الوسائل التعليمية عند الرسول صلى الله عليه وسلم
التوضيح العملي لمناسك الحج:
عندما عزم رسول الله على الحج أعلن ذلك في الناس، ليأتي من استطاع منهم للحج معه، ليأخذوا مناسك الحج عنه عن طريق القدوة العملية.
وفي ذلك أخـرج الإمـام مسلم (عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله مكث تسع سنين لم يحج. ثم أذن في الناس في العاشرة، أن رسول الله حاج. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ، ويعمل مثل عمله ).
قال النووي: (قوله: ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج، معناه: أعلمهم بذلك وأشاعه بينهم ليتأهبوا للحج معه، ويتعلموا المناسك والأحكام، ويشهدوا أقواله وأفعاله، ويوصيهم ليبلغ الشـاهد الغائب، وتشيع دعوة الإسلام، وتبلغ الرسالة القريب والبعيد ) (1 ). وبالفعل حج عدد كبير من الناس. وأمرهم رسول الله أن يقتدوا بفعله: أخرج مسلم عن أبي الزبير، أنه سمع جابرًا رضي الله عنه يقول: رأيت النبي يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: ( لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ).
قال النووي: قوله ( لتأخذوا مناسككم )، فهذه اللام لام الأمر، ومعناه: خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم،
فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس. وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج، وهو نحو قوله في الصلاة: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )(1 ).
درس عملي في الاعتماد على النفس ومكافحة المسألة:
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي يسأله، فقال: ( لك في بيتك شيء؟ قال: بلى، حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقدح نشرب فيه الماء،
قال: ائتني بهما، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله بيده، ثم قال: من يشتري هذين ؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم ؟ ( مرتين أو ثلاثًا)،
قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري،
وقال: اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدومًا، فأتني به، ففعل. فأخذه رسول الله ، فشدَّ فيه عوداً بيده، وقال: اذهب فاحتطب ولا أراك خمسةَ عشر يومًا،
فجعل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فقال: اشتر ببعضها طعامًا وببعضها ثوبًا، ثم قال: هذا خير لك من أن تجيء والمسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لِذِي فقرٍ مُدْقِع، أو لذي غُرْمٍ مُفْظِع، أو دمٍ موجِع ) (1 ).
( الحِلْس ) ما يُبسط في البيت تحت حُرّ المتاع.
( القَدُوم ) آلة للنجر والنحت.
( نكتة ) بقعة سوداء.
قال الخطابي: ( فقر مدقع ) هو الفقر الشديد.
( والغرم المُفْظِع ) هو أن تلزمه الديون الفظيعة الفادحة.
( والدم الموجِع ) هو الدية الباهظة تلزمه، أو أن يتحمل حمالة في حقن الدماء وإصلاح ذات البين، فتحل له المسألة (1 ).
في هذا الحديث الشريف يتجلى أمامنا موقف تعليمي رائع، فالرسول كان بإمكانه أن يمنح السائل شيئًا من ماله، أو يندب الصحابة إلى إعطائه ما يسد حاجته ذلك اليوم أو بضعة أيام.
غير أنه أراد أن يلقن ذلك السائل القادر على الكسب والحاضرين جميعًا درسًا عمليًا في الاعتماد على النفس، وذم المسألة وبيان عواقبها الوخيمة على الإنسان في الدنيا والآخرة.لقد تولى رسول الله بنفسه بيع ممتلكات السائل الزهيدة، في مزاد علني، ثم أمره أن يشتري بدرهم طعامًا لأهله وبالآخر قدومًا. وقد حرص عليه الصلاة والسلام على أن يشد في القدوم عودًا بيده الشريفة، إظهارًا لأهمية الموقف وجدية الأمر وشرف العمل، ثم أمره أن يحتطب ويتكسب من بيع الحطب.
وبعد ذلك جاءت التوجيهات النبوية المبينة للحالات التي تجوز فيها المسألة،
وذلك بعد حل مشكلة السائل الملحة، لتكون تلك التوجيهات خاتمة موفقة لهذا الدرس العملي البليغ الذي استمر خمسة عشر يومًا. إنه موقف تعليمي لا يمكن أن ينساه السائل وكل من حضره. هذا إلى جانب كونه ضربًا من التدريب المهني لهذا الشاب العاطل عن العمل، ليغدو فردًا نافعًا لنفسه وأهله ومجتمعه.
درس عملي في إظهار عجز الأصنام ومهانتها:
عن عبد الله بـن مسعــود رضي الله عنه قال: دخل النبي مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبًا، فجعل يطعنها بعود في يده، وجعل يقول: { جاء الحق وزهق الباطل }... إلخ الآية(1 ).
( نصبًا ) صنمًا.
وههنا نجد أن عملية الطعن بالعود لهذه الأصنام هو درس عملي تضمن تحقيرًا لشأنها، وإظهارًا لمهانتها، وإثباتًا لعجزها عن أن تدفع الضرر عن نفسها بما هو أوقع في نفوس الحاضرين وهم ألوف من مجرد القول إنها لا تنفع ولا تضر.
صورة من صور التدريب المهني:
أخرج ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله مر بغلام يسلخ شاة، فقال له رسول الله: ( تنح حتى أريك، فأدخل رسول الله يديه بين الجلد واللحم، فدحس بها حتى توارت إلى الإبط ، وقال: يا غلام هكذا فاسلخ، ثم مضى وصلى للناس ولم يتوضأ ) (1 ).
( الدحس ) هو إدخال اليد بين جلد الشاة ولحمها.
إن هذا الحديث الشريف إلى جانب كونه برهاناً على اعتماد الرسول على التوضيح العملي في تعليم أصحابه رضي الله عنهم المسائل التي تتطلب ذلك،
فإنه يمثل أيضًا لونًا من ألوان التدريب المهني لهذا الشاب المسلم ومن شارك في ذلك الموقف التعليمي، ويتضمن توجيهًا نبويًا للأمة المسلمة في كل العصور للعناية بتدريب أبنائها على المهن التي تتطلبها حاجات المجتمع المسلم.
المفضلات