته فجأة
كاد أن يختنق
نظرت إليه ، فإذا بالدموع تترقرق في عينيه
حاول أن يكمل ما بدأناه لكن الكلمات اختنقت في صدره
حاول جاهدا أن يكمل حديثه عن صديقه أمل ،
خرجت الكلمات باكية
: و سلال من الورد ، ألمحها بين إغفاءة و إفاقة
تتنفس مثلي ـ بالكاد ـ ثانية ..ثانية
وعلى صدرها حملت ـ راضية..
اسم قاتلها في بطاقة
( ارتجف حزنا ،
ضممته إلى صدري أربت على ظهره ،
فانطلق في نحيبه )
:مات يا محمد يا سنجر مات
( صرخ بأعلى صوته )
: أمل دنقل مات يا محمد يا سنجر
( ارتج صدره منتحبا ،
حاولت السيطرة عليه ،
انفلت من بين يدي ،
صرخ بأعلى صوته
: أمل دنقل مات يا هوه
أمل مات يا عالم
( ارتجت البيوت من حولنا حزينة
لكنها أجابتنا بالصمت الحذر
بدأت الأنوار تتسلل إلينا من بين ثنايا النوافذ
بدأت بعض النوافذ تنفض مستطلعة )
: ساكتين ليه يا بشر ؟
خايفين ؟
خايفين من إيه جاتكم خيبة
بأقولكم دنقل مات ،
خايفين حتى تحزنوا عليه
حرموا عليكم حتى البكا ؟ ؟ ؟
( حاولت جاهدا تهدئته )
:أيمن ، مش كده يا أيمن الناس ها يطلبوا لنا الشرطة
ياله عشان خاطري
: ما أنت جبان زيهم ، كلكم جبنا ، كلكم
( انطلق كالمجنون يركض و انطلقت خلفه خوفا مما يمكن أن تسببه ثورته العارمة ، خاصة و أن الساعة قاربت على الثانية بعد منتصف الليل ، اختفى عن نظري للحظات حتى بلغ بي التعب مداه ، بعدها وجدته جالسا على أحد المقاعد الخشبية )
: البقاء لله يا عم هو مين فينا ها يعيش ؟
استهدا بالله بس و قوم بينا
أكملنا سويا طريقنا صامتين حتى وصلنا إلى شقته في بولاق الدكرور
استأذنته في الرحيل فالساعة قاربت على الثالثة بعد منتصف الليل
تمسك بالصعود إلى شقته المتواضعة في إحدى الحارات الحزينة
حاول أغرائي بإفشاء سر البطة و الحمام والفطير اللي لسه جاي من البلد
:لازم تيجي تستقبلهم معايا
( لا أخفي عليكم كان الجوع قد سيطر على معدتي و لذلك لم أتردد في تناول هذه الوليمة المغرية )
وبعد تناول الشاي عزمت على الرحيل إلا أنه أصر على مرافقتي إلى غرفتي في إمبابة
: أمل الله يرحمه كان صديق و الا زميل ؟
: زميل إيه يا حاج ؟ هو ممكن تقول كده إنه صديقي بالرغم من إني عمري ما شفته ولا هو يعرفني
: عروستي
: ياد ده صديقي من قراءتي لشعره فقط
: يا سلام ؟ للدرجة دي ؟
: و أكتر ، أحكيلك
(وبدأ في حكايته مع أمل كيف ومتى تعرف به و إلى أي مدى توطدت علاقته به ، حتى وصلنا إلى إمبابة
: سلام لازم تحضر المسرحية
: إنت ها تمشي من غير ما تعرف الغرفة بتاعتي ؟
وبعدين لازم كوباية شاي عالماشي و بعدين ما فيش كلية ، بكرة الجمعة
: ماشي يا ريس ما فيش مانع ، أنا عارف ها نقعد نوصل بعض للصبح
( صعدنا إلى غرفتي جلسنا نكمل حديثنا عن صديقنا أمل دنقل)
:لا تصالح ...
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك ،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما...
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى
لا تصالح على الدم ...حتى بدم
لا تصالح و لو قيل رأس برأس
أكل الرؤوس سواء؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟
أعيناه عينا أخيك؟
وهل تتساوى يد...سيفها كان لك
بيد سيفها أثكلك؟
(ارتشفنا قصائده و الشاي معا لم نحس كم مر من الزمن )
: الشمس طلعت يا حاج، بص بقى مش ها ينفع تروح دلوقتي ،إنت تنام هنا و نصلي الجمعة و نتغدى سوا
: لا ما ينفعش ، أنا لازم أروح أكيد الجماعة ها يوصلوا النهاردة من البلد
:خلاص يبقى لازم أوصلك
: تاني ؟ لأ كفاية كده إحنا طول الليل ماشيين إرتاح إنت و أنا هاروح لوحدي
: مش ممكن زي ما وصلتني لازم أوصلك
( فعلا إنطلقنا في طريق العودة ولكن في منتصف الطريق وقف )
:بس لغاية كده و خلاص
:يعني إيه ؟
:يعني أنا هاروح من هنا وانت ترجع من هنا ، دي قسمة الحق
: ماشي خلاص و أنا رضيت بقسمة الحق
( تعانقنا ،سلمنا بحرارة اللقاء و الوداع )
قلت و دموع الشك تترقرق في عيني
: إيه هو احنا مش ها نشوف بعض تاني و الا إيه ؟
: مين عالم ؟
( تباعدت يدانا عدنا رويدا رويدا بأرجلنا للخلف ننظر إلى بعضنا البعض ، نتحسس الطريق ،حتى اختفينا )
تسلل إلى قلبي صوت نجاة الصغيرة ( و في وسط الطريق و وقفنا سلمنا و ودعنا يا قلبي و رجعنا الطريق وحدينا و دموعنا في عينينا يا قلبي )
لم أفهم لماذا أرسل القدر لي هذه الرسالة إلا بعد أيام عندما جاءني خبر وفاة أخي أيمن سنجر إثر حادث أليم ،
لم أقو على الحركة ، عندها دارت بي الدنيا ،
و جدت يدي بتلقائية عجيبة تمتد لتتناول ديوان أمل دنقل ،
بدأت عيناي تفتشان فيه عن أخي الذي لم تلده أمي أيمن سنجر ،
نعم أخي رغم أن علاقتنا لم تدم سوى ليلة واحدة ، ولكنها بالنسبة لي عمرا بأكمله
عندها وجدت صديقي أمل دنقل يخرج علي من بين الصفحات
يربت على قلبي الحزين يواسيني
:كان يسكن قلبي و أسكن غرفته
نتقاسم نصف السرير ،
و نصف الرغيف ،
ونصف اللفافة، و الكتب المستعارة
وركضت مسرعا لا أدري أين أذهب
حتى وجدتني أسير في نفس الطريق الذي شهد صداقتنا
و وجدتني أرتج منتحبا أصرخ : أيمن سنجر مات يا عالم يا هوه
أيمن سنجر مات يا أمل يا دنقل
إنت سامعني
أيمن مات يا أمل
أيمن مات يا عالم
أ ي م ن س ن ج ر مااااااات يا هـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــوه
المفضلات