الجريمة.. مؤسّسة أمريكيّة
محمد الأحمدي 1/7/1426
06/08/2005
عندما تعالت الأصوات في الآونة الأخيرة من داخل أمريكا نفسها مطالبة بإغلاق معسكر جونتانامو بعدما نشرت وسائل الإعلام تفاصيل جريمة تدنيس المصحف الشريف، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات لدى مختلف شعوب وحكومات العالم جراء الانتهاكات الفظيعة التي كشفت عنها تقارير منظمة العفو الدولية (إمنستي) في حق المعتقلين هناك، لم يكتفِ المسؤولون في البيت الأبيض بالردّ عليها والدفاع عن سمعة بلادهم، بل عمدت وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون إلى الإعلان عن مناقصة بقيمة 30 مليون دولار لبناء سجن جديد في القاعدة كانت من نصيب الشركة النفطية سيئة السمعة (هاليبرتون إنك) التي كان نائب الرئيس الأمريكي الحالي ديك تشيني رئيسها ومديرها العام خلال الفترة من 1995م إلى 2000م، والتي استفادت بطرق مشبوهة من عقود ضخمة للتموين وإعادة إعمار العراق منذ بداية الحرب، لتؤكد بذلك الولايات المتحدة من جديد أن الجريمة الأمريكيّة لا بد أن تكون ذات طابع مؤسسي ممنهج؛ لأنه الطابع الذي يميز الجريمة الأمريكيّة، ويضرب بجذوره في عمق التاريخ الأمريكي.
عندما وصفت منظمة العفو الدولية معسكر الاعتقال الأمريكي في جوانتنامو كوبا بـ (غولاغ العصر الحديث) -وأطلقت عليه هذه التسمية تشبيهاً له بمعسكرات الاعتقال السياسية التي أُقيمت بداية قيام الاتحاد السوفيتي السابق؛ حيث كان يُزجّ بالمعتقلين السياسيين بتلك السجون دون توجيه أي تهمة- لم تكن تقصد بذلك مجرّد لفت الانتباه لمجمع الزنزانات "الذي يشبه ملجأ للحيوانات في حي سيئ أكثر منه مكاناً يوضع فيه البشر" على حد وصف المترجم الأمريكي (إريك سار) الذي خدم لمدة ستة أشهر في قاعدة جونتانامو، وألف كتاباً مع زميلته (فيفيكا نوفاك) مراسلة صحيفة (التايم) الأمريكية، يكشف فيه عن جوانب مظلمة وممارسات وحشية ظالمة، وأساليب منافية للمواثيق والأعراف الدوليّة يرتكبها الجيش الأمريكي في حق المعتقلين.
لم تقصد المنظمة مجرد انتقاد المكان، حجمه ومدى ملاءمته لحياة البشر من عدمها كي تأتي البنتاحون وتبني سجناً أوسع منه أو أكثر منه ملاءمة؛ إنما أرادت بالتشبيه الإشارة إلى حجم الجريمة ومطابقتها للمعسكرات السوفيتيّة من جهة أن المعتقلين فيها لا يُحاكمون، وإنما يقضون نحبهم داخل المعتقلات دون أن تُوجه لهم تهمة.
وكتصوير لحجم الجريمة التي ارتكبها الأمريكيون بشأن تدنيس القرآن الكريم، وما يتعرض له المعتقلون في كافة السجون الأمريكيّة ، اعتبرت منظمة العفو الدولية أن "الكرامة الإنسانيّة سقطت ضحية لحرب الولايات المتحدة على ما يُسمّى بالإرهاب، ونظام التحقيق الذي تنتهجه مع المعتقلين؛ وذلك لأن الإدارة الأمريكيّة لم ترفض القانون الدولي لحقوق الإنسان فحسب، وإنما تبنّت أيضاً استخفافاً اختيارياً بالقانون الإنساني".
كما هي العادة عندما تعالت الأصوات من داخل الولايات المتحدة - من بينها شخصيات سياسيّة رفيعة، ومنها الرئيس السابق جيمي كارتر، وأعضاء من الحزب الديمقراطي في الكونجرس، وكذا مؤسسات ثقافية وحقوقية - مطالبة بإغلاق المعسكر المشؤوم خرج ساسة البيت الأبيض بدءًا بالرئيس بوش ونائبه ديك تشيني وقبلهما رئيس هيئة الأركان المشتركة (مايزر) والمتحدث باسم البيت الأبيض (سكوت ماكليلان)، وأخيراً وليس آخراً وزير الدفاع دونالد رامسفيلد للتنديد بمنظمة العفو الدولية، والدفاع عن جرائم الجيش الأمريكي في حق المعتقلين السجناء من جنسيات مختلفة في جونتانامو الذين أثبتت التقارير الأمريكية نفسها أن معظمهم ليسو من تنظيم القاعدة، ولا يشكلون أي خطر على أمريكا ومنهم صغار السن، وكثير منهم لا يعرف لماذا اعتقل ويتساءل: لماذا أنا هنا؟! كما يروي ذلك المترجم الأمريكي أيريك سار.
لا يوجد أدنى شك أن الولايات المتحدة الأمريكيّة لم تعد اليوم محل ثقة لدى شعوب العالم في دعاواها المتعلقة بحقوق الإنسان. فمن جوانتانامو الكوبي، إلى أبو غريب العراقي، مروراً بمجازر قانجي وقندهار والفلوجة والقائم شاهد العالم مراسيم تشييع جنازة آخر حلقة في منظومة الأخلاق والقيم الإنسانيّة التي لطالما ناضلت من أجلها الشعوب، وأكدت عليها الشرائع السماويّة وضمنتها العهود والمواثيق الدوليّة.
إن روائح الموت التي طفحت بها سجون الجلاد الأمريكي لم تكن سوى شاهد جليّ على فظاعة المشهد الذي تحياه البشريّة اليوم ، تحت رحمة ذلك الجلاد الذي ما إن أدرك فشل القوة العسكريّة ووسائل الدمار والقتل حتى لجأ لأساليب التعذيب والحرب النفسيّة، منتهكاً حرمة الكتاب المقدس، وهي جريمة -وإن بدت أكثر بشاعة وهستيرية- إلا أنها فعل العاجز.
إشعال الحروب بذرائع كاذبة، وتدمير مقدرات الشعوب واستغلال ثرواتها.. الخروج عن الإرادة الدولية أو ما يُسمى (الشرعيّة الدوليّة) وطغيان منطق القوة.. والقتل بدم بارد.. وتعذيب السجناء.. الاعتقالات العشوائية.. واجتياح المدن والبلدات وقصفها وتسويتها بالأرض.. استهداف المساجد ودور العبادة.. وانتهاك حرمة المصحف الشريف..كل ذلك وغيره جرائم -وإن بدت أكثر فظاعة- إلا أنها ليست وليدة اللحظة أو الأولى من نوعها، فقد سبقتها جرائم عديدة تحتفظ الولايات المتحدة الأمريكية فيها بحق الامتياز.
ينقل مؤلف كتاب (الجرائم الأمريكيّة في قرن من عام 1900-2000م) في مقدمة الكتاب عن (فرانك براوننغ) في كتابه (الجريمة على الطريقة الأمريكيّة) القول: "منذ سنة 1960م أخذوا في الولايات المتحدة الأمريكيّة يتحدثون كثيراً عن (سلطة خامسة)، وهي أحياناً قوية لدرجة أن السلطات الأربع الأخرى تنحني أمامها.. كان البعض يقصد بها الجيش، والبعض الآخر المخابرات..ولكننا نعتقد بأن ما وراء كافة هذه القوى الاجتماعيّة، توجد قوة أخرى (سلطة سادسة) قد ظهرت في الولايات المتحدة.. قوة قادرة على التأثير في الحكومة، في القانون، في الاقتصاد، في الشرطة في الأسعار في الأذواق.. إن هذه القوة تغرز جذورها حتى منبت التاريخ الأمريكي. إن تأثيرها عميق وسيطرتها واسعة وقدرتها متنامية باستمرار، فأمريكا لا تستطيع اليوم أن تعمل بدونها. إن هذه السلطة السادسة هي التي يمارسها محترفي الإجرام الذين يعملون في خدمة الصناعيين والسياسيين من غير الشرفاء".
أقول: وربما غفل الكاتب عن الإشارة إلى أن خريجي معاهد هذه السلطة اليوم هم أولئك الذين يسيّرون دفة الحكم في واشنطن، والذين يعتنقون أيديولوجيّات متطرّفة، ويُعرفون بـ(المحافظين الجدد)، ويتفقون مع الصهاينة في معتقدات باطلة وأهداف مشتركة.
وكتاب (الجرائم الأمريكيّة خلال قرن) من إعداد عامر مهندس، ويؤرّخ فيه للجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة في حق الإنسانيّة خلال القرن المنصرم.
الكتاب وإن اكتفى بسرد تاريخي موجز لتلك الجرائم، إلا أنه تضمن مقدمة تحليليّة يوضح من خلالها الكاتب العقلية البراجماتيّة المجرّدة التي يتخذ منها رجل السياسة الأمريكيّة أرضيّة لارتكاب الجريمة.
إن السلطة السادسة كما يقول "مهندس" تلك الجريمة المؤسسة تؤلف سلطة مستقلة تقاوم السلطات الأخرى في الوقت ذاته الذي تنفذ به إليها مندسة في مستويات الحياة العصريّة كافة. وبالتالي فإن تاريخ الجريمة في الولايات المتحدة لا يمكن إلا أن يكون تاريخ الولايات المتحدة الذي تنتشر فيه مغامرات الخارج على القانون وقاطع الطريق والمتمرد والمبتز..ّ
إن الجرائم التي ارتكبتها أمريكا في حق شعوب الأرض، ونرى مسلسلها حتى اليوم ليست سوى حالة منظمة دأب صناع القرار في الولايات المتحدة على تثبيتها في المجتمع الأمريكي، وصولاً إلى تحقيق الرعب في نفوس شعوب العالم لتحقيق السيطرة الكاملة عليها.
وإن حفلات الموت التي بُنيت عليها الحضارة الأمريكية لا تزال تتكرر في كل مرة يشعر فيها مسؤولو السلطة السادسة بالخطر يهدد مصالحهم، وإذا كان الرجال (العظام!!) الذين بنوا حضارة أمريكا من خلال منظمة (كوكلكس كلان) أقسموا على إهانة الرجل الأسود وضربه وشنقه بلا محاكمة، لإفهامه أنه إنما جيء به إلى أمريكا لغرض العبودية وليس لغرض آخر، فإن المحافظين الجدد اليوم في البيت الأبيض وتحت رغبة السلطة السادسة (مؤسسة الجريمة) يتمثلون ذات المنطق، ولكن ضد شعوب أخرى ليس لأنها من الجنس الأسود؛ وإنما لكونها تقف حجر عثرة أمام المصلحة الأمريكية (المقدسة!!) أو تملك ثروات ليس من حقها كجنس بشري التمتع بها وفق المنظور العنصري الأمريكي!!
هكذا إذا هي الحضارة الأمريكيّة.. الحرية الأمريكيّة.. الديموقراطيّة الأمريكيّة .
لقد أنجبت هذه الحضارة أجيالاً تقتل ببرودة، وتلتقط لنفسها صوراً تذكارية، وهي تمارس أبشع الجرائم ضد معتقليها وضحاياها، وتنهب ثروات الشعوب ، وتعمل في أبنائها قتلاً وسلباً بزعم تحريرهم.. وتلك هي المفارقة الكبرى !
المفضلات