كيف كان الشعراء يستحثون قرائحهم ؟
بدون مقدمات:
مهما بلغ المرء من سمو المدارك وصفاء الذهن وسرعة البديهة فإنه لا يستغني أحياناً عن شحذ قريحته وذهنه أو استحثاث خاطره وخصوصاً في الشعر ، إذ كثيراً ما تمر على الشعراء فترات لا يجدون فيها قدره على النظم . قال الفرزدق : " قد تمر علىّ الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون عليّ من نظم بيت الشعر " . ويرى آخرون أن الشعر مثل عين الماء ن تركتها اندفنت وان استهتنتها هتنت ، يريدون أنه لا بد للشاعر من استحثاث قريحته من وقت إلى آخر .
وللشعراء طرق شتى في استحثاث قرائحهم تختلف باختلاف أمزجتهم وعاداتهم وطبائعهم .
سئل ذو الرمة : " كيف تفعل إذا أنقفل دونك الشعر ؟ " فقال : " كيف ينقفل دوني وعندي مفاتيحه ! " قيل له : " وعنها سألناك ما هي ؟ " قال : " الخلوة بذكر الأحباب " قال : " أطوف في الرباع المحيلة والرياض المعشبة فيسهل علىّ أرصنه ويسرع إلى أحسنه " .
وكان الاخطل يستحث قريحته بشرب الخمر . وكذلك كان يفعل كثيرون من كانوا يشربونا . وكانت طائفة من الشعراء تستحث شياطينها . كما فعل الفرزدق ، وقد أفحم عند سماع قصيدة حسان التي يقول فيها :
لنا الجفنات الغرُّ يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دمِا
وقد أمهله قائلها ثلاثة أيام حتى يجيب عليها ، وكانت ساعة جمود على قريحته .. فاضطر إلى استحثاثها ، قال : " أتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر فكأني مفحم أو لم أقل شعراً قط ، حتى نادى المنادي بالفجر فرحلت ناقتي ثم أخذت بزمامها فقدتها حتى أتيت ربانا ـ وهو جبل بالمدينة ـ ثم ناديت بأعلى صوتي : أخاكم أخاكم أبا لني يعني شيطانه ، فجاش صدري كما يجيش المرجل .. ثم عقلت ناقتي وتوسدت ذراعها ، فما قمت حتى قلت مائة وثلاثة عشر بيتاً " على أنه كان إذا خانته قريحته وصعب عليه الشعر ركب ناقته وطاف خالياً منفرداً وحده في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة الخالية فيعطيه الكلام قياده .
وكان الأبيرد الرباحي إذا خانته القريحة أخذ عصاه وانحدر في الوادي ، وجعل يقبل فيه ويدير ويهمهم بالشعر فتأتيه المعاني . وكان جرير يستحث قريحته بشرب النبيذ ويتمرغ بالرمل أو على الفراش ويهمهم ويحبو على الفراش عرياناً حتى يخاله الناظر إليهأصيب بجنة . وسئل نصيب مرة : " أتطلب القريض أحياناً فيعسر عليك ؟ " فقال : " أي والله ربما فعلت فآمر براحلتي فيشد بها رحلي ، ثم أسير في الشعاب الخالية واقف في الرباع المقوية فيطربني ذلك ويفتح لي الشعر " .
ويقال نحو ذلك في أحوال الشعراء في سائر العصور . وكان أبو تمام إذا أعيته القريحة غطس في صهريج ماء عنده يمكث فيه ساعة .
على أن لاستحثاث القريحة قواعد عامة يجري عليها الكثيرون منها الجلوس بجانب الماء الجاري أو الاشراف من الأماكن العالية والنزوح إلى الأماكن الخالية أو التجول في الرياض . وبعضهم يستهض قواه العاقلة أو قريحته بالاستلقاء على الظهر ، وهم يجمعون في الاكثر على مباكرة العمل بالاسحار عند الهبوب من النوم .
إخواني الشعراء:
نلاحظ نحن المتلقين ومتلقفي أشعاركم ألوانا مختلفة من الأنفعالات المضطربة التي تشعرون بها عند نظم معظم قصائدكم والتي تحكي أسباب فوران عواطفكم عند تعرضها لمواقف الحياة المختلفة أما البعض الآخر فنلاحظ توقفه فترة ليست بالقصيرة عن طرح قصيدة الا نعزي ذلك الى عدم تعرضه لمواقف تستحق كتابة قصيدة جديدة شأنهم بذلك شأن هؤلاء الشعراء الذين ذكرتهم سابقا في موضوعي هذا الا تؤدوني بذلك .
تحياتي وتقديري لجميع من قرأ هذه الكلمات .
المفضلات