ضوابط الجهاد
في السنة النبوية
للدكتور محمد بن عمر بازمول
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، و نستعينه، و نستغفره، ونعوذ بالله، من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَتَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ
يَآأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوْا اللَّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً
يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.
أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذا بحث أوردت فيه جملة من أحكام الجهاد، مقتصراً فيها على ما دلت عليه السنة النبوية، وسميته : ضوابط الجهاد في السنة النبوية.
أتقدّم به مشاركة في الملتقى الذي ينظمه قسم التفسير والحديث بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، بجامعة الكويت، عن "الجهاد حقيقته وضوابطه"بعنوان "، في يومي الثلاثاء والأربعاء 1،2 ربيع الأول 1425هـ.
وقد كسرته على ثلاثة فصول:
الفصل الأول : ضوابط الجهاد من جهة حكمه.
الفصل الثاني : ضوابط الجهاد من جهة طريقته.
الفصل الثالث : ضوابط الجهاد من جهة مغنمه.
وقدمت بين يديها مقدمةً ، أشرت فيها إشارة مختصرة جداً إلى فضل الجهاد، وإلى خطورة استباحة الدم المعصوم، ونبهت على ما تسلل إلى أفكار بعضهم من استباحة دماء المسلمين وتسمية ذلك بالجهاد، وبينت أنه جهاد بدعي لأن أصحابه خرجوا به عن حدود الشرع، فهو جهاد لنصرة الهوى والبدعة، لا لإعلاء كلمة الله، فليس في سبيل الله!
وختمت بذكر أهم الأمور التي بينها البحث وانتهى إليها.
أسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يجزي القائمين على هذا الملتقى كل خير، وأن يجعل ما بذلوه من جهد ومن تعب في موازين حسناتهم، وأن يختم بالصالحات أعمالنا إنه سميع مجيب.
كتبه
د. محمد بن عمر بن سالم بازمول
mbazmool@hotmail.com
الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام؛
و لا غرو فالجهاد صعب على النفس؛ إذ هو اجتهاد في بذل الجهد في قتال العدو، إما دعوة، وإما دفعاً، وذلك ببذل المال و الروح في سبيل الله سبحانه وتعالى.
وقال الأثرم: قال أحمد: لا نعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من السبيل.
وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله، وذكر له أمر الغزو، فجعل يبكي ويقول: ما من أعمال البر أفضل منه .
وقال عنه غيره: ليس يعدل لقاء العدو شيء ا.هـ( ).
والجهاد شرعي مادام لإعلاء كلمة الله.
ومادام الجهاد في حدود الأمر والنهي الشرعيين فهو جهاد لإعلاء كلمة الله، فإن خرج عن حدود الشرعة التي جاء بها محمد فقد خرج عن أن يكون جهاداً في سبيل الله، بل صاحب هذا الجهاد الخارج عن شرع الله جهاده في سبيل بدعته وهواه، فجهاده بدعي!
وقتال صاحب الجهاد البدعي ومنعه من إيذاء أهل الإسلام هو جهاد في سبيل الله، لأنه يطلب فيه إعلاء كلمة الله أمام من يقاتل لإعلاء هواه وبدعته.
فليس كل من قاتل مدعياً أنه يجاهد كان جهاده في سبيل الله، ما لم يعتصم بالكتاب والسنة، فيلزم في قتاله حدود ما شرعه الله عز وجل وينتهي عما نهى الله عز وجل.
وإن مما نهى الله تعالى عنه قتل المسلمين بغير حق، وقد جاء في الحديث عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ.
ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ!
قَالَ : فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ.
قَالَ : أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟! قُلْنَا : بَلَى!
قَالَ : فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ!
قَالَ : فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ.
قَالَ : أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ! قُلْنَا : بَلَى!
قَالَ : فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ!
قَالَ : فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ.
قَالَ : أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ! قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ!
قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا.
وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا أَوْ ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلِّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ.
ثُمَّ قَالَ : أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ"( ).
وقد رجع بعضنا يضرب رقاب بعض، ويستبيح منا ما حرمه الله، ويسمي ذلك جهاداً، وإنما هو جهاد بدعي؛ لخروجه عما شرعه الله، وتجاوزه حد الشرعة والمنهاج!
قال ابن تيمية (ت728هـ) رحمه الله: "لا ريب أن الجهاد و القيام على من خالف الرسل و القصد بسيف الشرع إليهم، و إقامة ما يجب بسبب أقوالهم نصرة للأنبياء والمرسلين، وليكون عبرة للمعتبرين ليرتدع بذلك أمثاله من المتمردين من أفضل الأعمال التي أمرنا الله أن نتقرب بها إليه، وذلك قد يكون فرضا على الكفاية، وقد يتعين على من علم أن غيره لا يقوم به، و الكتاب و السنة مملؤآن بالأمر بالجهاد و ذكر فضيلته؛ لكن يجب أن يعرف الجهاد الشرعي الذي أمر به الله و رسوله من الجهاد البدعي: جهاد أهل الضلال الذين يجاهدون في طاعة الشيطان وهم يظنون أنهم مجاهدون في طاعة الرحمن، كجهاد أهل الأهواء و البدع كالخوارج و نحوهم الذين يجاهدون في أهل الإسلام، وفيمن هو أولى بالله ورسوله منهم من السابقين الأولين و الذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين. .... ... ... وكذلك من خرج من أهل الأهواء على أهل السنة، و استعان بالكفار من أهل الكتاب و المشركين و التتر و غيرهم هم عند أنفسهم مجاهدون في سبيل الله، بل وكذلك النصارى هم عند أنفسهم مجاهدون.
وإنما المجاهد في سبيل الله من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، كما في الصحيحين( ) عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
وقد قال الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ (الأنفال: من الآية39).
و الجهاد باللسان هو مما [جاهد] به الرسول كما قال تعالى في السور المكية َلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً. فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (الفرقان:51- 52)؛ و إذا كان كذلك فالجهاد أصله ليكون الدين كله لله، بحيث تكون عبادته وحده هو الدين الظاهر، وتكون عبادة ما سواه مقهورا مكتوما أو باطلا معدوما، كما قال في المنافقين و أهل الذمة، إذ لا يمكن الجهاد حتى تصلح جميع القلوب، فإن هدى القلوب إنما هو بيد الله، و إنما يمكن حين يكون الدين ظاهرا: دين الله، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (التوبة:33)؛
ومعلوم أن أعظم الأضداد لدين الله هو الشرك، فجهاد المشركين من أعظم الجهاد، كما كان جهاد السابقين الأولين، وقد قال صلى الله عليه و سلم:"مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
وكلمة الله إما أن يراد بها كلمة معينة وهي التوحيد: لا إله إلا الله، فيكون هذا من نمط الآية، وإما أن يراد بها الجنس أن يكون ما يقوله الله ورسوله، فهو الأعلى على كل قول، وذلك هو الكتاب ثم السنة؛ فمن كان يقول بما قاله الرسول ويأمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه فهو القائم بكلمة الله، ومن قال ما يخالف ذلك من الأقوال التي تخالف قول الرسول فهو الذي يستحق الجهاد"اهـ( ).
لأجل هذا كان لابد من تداعي همم أهل العلم وطلابه، لجلاء حقيقة الجهاد الشرعي وضوابطه، وبيان الفرق بينه وبين الجهاد البدعي!
وباستقراء السنن الواردة عن الرسول في موضوع الجهاد، يمكن أن تصنف ضوابط تتعلق بموضوع الجهاد من جهات ثلاث:
الجهة الأولى : ضوابط الجهاد من جهة حكمه.
الجهة الثانية : ضوابط الجهاد من جهة طريقته.
الجهة الثالثة : ضوابط الجهاد من جهة مغنمه.
وإليك بيانها:
ضوابط الجهاد من جهة حكمه
فيه الضوابط التالية :
الضابط الأول
التفريق بين حكم الجهاد بحسب نوعه
فإن الجهاد في سبيل الله على نوعين فرّق الشارع بينهما في الحكم، وهما:
النوع الأول : جهاد الدفع.
النوع الثاني: جهاد الطلب والدعوة.
فجهاد الدفع واجب متعين على كل من نزل العدو بأرضه.
أمّا جهاد الدعوة والطلب فإنه فرض كفاية، إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الآخرين، فلا يتعين هذا النوع من الجهاد على كل أحد.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أحوالاً يكون فيها الجهاد فرض عين ، وهي :
الأولى : في حال نزول العدو في أرض ، فإنه يجب على كل مسلم منهم دفع، وهو جهاد الدفع.
والثانية: إذا عين الإمام (ولي الأمر) أشخاصاً بأعيانهم للجهاد.
الثالثة: عند مواجهة العدو بشرط أن لا يزيد عدد العدو عن ثلاثة أضعاف المسلمين، كما قال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال:66)، فلو كان الكفار ثلاثة أضعاف المسلمين لما وجب عليهم القتال، ولصح لهم الفرار، هذا في جهاد الطلب والدعوة.
الرابعة : إذا استنفر الإمام نفيراً عاماً، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (التوبة:39)، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"( ).
الخامسة: إذا احتيج إليه و لا يوجد غيره، فيتعين عليه( ).
الضابط الثاني
ليس الجهاد للدفاع فقط
أمّا جهاد الدفع فهذا لا نزاع فيه.
أمّا جهاد الطلب( ) والدعوة فيدل عليه من سنة الرسول أنه كان يبعث جيوشه وسراياه لدعوة الناس وقتالهم على الإسلام بل جاء عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ"( ).
وهذا نص صريح في جهاد الطلب، ويدل عليه ما تقدم من أنه لم يبق في المدينة ينتظر من يهاجمه ليدفعه ولكن أرسل الجيوش والبعوث والسرايا لقتال الكفار ودعوتهم إلى الإسلام، وإلا دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ويؤيد ما تقدم قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (لأنفال:39)، وحديث الرسول حيث قال فيما جاء عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ"( ).
الضابط الثالث
الفرق بين الجهاد الشرعي والجهاد البدعي
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"( ).
والحديث يدل على أن المجاهد هو من جاهد لإعلاء كلمة الله، ويكون الدين كله لله؛
فمن جاهد لإعلاء بدعة لم يجاهد في سبيل الله.
ومن جاهد على غير الطريقة التي شرعها الله لم يجاهد في سبيل الله.
و لا ينفعه أنه يعتقد أنه في سبيل الله!
قال ابن تيمية (ت728هـ) رحمه الله: "لا ريب أن الجهاد و القيام على من خالف الرسل و القصد بسيف الشرع إليهم، و إقامة ما يجب بسبب أقوالهم نصرة للأنبياء والمرسلين، وليكون عبرة للمعتبرين ليرتدع بذلك أمثاله من المتمردين من أفضل الأعمال التي أمرنا الله أن نتقرب بها إليه، وذلك قد يكون فرضا على الكفاية، وقد يتعين على من علم أن غيره لا يقوم به، و الكتاب و السنة مملؤآن بالأمر بالجهاد و ذكر فضيلته؛
لكن يجب أن يعرف الجهاد الشرعي الذي أمر به الله و رسوله من الجهاد البدعي: جهاد أهل الضلال الذين يجاهدون في طاعة الشيطان وهم يظنون أنهم مجاهدون في طاعة الرحمن، كجهاد أهل الأهواء و البدع كالخوارج و نحوهم الذين يجاهدون في أهل الإسلام، وفيمن هو أولى بالله ورسوله منهم من السابقين الأولين والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين. .... ... ... وكذلك من خرج من أهل الأهواء على أهل السنة، و استعان بالكفار من أهل الكتاب و المشركين و التتر وغيرهم هم عند أنفسهم مجاهدون في سبيل الله، بل وكذلك النصارى هم عند أنفسهم مجاهدون.
وإنما المجاهد في سبيل الله من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، كما في الصحيحين( ) عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
وقد قال الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ (الأنفال: من الآية39).
و الجهاد باللسان هو مما [جاهد] به الرسول كما قال تعالى في السور المكية َلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً. فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (الفرقان:51- 52)؛ و إذا كان كذلك فالجهاد أصله ليكون الدين كله لله، بحيث تكون عبادته وحده هو الدين الظاهر، وتكون عبادة ما سواه مقهورا مكتوما أو باطلا معدوما، كما قال في المنافقين و أهل الذمة، إذ لا يمكن الجهاد حتى تصلح جميع القلوب، فإن هدى القلوب إنما هو بيد الله، و إنما يمكن حين يكون الدين ظاهرا: دين الله، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (التوبة:33)؛
ومعلوم أن أعظم الأضداد لدين الله هو الشرك، فجهاد المشركين من أعظم الجهاد، كما كان جهاد السابقين الأولين، وقد قال صلى الله عليه و سلم:"مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
وكلمة الله إما أن يراد بها كلمة معينة وهي التوحيد: لا إله إلا الله، فيكون هذا من نمط الآية، وإما أن يراد بها الجنس أن يكون ما يقوله الله ورسوله، فهو الأعلى على كل قول، وذلك هو الكتاب ثم السنة؛
فمن كان يقول بما قاله الرسول ويأمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه فهو القائم بكلمة الله، ومن قال ما يخالف ذلك من الأقوال التي تخالف قول الرسول فهو الذي يستحق الجهاد"اهـ( ).
ومعنى هذا الكلام أن من قتل معصوم الدم من مسلم وذمي ومعاهد ومستأمن ورسل الملوك، أو لم يراع حدود شرع الله في جهاده، فلم ينتظم فيه تحت راية ولي الأمر: إمام المسلمين، ومن جاء في جهاده بما يخالف شرع الله تعالى؛ فجهاده من الجهاد البدعي: جهاد أهل الضلال والأهواء، ليس هو من الجهاد لإعلاء كلمة الله؛ إذ أصحابه لم ينتهوا عما نهى الله عنه، بل خالفوا أمر الرسول ، فهؤلاء المخالفون يستحقون القتال، وقتالهم جهاد في سبيل الله.
الضابط الثالث
لا يكون جهاد الطلب والدعوة إلا في حال قوة وقدرة.
وهذا هو الأصل في تكاليف الإسلام، إذ القدرة مناط التكليف. يقول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا البقرة: من الآية286)، ويقول سبحانه وتعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا (الطلاق: من الآية7)، ويقول سبحانه وتعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن: من الآية16).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بسؤالهم وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"( ).
ومما يزيد أن القوة شرط لإقامة جهاد الطلب ابتداء الأمور التالية:
أ) أن الله سبحانه وتعالى يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (لأنفال:60).
وفي الحديث عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (الأنفال:60)، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ"( ).
ففي هذا أن الإعداد لقتال العدو لابد منه، وأن أنفع القوة المعدة هي الرمي.
وفي الآية والحديث ما يشير إلى أنه لابد من الإعداد للقوة قبل القتال والجهاد، فإن لم تكن هناك قوة فلا جهاد و لا قتال، إلا أن ينزل العدو بأرضنا!
ب) أن الله اشترط في العدد للوجوب أن يكون الرجل المسلم مقابل اثنين، كما قال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فلم يوجب الله على المسلمين قتال الكفار إذا كانوا أكثر من ذلك، وهذا في جهاد الطلب والدعوة، بخلاف جهاد الدفع كما حصل في معركة أحد والخندق، [فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجباً عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار]( ).
ج) ومما يدل على أن القدرة شرط في الجهاد ما جاء عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: "ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ!
الحديث وفيه ذكر الدجال ، ثم ذكر نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فقال: إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي
المفضلات