تفسير العلماء لغموض التوحد
يحاول العلماء عن طريق الدراسات ووضع النظريات الافتراضية معرفة أسباب إعاقة التوحد التي مضى على تصنيفها وتقنينها على يد الأمريكي " ليو كانر " أكثر من 55 عاما هذه العاقة التي مازالت تسمى باللغز المحير نظرا لغموض أسباب الإصابة بها لدى الأطفال خلال الثلاث السنوات الأولى من أعمارهم حيث تتلخص هذه الإعاقة وتتمحور في ثلاث مناطق رئيسية هي : التواصل الاجتماعي / التواصل الفظي والغير لفظي / اللعب التخيلي والإبداع . فيدخل الطفل المصاب إلى عالم آخر حيث تظهر عليه بعض السلوكيات الشاذة والغريبة مع الانعزال عن البيئة المحيطة به وتطوير بعض السلوكيات النمطية المتكررة والملزمة وعادة ما تكون من نوع واحد !!! وهنا عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة آخذكم في جولة نستطلع فيها العمل الجبار الذي يقوم به العلماء في شتى المجالات للحصول ولو على بصيص من الأمل لاكتشاف ولو سبب واحد يمكن أن يتوصلوا من خلاله لفك هذا اللغز المحير واستحداث العلاج المناسب له ، ونحن نتأثر بالاكتشافات الحديثة التي توضح التطورات التي تحصل لعقول الحيوانات قبل وبعد ميلادها ، حيث أن العلماء يطورون نظريات حديثة ومثيرة لتوضيح التوحد والشذوذ الغامض والاضطرابات العقلية التي تمنع الأطفال الرضع من تطوير المهارات الاجتماعية والمعرفة الإدراكية فالعلماء والباحثون يحاولون عن طريقة دراسة التركيبة الداخلية لمخ التوحديين معرفة متى وأين تحدث التفاعلات الجينية والبيئية التي تسبب الشذوذ ( التصرفات التوحدية ) في تركيبة المخ . ومع الزمن العلماء يتعرفون ويتعلمون أكثر عن مجموعة الدارات الكهربائية في المخ التي تزود وتنشئ خلاصة الطبائع الإنسانية مثل : اللغة والعاطفة والإدراك ومعرفة أن الأشخاص الآخرين لهم متطلبات و معتقدات مختلفة تماما عما يعتقده ويريده التوحديون .
فالدكتور " دافيد أميرال " أخصائي الأعصاب جامعة كاليفورنيـا قال : دورة المـخ التامـة متـعادلة . ( ابتدأ الباحثون بدراسة كيفية التفاعل الديناميكي لمناطق العقل لتنشئ هـذه الدوائر ) . وقـال : ( أن الدراسة تضع التوحد في المقدمة لدى علم الأعصاب الحديث حيث أن التوحد يشوه حقائق عديدة من السلوك الإنساني بما في ذلك الحركة والانتباه والتعلم والذاكرة واللغة والمجاز والتفاعل الاجتماعي ). ويمكن أن تكتشف الحقائق المشوهة للسلوك الإنساني في حركة الأطفال الذين ينقلبون ويجلسون ويحبون ويمشون بطريقة الغير منسقة فالطفل التوحدي ذو الثمانية عشر شهرا الذي يخطو بخطوات غير متناسقة لن يستطيع التأشير ومشاركة الآخرين ولفت الانتباه أو متابعة تعبيرات الآخرين . والأطفال التوحديون الذين أعمارهم سنتين أو ثلاث يستعرضون نقص يصعب فهمه في الاستجابة للآخرين .
فالعديد من التوحديين لا يتكلمون وعوضا عن ذلك ينخرطون في طقوسيات مثل : رفرفة اليدين التي تستثير أجسامهم ، التوحديون يكرهون التغيير بكل وسائله وطرقه وتفاوت درجات أعراض التوحد من الخفيف إلى الشديد تجعل حقيقة الاضطراب صعبة التقييم ( إسنادا إلى الدكتورة ) ماري بر يستول بور التي تنسق أبحاث التوحد في المعهد الوطني لتطوير صحة الأطفال والإنسان .
فالتوحد الكلاسيكي ونماذجه الشديدة والتي ينتج عنها التخلف العقلي تحدث لواحد في 1000 مولود .
وقالت أيضا " بأن التوحد الخفيف مثل : اسبر جر فهو يحدث لكل واحد في 500 مولود . والصفة المشتركة بين التوحديين هي ضعف الارتباط والتفاعل والاجتماعي . فقد قالت الدكتورة بور " بأنه يظهر في بعض الولايات في أمريكا زيادة واضحة في حالات التوحد ، ولكن التقارير لم توضح حتى الآن عما إذا كانت تعكس أعلى عدد من الحالات أو تشخيص أدق أو توفر علاجات أفضل وقبل خمسين عاما كان الباحثون موقنون بأن التوحد يحدث بسبب الأم الثلاجة الباردة عاطفيا والأب الضعيف الغائب عن منزله . اليوم العلماء الباحثون يركزون على الجينات ، في التوائم المتطابقين إذا كان أحدهم توحدي 90% سيكون الآخر لديه توحد . وقال الدكتور بينيث ليفينثال من جامعة شيكاغو : " على الأقل خمسة أو ستة جينات تسهم في التوحد " حتى الآن دراسة أخوان وأقارب التوحديين تقترح أن هذه الجينات في الكروموسومات 7و 13و 15 . و ما تفعله هذه الجينات ما زال تخمينا من قبل الجميع . دراسات تطور عقول الحيوانات وجدت نمو عدد من العوامل المؤرثة والبروتينيات التي ترشد خلايا المخ على عمل الاتصالات الملائمة .
الجينات الأخرى تصنع عوامل تعمل كمفاتيح رئيسية تفتح
وتغلق الجينات الأخرى في نقاط معينة في النمو . بعض الجينات تقمع النشاط الخلوي بينما الأخرى تثيرها وضع الموازنة الصحيحة للكيمائيات المعنية في نقل إشارات المخ . تبدأ الجينات المختلفة بعد الولادة برعاية الاتصالات بينما الأخرى تسبب موت الخلايا بطريقة النمو والتقليم . لكن النمو والتوسع في نظام الأعصاب هو عملية متواصلة وإذا حصل خطأ ما سيئا مبكرا ستعوق كل التطورات اللاحقة ، السؤال هنا متى مبكرا وأين ؟ .
الدكتورة باتر يشيا رو دير أخصائية علم الأجنة في المدرسة الطبية في جامعة روشيستر تؤمن بأن الخلل المخي في التوحد يحدث بين 20 و24 يوم من الولادة . ولديها دلائل بأن الجينات المعنية وفي وضع الجسم الأساسي وبناء المخ تسمى هوكس
( HOX GENES ) هي متغيرة في التوحد . أما الدكتورة مار جريت بومان اختصاصية الأعصاب في جامعة هارفارد تؤمن بأن الخلل ربما يحدث قبل منتصف الثلاث الأشهر الأولى من الحمل . واستندت في هذه النظرية إلى معرفتها المكثفة عن كيف ومتى تسلك الدارات المعنية . بعض الخلايا ستفقد فقط إذا حصل الخلل في منتصف الطريق في فترة نمو الجنين . والدكتور إريك كورتشسن عالم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا في ساندياغو قال " إن المشكلة تحدث بسهولة بعد الولادة حيث أن المخ يستمر في النمو " .
في شهر أكتوبر2000 م حدد الأطباء تحديدا قاطعا الجينات المعطلة في إعاقة متلازمة ريت (RETT SYNDROME ) حيث كان شائعا تشخيصها بالتوحد نتيجة لعدم دقة التشخيص . يولد الأطفال وينمون طبيعيا من عمر 6 – 24 شهرا حتى يسترجع الجين جينات أخرى تخفق أن تقفل مثلما يجب و نتيجة لذلك لا تتأرجح الجينات الأخرى وتعمل ويقف نمو الأطفال ، ويصبحون متخلفين عقليا . الدكتور كورتيشسن والباحثين يؤمنون بأن هناك عملية مشابهة ربما تنفذ في التوحد . وقد دهش الباحثون الآخرون في مجال المخ والعلماء الذين يدرسون التوحد بالاكتشافات الحديثة التي تقول بأن المخ البشري مستمــر في عمل خـلايا جديدة ( ليس فقط ارتباطات جديدة كما كان يعتقد في السابق ) ولكن حتى سن الرشد . أحد العلماء لديه دليل على أن عدد من الأعصاب في المخ البشري تتضاعف بين الولادة وحتى سن ست سنوات . وقال الدكتور كورتيشسن " لو كان هذا صحيحا إذا المخ يمر تحت عمليات بناء كبيرة تخلق عن طريق تفاعل الجينات والبيئة " وقال " أن التعكير في عملية البناء هذه ربما تكون نشأة التوحد " . هذه النظرية مدعومة ، وبعض الباحثون يقولون بحقيقة أن ربع أطفال التوحد يظهرون طبيعيين من عمر 14 إلى 22 شهرا ومن ثم يعانون من بداية مفاجئة لأعراض التوحد هذا ما قالته الدكتورة نانسي مينشيو الأخصائية النفسية في جامعة بيتس بورج .
البداية ربما تكون قد نتجت عن طريق قصور أو عجز جين واحد أو أكثر أو ربما عوضا عن شئ موجود في البيئة يتفاعل مع الطفل الحساس جينيا . و منذ عام 1983م تدرسون الدكتورة بومان ورفقائها نسيج المخ الذي حصل عليه من تشريح الأطفال التوحديين والكبار على الرغم من أن مناطق كبيرة في ال11 مخ
التي درست تظهر طبيعية ، المخ عامة أكبر وأثقل من الغالب . الأهم من ذلك يوجد شذوذ في المناطق الرئيسية الثلاث التي تساعد على التحكم في السلوك الاجتماعي ، أجزاء من الفصيصات الأمامية التي تمكن من اتخاذ القرار والتخطيط أثخن من الطبيعي . و وجدت الخلايا في النظام الحوفي Limbic System التي يتم عن طريقها صنع العواطف أصغر بمقدار
الثلث عن الطبيعي و بأعداد كثيفة . كما أن الخلايا أيضا غير مكتملة مع توقف نمو الاتصالات والترابط . والخلايا الموجودة في المخيخ الذي يساعد على التنبؤ عن ما يستحدث فيما بعد في لغة الحركات والتأمل والعواطف أقل ب30 إلى 50% . وقال الدكتور أميرال بأن أعراض التوحد يمكن أن تقتفى مشاكلها في كل من هذه المناطق على سبيل المثال : الأعصاب في منطقة اللوزة تستجيب إلى وجوه وزاوية التحديق . يميل الأطفال التوحديون إلى تجاهل التعابير الوجهية أو بالأحرى أنهم لا يقرؤون التعابير الوجهية جيدا .
والتجارب تظهر أن الأطفال التوحديون يستطيعون استخدام المخيخ لنقل الانتباه عندما لا يكونوا منتبهين إلى مهمة ما . لكن عندما يطلب منهم تغيير الانتباه ( المهمة التي تنشط الفصيصات الأمامية ) لا يستطيعون أداء المهمة ويعزي ذلك بسبب انشغال دائرة كهربية أكبر .
سلطت دراسات الحيوانات الضوء على بيولوجية السلوك الاجتماعي المتعلق بالتوحد على سبيل المثال : القردة لديهم خلايا في المخ تستجيب إلى تحريك اليدين والوجه ، ولكن لا تحرك شيئا آخر ، أيضا لديهم خلايا ( Mirror Neuros ) تثور ليس فقط عندما يقوم القرد بأداء حركة مثل
التقاط مقبض حديد ، ولكن أيضا عندما يرى قردا آخرا يعمل نفس العمل والحركة . لديهم أيضا خلايا تنشط بالأضواء والأصوات التي يصدرها الآخرون ولكن ليس مثل الأضواء والأصوات التي يصدرونها بأنفسهم . ربما التشابه الإنساني في هذه الخلايا المتخصصة لا تعمل كما ينبغي في التوحد .
وفي التعليم العادي والذاكرة يخزن الناس معلومات جديدة كل 30 ثانية بعد الحصول على ذروة الاستثارة ولكن ماذا لو لديك ستة أضعاف الذروة !؟ ربما تخزن عدد من المعلومات التي لا دخل لها وتركز على معلومات لا داعي لها . و تقترح التجارب التي أجريت على الأطفال التوحديين بأن العناصر المحددة للسلوك الاجتماعي غير طبيعية ، على سبيل المثال لمنع شخص آخر من التركيز على الهدف يستطيع الأطفال التوحديين أن يستعملوا التخريب ولكن ليس الحلية والخدعة . ويستطيع الأطفال التوحديون استخدام الإيماءات للتواصل مثل : ( تعال إلى هنا ) للتأثير على سلوك الشخص الآخر ، ولكن ليست إيماءات تعبيرية مثل : (أحسنت صنعا ) للتأثير مزاجيا على الشخص الآخر . ويستطيع الأطفال التوحديون أيضا الشعور بالاستمتاع الأساسي في البراعة في مهمة ما ، ولكن ليس المفخرة وهذا ما قالته الدكتورة كريس فريث اختصاصية الأعصاب في جامعة لندن ، فالعاطفة مثل المفخرة يتطلب وضعها في حسبان الأشخاص الآخرين . والسيدة بور شيا
ايفريسون قالت : " تجارب أخرى لم تنشر بعد تظهر أن أطفال التوحد ممطرين بنظام الأعصاب الخاص بهم يجعلهم ذو حساسية للاستثارة ليس أقل ". وإذا ورطت شخص ما في مكيدة لتقيس بها مدى الاستثارة والاتصال البصري ، ربما سوف ترى أربع ايذاءات في الدقيقة . في نفس الوضعية إضافة إلى أن الذروة عالية جدا ومنخفضة وشاذة كأنك تشعر بأنك في زلزال ، لكن هكذا الأطفال التوحديون يشعرون طوال اليوم .
يتفق فالباحثون في مجال التوحد بأنهم سوف يستغرقون سنين عديدة قبل فهم الإعاقة من الناحية الجينية والكيمياعصبيا . في الوقت الحالي فرد إلى فرد معالج ينجح من 30 – 50% في تعليم الأطفال التوحديين المعالجين كيفية التحكم في حركاتهم والتفاعل الاجتماعي . بشرط أن يبدأ في سن مبكر والأرجح من عمر سنتين أو ثلاث سنوات . والهدف هو رصد التوصيلات الكهربائية ( الشبكة ) الغير مسلكه في عقل التوحديين ، وكلما ينمو المخ يساعد على نمو الاتصالات التي يحتاجها فقد قالت الدكتورة بر يستول بور : " مازالت الإعاقة لدى العديد من الأطفال التوحديين غير مشخصة حتى سن الخامسة أوحتى سن السادسة عندما يبدءون في الذهاب إلى المدرسة . و مازال معظم أطباء الأطفال والأسرة يعتقدوا بأن التوحد يعتبر إعاقة نادرة. فكل طفل لا يتكلم أو يتفوه بعبارة قصيرة في سن الثانية يجب أن يقيم . فالسيدة ايفريسون قالت : " الواقع أن عقول الأطفال الديناميكية والمرنة هو ما نتمناه ". و إن جوهر الإنسان هو التفاعل مع البيئة وان لم يتم ذلك بطريقة صحيحة من أول مرة يمكن أن نعملها بطريقة العلاج الاسترجاعي والإنتاجي للمخ.
المفضلات