[align=center]
طائرتي الورقية
بقلم : عبدالله بن دهيم
****[/align]
في ذاكرة كل ٍ منا ومخيلته أحداث وملمات .. يسعد تجاوباً مع بعضها .. ويضحك مع الآخر .. ويحزنه ويؤلمه ثالث .. وينتشي مع حدث .. أو ....
في اليوم والليلة وفي تعاقب الأيام ; نمر بسير وتتابعات نعيشها اليوم لنحكيها غداً ، فنأخذ منها عبرة ، ونخوض بها تجربة ، فنخرج منها بخبرة تفيدنا وتفيد من يأتي بعدنا.
خرجت في أحد الأيام إلى الفضاء الخارجي مصطحباً طائرتي الورقية التي سعدت كثيراً وكدت أطير فرحاً لمّا حصلت عليها ..
كانت هبةً من الخالق عز وجل أكرمني ورزقني بها ، خرجت بها لأجعلها تطير فاستمتع بطيرانها ..
إلا أن ذلك اليوم لم تكن به رياحٌ تحركها !!
فما العمل ؟؟
وكيف تطير طائرتي الحبيبة ؟!!!
هداني الله بعدها بأن فكرت في الصعود إلى منطقة عالية والجري عبر المنحدر لجعل طائرتي تفارق الأرض وتحلق نحو السماء ..
جريت نزولاً والطائرة تأبى الارتفاع عن الأرض وكان شيئاً ينشدها للبقاء هناك ..
واصلت الجري حتى بدأت ترتفع ومع كل ارتفاع لها يرتفع قلبي فرحاً وزهواً بها وبما أنجزته معها ..
إنها لحظات لا توصف !!
متعة لا يعرفها إلا من يعيشها ..
يا الله كم أنت كريم وكم أنت رحيم وكم أنت قادر على كل شئ ..
استمرت طائرتي في التحليق ..
وشعوري يتنامى ويزيد ..
ولكن .. تغير الوضع فجأة !!
ما الذي يحصل الآن !!!!
طائرتي الحبيبة .. إنها تتجه نحو الخطر !!
طائرتي العزيزة .. تعالي إلىّ.. عودي .. إنها لا تجيب !!
إنها على وشك الاصطدام بأسلاك الكهرباء ذات التيار العالي ..
أشدّها لأبعدها عنها ، فأراها تتجه نحو الأشجار الكبيرة الشائكة ..
رباه !! ماذا أفعل؟؟
إنها طائرتي التي أحبها وطالما انتظرتها ..
إنها طائرتي التي تعبت كثيراً حتى وفقني الله لأن أجعلها تعلو نحو السماء ..
أحسست وقتها بعجزي وعدم قدرتي .. فرفعت إلى خالق السماء أكف دعائي ..
وناشدته من كرمه ولطفه ..
فعلت ذلك ليقني التام ، أنه حين تشتد اللحظات ، وحين يحاصرك الخوف والهم ، فلا مخرج لك منه إلا بالقرب من ربك ، بالهرب منه إليه تبارك وتعالى ..
وبينما أنا في ظل محاولاتي وصلاتي ..
وإذا بذاك النسيم .. الذي يأتي من بعيد ليأخذ بطائرتي ويبعدها عن الخطر الذي كان يهددها .. ويهددني ..
حينها وقعت ساجداً لله حمداً وشكراً وعرفاناً وامتناناً وخضوعاً له سبحانه .. فما أكرمه وأعدله وأرحمه
واصلت بعد ذلك طائرتي التحليق عالياً.. عالياً ..
وأنا أمسك بالخيط جيداً ثم أرخيه .. أتابع تقدمها وأحاول أن أقنن مسارها للمحافظة عليها ..
يداي تداعبان الخيط وقلبي يحلق معها أينما توجهت ..
أمسك بالخيط فأشده ، ثم أرخيه ، لأعطيها مجالاً أوسع للتحليق والارتفاع ..
بدأت طائرتي تشدني لسرعتها في الارتفاع واندفاعها نحو العلا .. وأصبحت عملية التحكم في مسارها وتحليقها تتطلب مجهوداً أكبر ..
صبراً أكثر ..
وتحدث ألماً أكبر .. وأكبر ..
فأصبحت عملية الإمساك بالخيط والمحافظة على مسار تحليق الطائرة أمراً صعباً ومرهقاً للغاية ولكنه في نفس الوقت ممتع للغاية أيضاً ..
ومرت اللحظات وطائرتي الحبيبة تعلو .. ثم تعلو .. ثم تعلو ..حتى وصلت لآخر مدى الخيط الذي أمسكه ..
ومرة أخرى أجدني أتساءل في حيرة :
" ما الذي يمكنني أن أفعله الآن يا ترى !!؟
طائرتي الحبيبة تنشدني مزيداً من الحرية ..
مزيداً من الارتفاع مزيداً من الانطلاق ..
تطالبني بأن أطلِـقها .. ولكن .. حبي لها يدفعني للتعلق والإمساك بها أكثر !!
فماذا أفعل !!!!
رفعت جسدي حتى وقفت على أطراف أصابعي .. ورفعت يداي إلى أقصى ما تصلان إليه ..
بالكاد أمسك بالخيط بأصبعين من أصابع يدي ، وطائرتي لا تزال تعبر عن رغبتها في الحرية بالارتفاع .. ثم الارتفاع ..
الخيط بدأ ينزلق من بين أصابعي ..
هاهي الآن تنطلق بجمال وسلاسة ساحرين .. تنطلق بأناقة وخفة عالياً في الأفق ..
وأنا أقف هنا ويداي لا تزالان مرفوعتان وكأنني أنتظرها أن تعود إلي لأمسك بها .. ولكنها لم تعد !!
وقفت طويلاً أتأملها ..
ووقفت إلى جانبي رفيقة عمري التي كانت معي في رحلة الطيران هذه والتي كانت تمسك الخيط معي وتدلني وتساهم معي في صنع وتعديل مسار طائرتنا الورقية..
وقفنا .. ينظر كلاًنا للآخر .. ثم نرفع أنظارنا لنستمتع برؤية تلك النجمة المضيئة في الأفق ..
تلك النقطة المحلقة بزهو وثقة وفخر واعتزاز ، تختلط وتتقلب وتتلون المشاعر بدواخلنا ونحن ننظر إليها ..
فهي مزيج بين أسى وألم وفرح وفخر واعتزاز وقبل كل شي حمد وامتنان للولي القادر الكريم..
إنها ساعة آتية لابد منها .
فنظرت إلى رفيقة دربي وهي تقول: "ها نحن قد أنهينا الرحلة وأنجزنا عملنا على أكمل وجه بحمد الله ونسأله البركة والقبول" .
فأجبتها : " نعم .. لقد كانت رحلة ممتعة بكل ما فيها وما أسرع السنوات ، طفلنا الصغير قد كبر الآن وشق طريقه في الحياة ..
إنه أمر واقع مهما تجاهلناه .. فلندعو له بالبركة والتوفيق
ولنبدأ من اليوم مرحلة جديدة معه ..
علاقةً جديدة معه ، نساعده فيها بأن نجعله يحتفظ بكيانه وقراره واستقلاليته ..
ذاك الطفل الذي ملأ البيت بكل أنواع المشاعر والنشاط والحركة ; أصبح اليوم صديقاً يأتي إلى هذا البيت زائراً ما يلبث أن يرحل إلى عشه هو الذي بحول الله وتوفيقه يبنيه كما فعلنا نحن قبله..
نظرت إلي حينها نظرات فيها الكثير من الرسائل التي لا تنقلها الكلمات ..
فابتسمت ثم قالت:
" لقد أحسنـّا صنعاً بأن أطلقنا لطائرتنا العنان في الوقت المناسب قبل أن تقوى وتشد فينقطع الخيط ثم تنطلق سريعاً نحو المجهول ..
لقد قمنا بعمل متقن ، وقرار الإطلاق كان موفقاً ومتقناً أيضاً، أليس كذلك ؟؟ "
" بلى هو كذلك "
أجبتها وأنا لا زلت أنظر إلى عينيها الساحرتين .. ففيهما أجد أمني ووطني.
المفضلات