ظلّ بدو العراق منسيين على مرّ الزمان، لقد اكتفوا من حياتهم القاسية بالشمس اللاهبة، والصحراء المحرقة، ولم يحفل التأريخ بهم، وكأنهم من أوراقه العتيقة، الممزقة المبعثرة.
البداية :
تبرع صديقي الصحفي خالد حماد حميدي الجربا و شاعر البادية مشعل العنزي وتعرفت عليه يسكن بغداد، له صلات بالبدو، على اختلاف قبائلهم، وعدني أن يأخذني إليهم، ووفى بوعده ، وهناك كانت المفاجأة الكبيرة لي، النقاء على حقيقته، والبساطة التي لم تلوثها الحضارة وأرسل لي المقال مشكورا لأدرجه بمضايف شمر قبل الصحف العراقية وواجه صعوبه كبيرة بأيصاله بالأيميل نظرا لصعوبة الأتصالات والحمد لله الحين بين أيديكم هذا الجهد المشكورين له
كانوا طيبين إلى أبعد الحدود، كرماء بلا وصف، مع صفاء في الذهن يكاد يكون خارقاً، مع الصلابة والشجاعة اللتين يعرفون بهما.
المنطقة:
تقع الحدّ في منطقة فاصلة بين العراق، والمملكة العربية السعودية ، قاسية الملامح، حارة إلى أبعد الحدود، رمالها الذهبية أنشودة الشعراء، الماء يكاد يكون معدوماً، وهم يعتمدون على أمرين في التعايش مع نقصه، هما : نبات العاقول، وما يشبهه من النباتات، كالصبار، مما يستطيع خزن الماء في أجزائه، وخبرة البدو المتوارثة في معرفة أماكن المياه الجوفية وأيضا هناك بالمقابل بادية الجزيرة التي سوف نقوم بجولة لها المرة القادمة .
السمات :
البدوي أسمر اللون، حالك سواد الشعر، أقنى الأنف في الغالب، يميل إلى الطول، صلب البنية، قوي العضلات، يحب الفروسية إلى حد الجنون، له علاقة خيالية مع الجواد، شجاع بتهور، ما زال يملك من موروث أجداده الكثير عن الكرم، والقهوة، والسخاء الأصيل شيئاً يصل إلى مستوى ميثولوجي.
البدوية جميلة الملامح تذكرنا بقول أبي الطيب المتنبي :
حُسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حُسن غير مجلوب
وهي مهابة في قبائل، ويتذاكرون في مجالسهم (زهوة العجد) ، ابنة أحد شيوخ الصوادح، عرفت ببأسها، وحيلتها، وذكائها، بما مكّنها من تزعم مكانة قبلية مرموقة في قبيلتها، إبان زمن العثمانيين.
هذا الأمر لا ينطبق على قبائل أخرى، إذ الرجولة مقياس الفوز في صراع عنيف مع الحياة القاسية.
الجوانب الاجتماعية :
ما زال البدو يتمسكون بالعادات، والتقاليد الموروثة عن الأجداد، فهم عظاميون، لا تخلو مجالسهم من ذكر مفاخر آبائهم.
السلطة بيد الشيخ، وله بطانة من كبار السنّ، يستشارون في الملمات، والطبقية تظهر في حد يفرق بين الأغنياء، وهم في الغالب الشيوخ، والفقراء الذين يعملون خدماً لديهم، مع احتفاظ الشيخ بثروة لا تقدر بثمن، وهي مهابة، واحترام الجميع له.
الثأر من الموروث الذي لا يمكن التنازل عنه بأيّ حال من الأحوال، وكذا حفظ الذمار، وإقراء الضيف.
الزواج تقليدي جداً، والنهوة موجودة، وهو حقّ لابن العم في ابنة عمه، في الزواج، أو التسريح بإحسان، وهو أمر نادر يكاد ينعدم، فهو أحق بها من غيره.
المجتمع أبوي على كل حال.
الخيمة تمثل البيت، والوطن، والعلاقة جدلية بينها، وبين الصحراء، بين الموت والحياة، وكانت من شعر الماعز قديماً، ثم من الأقمشة الملونة المزينة حديثاً.
الطعام في الغالب التمر واللبن، وهم لا يأكلون اللحم إلا قليلا، ويبذلونه للضيوف في كرم زائد، وجلّ حيواناتهم الإبل، والماعز، والخيل، ولا يفرطون بالخيل أبداً.
يستقيظ البدوي مبكراً، ولا يأكل إلا القليل من التمر، ليرعى بعض مواشيه التي يملكها من الكلأ الذي ينمو تلقائياً، واللبن نجدته في القيظ.
ثقافة البدوي :
ثقافة البدوي عملية، تخص الإبل ورعايتها، وأوصافها، وهم بارعون في مداواتها، وربما كان ذلك بسبب الحاجة الماسّة، والصراع من أجل البقاء، والاحتفاظ بمصدر رزقهم وتنقلهم.
الميثولوجيا لها أثرها الفعّال في التكوين الثقافي للبدوي، فحديث لقاء الجنّ، والصراع مع الأبالسة، والعفاريت شغلهم الشاغل في ليالي السمر.
وهي ميثولوجيا يمكن وصفها بالديالكتيك الحتمي، في صراع مستمر مع المجهول، وهو الموت بمختلف صوره.
ربما تتحد القهوة والنار ليكونا ثيمة حضارية مميزة تعرفنا بالبدوي، فلا بدوي بلا نار، وقهوة، فهي سمره، الذي يمتزج بالروح.
لغة البدو العربية، لكنها تحمل سمات خاصة بهم، كالإمالة، والتفخيم لبعض الحروف، وهي بحاجة للدراسة.
من أشعار البدو :
والشاعر مهاب الجانب لدى البدو، وهو لا ينشد عند العوام غالباً، وهو ينشد الشعر مترافقاً مع صوت الربابة الشديّ، ليكونا ترنيمة خصبة بالخيال الساحر، والتفنن الصافي.
ومن أشعارهم، قول صارف بن حمود الشدهان :
يحاديهم ضعن رجبك مداهي.
تبلّغ هين زادك من مداهي.
أظن رجعت مداهم من مداهي.
كطع بيهن عالي الرجاب.
ويعرف هذا الفن من الشعر بالعتاب، ولا أكاد أتعرف على أغراض الشاعر، ومقاصده، لولا أن شرحه لي الشيخ زاهر الفوّاد، وهو شاعر أيضاً، ومعنى الأبيات : يصف حادي ضعن حبيبته، وهو يبتعد سريعاً عن أطناب بيوت الشاعر، مما آلمه كثيراً، ليتمنى الموت من بعدهم.
وقول زاهر الفوّاد :
يا صاح روّح كيضك بهاد تظن بيهة الحشارج بالسداهي
مثل ذيب الليالي اليغمض الراد وعيون الفزع تجفل مداهي
يصف الحذر من دواهي الزمان، كما ينام الذئب بعين واحدة، والحشارج الأنفاس المتقطعة، والسداهي الأضلاع في لغتهم، والراد عين الذئب، والمداهي الفزع، والخوف، ولعلها من الداهية.
ومن أشهر قصائدهم الموروثة، قصيدة زيّاد المكيصير :
بعلوم الشواجخ عالي الجوم وعروض العواضل ما تناهه.
شايعته بدواخل ذاري الحوم أظن بيهه العصايب من رداهه.
سجر غايض عضاهيهن من هموم لجل سرحان تايه بالبداهه.
يظن سرب الكطا المرجاح عيدوم مثل ضاوي الحشا الخناب زاهه.
تزمزم بالذرايح زيّادهن زوم كطل خايب رجاويهن سداهه.
حندوك الحنادك لابد اليوم بصفاح المنابت عن عداهه
مضت بيه الليالي سجاح حرزوم طاحت من مواضيهن خباهه.
ريّضهن على الشرتاه مضروم يكشر عن نياباته بعجاهه.
والقصيدة طويلة جداً، وهي ذات ألفاظ وعرة صعبة، لا تكاد تفهم، تتحدث عن حياته، وتجاربه، وألطف ما فيها تشبيهه نفسه بالجمل المسنّ الذي حمل الأثقال طويلاً، زادت الحياة خبرته، وقد عركته الأيام، ومعاني المفردات فيها : الشواجخ، المراعي التي أقفرت، والجوم، الخصب، والعواضل نوع من الشوك تأكله الإبل، وذاري الحوم، العشق، العصايب الأيام الصعبة، والسرحان الذئب، الكطا المرجاح، سرب القطا المسرع، والعيدوم صغار الطيور، وضاوي يريد به الذئب الجائع، والخناب الجوع الممض، ويصف الشاعر نفسه في البيت الخامس بالجمل المسنّ اللاهث وراء سراب، والحندوك على رأي الشاعر إياد السرحان، هو الأرنب، وخالفه الشاعر حيدر الأنباري، وقال لي : أنه يصف البلعوم، وأظن أن هناك قطعاً في القصيدة، فلا مناسبة لهذا البيت مع بقية الأبيات، وسجاح حرزوم، أي ليالي متقلبة في الخير والشر، ومعنى البيت الأخير أنه تهيأ لقدره وقسوته.
من أقوال البدو المأثورة :
للبدو أثار بلاغية رائعة تفوح الحكمة منها، من ذلك :
1) الربيح يجدّ الربيع.
يضرب مثلا للمبكر في اغتنام الفرصة، وعدم إهمالها، خصوصاً أن الربيع في كلامهم لا يعني الفصل المعروف، وإنما الكلأ الوفير.
2) رمض، يهيه، ونار.
وهو يذكرنا بقول الشاعر :
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وكلمة (يهيه) ، تعني : يا هذا. والرمض شدة الحر.
3) بكرتي، أخْيَر من كافلة.
وهو قريب من قولنا : عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة، والبكرة الناقلة، والكافلة بالجيم المثقلة، القافلة. وتلفظ (أ خْ – الخاء ساكنة – يَ – الياء مفتوحة – ر) .
4) ريح مِهْول ريحك.
والمهول داعي الحرب، وهم يتشاءمون به، ويضرب المثل للتشاؤم من المقدم على الشر. وتقرأ في لهجتهم : (م مكسورة هـ ساكنة واو ممالة ل) .
5) العشب يزهي، والذيب يعوي.
يضرب مثلا لمن يؤخذ بظواهر الأمور الحسنة، وباطنها شر كله، فينخدع بها. كالذئب الذي يتربص الفرائس عن ختل، وخداع.
ويغلب على كلام شيوخهم ما يعرف عند العوام بالحسجة، ويعرف عندهم بالملْحنة، ويراد به التلغيز.
المفضلات