[align=center]تابع فتوى الشيخ ..
وأما سؤالك عن المعاهدات الدولية وحكمها في الشريعة ، فلابد لمن يريد التكلم في باب المعاهدات الدولية في هذا الزمان أن يستصحب أربعة أمور مهمة :
الأول :
ـــــــــــــــ
أن الأنظمة نظامان ، نظام الإسلام القائم على الاحتكام إلى الله ورسوله ، ونظام الجاهلية وهو كل ما سوى الأول ، وكل تحاكم إلى غير الله هو جاهلية ، كما قال تعالى ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .
وكما قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد : ( قال عمر بن الخطاب إنما تنقض عري الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه ، فانه إذا لم يعرف الجاهلية ، وحكمها ، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول ، فانه من الجاهلية ، فإنها منسوبة إلى الجهل ، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين ، ولم تستبن له ، أوشك أن يظن في بعض سبيلهم ، أنها من سبيل المؤمنين ، كما وقع فى هذه الأمة ، من أمور كثيرة في باب الاعتقاد ، والعلم ، والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل ، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ) .
والنظام الدولي الحالي نظام جاهلي ، وهو مع كونه جاهليا ، فقد وضع محكما ليؤدي إلى جعل السبيل للكافرين على المؤمنين ، لايشك في ذلك موحد تيقن توحيد الأنبياء والمرسلين.
وحينئذ فالاحتكام إليه واعتباره أصلا تبنى عليه المعاهدات ، احتكام إلى الجاهلية ، ولا نعني هنا حكم التعاهد مع أهل الجاهلية ، بل نعني جعل أصل التعاهد معهم مبنيا على نظام جاهلي ، وهو القانون الدولي المعتبر في النظام الدولي .
الأمر الثاني :
ـــــــــــــــــــــ
أن لا يجوز لعلماء الشريعة أن يفتوا بشرعية معاهدة عاهد بها حاكم مسلم ـ يتحاكم إلى الشريعة ويجعلها أصلا لكل أحكامه ـ عاهد بها هذا الحاكم أهل الكفر، إلا بعد أن أربع خطوات :
1ـ أن يشاهدوا المعاهدة كاملة بجميع شروطها وبنودها التي ستكون عند الطرفين الدولة المسلمة ، والكفار ، وإلا كانت شهادتهم على شرعية المعاهدة شهادة زور قطعا ، وكل من شهد بما يجهله فهو شاهد زور .
2ـ أن يتيقنوا أنها لاتتضمن بنودا سرية ، ولا يحل للحاكم أن يقول لهم ثمة بنود سرية لايمكن إطلاعكم عليها، لايحل هذا بحال ، لاحتمال أن تتضمن شروطا لا يقرها الشرع .
3 ـ أن لا يجدوا فيها مخالفة لشريعة الله تعالى في صغير ولا كبير ، ومن ذلك أن تتضمن هدنة مؤبدة أو ما يقتضي ذلك ، فإن وجدت كذلك ، طلبوا تغييرها وعرضها مرة أخرى بعد التبديل لكل ما فيها مما يخالف الشريعة العلية.
4ـ أن يشترطوا عليه أنه إذا وجد في الواقع ما يخالف ما في هذه المعاهدة ، انه يحق لهم مساءلته ، ويُحفظ حقهم في مراقبة استمرار صحة هذه المعاهدة شرعا وفق الشروط الشرعية التي وضعوها ، كما يحفظ حقهم في إظهار النكير فيما لو حصل في واقع الحال خلاف ما عوهد عليه الكفار ، لإبراء ذمتهم أمام الله ثم المسلمين .
ويجب عليهم أن يظهروا له ، أنهم لن يفتوا بشرعية هذه المعاهدات ، إلا وفق هذه الخطوات ، وعليه إن أبى الانصياع لهذه الشروط ، أن يمضي في معاهداته ـ بسخط الله ـ عريّة عن حكم الشريعة ، بهذا تبرأ ذمة العلماء ، أن يقولوا على الله مالا يعلمون .
والعجب أن الكفار أنفسهم يطالبون ـ في الظاهر ـ اليوم أنظمتنا الحاكمة أن تسمح للشعوب بالمشاركة في الحكم ، وأن تراقب أداء الدولة ، وأن الدول الكافرة نفسها ، تعطي لشعوبها الحق في أن تراقب التزام حكامهم بمعاهداتهم ، وتعرضها بلا خفاء على مجالس (البرلمان) لديهم ، ويناقشون ما فيها من صغير وكبير ، ويتأكدون من موافقتها لقوانينهم ، وإذا حادت الدولة في التطبيق ردوها إلى الصواب، وقسروها عليه !!، بينما نحن لايتجرأ العلماء أن يطلبوا النظر إلى المعاهدات التي تعقدها الدولة مع الكفار.
فكأن واقع حالنا ، أن الزعيم هنا في بلادنا يقول : إنني قد أبرمت معاهدة مع الكفار ، فأفتوا بجوازها ولزوم احترامها على الرعيّة .
فيقول البعض : فهي إذن يا مولانا معاهدة شرعية ، واجبة الاتباع على كل الرعية ، ولا حاجة لنا أن نراها ، ولا حاجة لنا أن نسأل عن موافقة ما فيها من شروط للشريعة ، و لاحاجة أيضا أن نتأكد من عدم الحياد عن الشريعة في تطبيقها في الواقع ، بل هي معاهدة شرعية لان هذا ما يريده مولانا فله ما يريد !!! .
فهذه والله المصيبة العظمى ، والباقعة الكبرى ، أعني أن يصل الحال بعلماء الشريعة أن تهون عليهم أنفسهم ، وتهون عليهم شريعة ربهم إلى هذه الدرجة ، حتى تصبح كم يقال ( توقيع على بياض ) ، فإلى الله المشتكى مما آلت إليه حال هذه الشريعة العلية ، وعلماءها .
الثالث من الأمور التي يجب أن تستصحب قبل الكلام على المعاهدات الدولية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــ
أن الحاكم إذا لم يكن حاله أنه يجعل الشريعة الإسلامية أصلا يرجع إليه ، ويتحاكم إليه تحاكما مطلقا فيما يعاهد عليه الكفار ، وإنما يأتي بعدما يبرم المعاهدات مع الكفار على أهواءهم التي يراعون فيها قوانينهم ، ويحققون أطماعهم ، ويريد بعد ذلك من علماء الشريعة ، أن يضعوا توقيع رب السموات والأرض رب العالمين ، على أحكام الجاهلية ، وأهواء الكفار ، فإنه لا يوافقه على هذه الجريمة ، إلا من هو من أعظم المعينين على الظلم والفساد في الأرض ، الساعين إلى تمكين الكفار من استعلاءهم بجاهليتهم ، ومن فعل ذلك فهو ممن يشتري بآيات الله ثمنا قليلا ، فليس له عند الله من خلاق .
الرابع :
ــــــــــــ
أن السياسة العالمية اليوم ، قائمة ـ كما هو معلوم في علوم السياسة المعاصرة ـ على أن العلاقات الدولية أساسها مبدأ واحد هو الصديق والعدو ، غير أن تفسيرها لديهم ليس كما يظن الظان من ظاهر هاذين اللفظين .
بل هو كما جاء في كتاب مدخل إلى العلوم السياسية : ( الأصل لدى كل مجتمع سياسي أن إطاره الجغرافي يمثل بالنسبة لاصحابة ( دار السلام ) وأن ما وراءه ( دار حرب ) ومن ثم فإن الأصل في الأجنبي أنه عدو مالم تقتض مصلحة المجتمع الوطني مهادنته ، وانطلاقا من هذا تعتبر العلاقات الدولية علاقات قوى قوامها العداء والارتياب والتشكك .)) .
قلت : وقد تستغرب من أن تقول كتب السياسة المعاصرة هذا القول ، الذي يشبه إلى حد كبير قول الفقهاء بتقسيم الدور إلى دار الإسلام ودار الحرب ، وأن الأصل في الكفار أنهم أهل حرب ، ولكن الأمـر كذلك كما يذكر في كتب السياسة الدولية المعاصرة ، كما ذكرت ، وهو كذلك في واقع الحال ، من وراء ستار الشعارات الزائفة ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ثم جاء في كتاب مدخل إلى العلوم السياسية ( وهكذا فإن ارتباط مفهوم (العدو) ، بالسياسة حقيقة ثابتة ، فلا سياسة دولية من غير ( عدو ) ـ إن العداء ـ في العلاقات بين الدول هو الأصل ، وما السلام إلا مجرد مهادنة يقتضيها العداء ذاته .
وهنا يتعيّن التنبيه إلى أن للعداء في السياسة معيارا ، ليس هو معيار ( العداء ) في الأخلاق أو في الاقتصاد ، ذلك أن لعالم السياسة معاييره الخاصة به ، فليس من الضروري أن يكون ( العدو السياسي ) شريرا أو قبيحا على وفق المعايير الأخلاقية أو الجمالية ، أو أن يكون منافسا على مقتضى المعايير الاقتصادية .
وإنما العدو في عالم العلاقات الدولية هو ( الغير ) ، وهو ( الأجنبي ) ، إنه كل من ليس منا ، ومن ثم نخاف على وجودنا الذاتي منه ، وهو خوف يستدعي صراعنا الدائم معه ، إنه عداء دائم بدوام حرصنا على استمرار كياننا الذاتي ، ومن هنا ترتبط ذاتية المجتمع السياسي بقدرته الفعلية على تقرير علاقاته الخارجية عداء ومهادنة ، فالمجتمع الذي تفرض عليه العداوة والمداهنة من خارجه ليس مجتمعا مستقلا ) .
ثم قال ( وهكذا فإن العلاقات الدولية هي ـ بالضرورة على طول تاريخها ـ علاقات بين الأعداء ، اللهم إلا ما يقتضيه العداء ذاته من مهادنة ليست البتة من طبيعة هذه العلاقات ، وما فكرة المجتمع البشري العالمي المتخلص من أسباب التصادم ، ومن ثَمّ الذي ينعم بالسلام العالمي ، إلا من نسج الخيال البحت ، إن السلام ـ كالمحبة ـ قيمة أخلاقية جمالية لامكان لها في الواقع الدولي ) مدخل إلى العلوم السياسية 317ـ 318، المؤلفان أ.د. محمد طه بدوي ، وأ. د. ليلى أمين مرسي ، الناشر منشأة المعارف بالإسكندرية .
ولعمري إن هذا كله حق وصواب ، ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين بإعداد القوة ، لبقاء التحفز للعدو ، ولهذا أيضا حذّر من عداوة الكفار للمسلمين ، وأخبـــر أنها مستمرة ، كما قال تعالى : ( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ) ، وأطلق على عداوتهم في مواضع كثيرة في القرآن أنها كيد ، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنهم يسلكون سبلا خفية للمكر بهذا الدين ، وهو كما نرى هذه الأيام ، مزاعمهم عن السلام العالمي ، بينما هم يمكرون لهذا الدين . ولهذا امر الله تعالى بجهاد الطب ، وكان الذين أنكروه من المتفقهين المعاصرين جهلاء بواقع الامر في السياسة العالمية .
ولهذا أيضا صرح فقهاء الشريعة الإسلامية في باب الهدنة ، انه لا يصح للحاكم أن يهادن الكفار هدنة أبديّة ، وهذا حكم متفق عليه بين المذاهب ، لان الهدنة الأبدية تفضي إلى تعطيل الجهاد ، وأيضا فإنه حينئذ جهل بواقع السياسة الدولية ، لا يجوز أن يتصف به الحاكم المسلم .
والمقصود من هذا كله ، أنه إذا كان واقع السياسة الدولية ما ذكر، من أنه عداء مستمر في حقيقته وإن أظهر خلاف ذلك ، ومعلوم أن الدول الغربية المستعلية بجاهليتها في هذا العصر ، تريد تحقيق هدف الهيمنة على بلاد الإسلام ، وأنها تستغل المعاهدات ، ووجودها الفعلي بسبب هذه المعاهدات ، في بلاد الإسلام ، لتكون قريبة من أماكن أطماعها ، لتنفيذ مخططاتها الخبيثة .
إذا كان ذلك كذلك ، فيجب أن يعلم أن المعاهدات التي توقعها الدولة مع الكفار ، لن تكون شرعية بحال ، إن كانت الدولة الكافرة ، ماكرة بهذا الدين ،معادية لاهله ، مستغلة وجودها على أرض الدولة التي تعاهدها ، لخدمة مراكزها الاستخباراتيه ، جاعلة سفارتها ، ومؤسساتها التابعة لها ، وقواعدها في خدمة أنشطة التجسس التي تغذي استعلاءها بالقوة ، الذي هو استعلاء للكفار في الأرض ، وتمكين لهم من ظهور كفرهم واحكامهم الطاغوتية ، ومن يفتي بأن شريعة رب العالمين ، الآمرة بجهاد الكفار والمشركين ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، أن هذه الشريعة تقر هذا الكفر و الإفك المبين ، فذلك والله الذي لا إله إلا هو ، إعانة على هدم دين الإسلام من أصله .
إذا علم هذا ، فليعلم السائل أن الواقع السياسي للعالم الإسلامي اليوم ، إنما هــو بقية آثار من تداعيات سبقت في القرن الماضي، عندما كانت البلاد الإسلامية تحت الاحتلال الصليبي السابق ، وقد فرض قبل رحيله أوضاعا تخدم مستقبل مصالحه في المنطقة كلها ، ومن ذلك تنحية الشريعة الإسلامية عن أن تكون مهيمنة بأحكامها على الدول ، خوفا من أن تكون المعاهدات بين تلك الدول والعدو الصليبي ، لاتخدم أطماعه فيما لو كانت المعاهدات مبنية على أحكام الشريعة الإسلامية وشروطها الصارمة لاسيما في اشتراط النظر لصالح الاسلام والمسلمين باعتبارهم أمة واحدة في الارض كلها.
ومن هنا فقد وقعت هذه الاشكالات التي نراها اليوم ، وفيها هذا التناقض الهائل بين واقع تصرف الكفار في بلاد الإسلام ، مع ادعاء الدول التي توقع مع الكفار هذه المعاهدات : من أن تصرف الكفار ، هو وفق معاهدات يجب احترامها ، وبين ما هو في كتب الفقه الإسلامي من شروط شرعية تعدها الشريعة أساسا لصحة المعاهدات الدولية ، فإن خلت منها هذه المعاهدات كانت باطلة غير ملزمة .
وحينئذ فإنه من الظلم المبين أن تُُضفى على هذا الوضع المعوج ، القائم في اصله على غير الأحكام الإلهية الشرعية المستقاة من الوحي ، الذي جاء فيه ( وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين ) ، أن تُُضفى عليه الصبغة الشرعية ، من قبل من لاعلم له بواقع الحال، وإنما طلب منه أن يضع توقيع الشريعة على ما يجهله ، فبادر إلى ذلك راغبا أو راهبا ، فجنى على شريعة رب العالمين ، وسيحكم فيه رب العالمين ، ملك يوم الدين ، يوم يجمع العالمين .
فهذه مقدمة رأيت أنه من المناسب ذكرها .
وأذكر فما يلي ، جوابين سابقين عن ضابط الحكم على الشخص بأنه من الخوارج ، وحكم المعاهدة مع الكفار وبهما يتم الجواب إن شاء الله :
ثمة فرق بين الخوارج ، والبغاة على الإمام الشرعي بغير تأويل ، والبغاة عليه بتأويل ، والخارجين على من لاإمامة له . فهذه أربعة أصناف :
الخوارج :
وهم فرقة عقدية ، لها اعتقادات ضالة ترجع إليها ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله :
) وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب , ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب , ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب - وإن كانت متواترة - ويكفرون من خالفهم ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم { يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان } ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما ; وكفروا أهل صفين - الطائفتين - في نحو ذلك من المقالات الخبيثة ) انتهى .
فمن اعتقد ما يعتقدون كان خارجيا ، ومن كانت فيه شعبة من عقيدتهم ، يقال : وافقهم في بعض قولهم ، والناس مولعون هذه الأيام بنسبة المخالفين إلى الفرق الضالة ، إمعانا في التنفير منهم ، اتباعا لاهواء التحزبات والتعصبات للجماعات والشيوخ ، فكل طائفة تريد أن تظهر فضلها على غيرها ، فيحملها ذلك إلى البغي والعدوان والظلم على الطائفة الأخرى بنسبتها إلى الفرق الضالة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
القسم الثاني :
وهم البغاة بتأويل ، مثل ما حدث في صفين ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين " الخوارج المارقين " وبين " أهل الجمل وصفين " وغير أهل الجمل وصفين . ممن يعد من البغاة المتأولين . وهذا هو المعروف عن الصحابة وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم : من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم . وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق } وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا من جنس أولئك ; فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية ) . انتهى
ومعلوم أنه قد صح الحديث ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ) رواه البخاري من حديث أبي سعيد ، وتلك كانت فئة معاوية رضي الله عنه وأرضاه ،ولكن قد مضى الإجماع على عدالة الصحابة رضي الله عنهم ، فإذن هو بغي بتأويل .
ومثل الذين يخرجون على الإمام الشرعي لشبه قامت لديهم ، ولهذا قال الفقهاء لا يجوز أن يقاتلهم الإمام إلا بعد أن يراسلهم فإن ذكروا شبهة أوضحها ، أو منكرا نقموه أزاله ، فإن أبوا الدخول في الطاعة قاتلهم.
كما قال الإمام ابن قدامه في المغني : ( الخارجون عن قبضة الإمام أصناف ، أحدها : قوم امتنعوا وخرجوا عن طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء قطاع طريق ساعون في الأرض بالفساد يأتي حكمهم في باب مفرد ، ثم ذكر الخوارج وقال : الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم ، ثم ذكر اختلاف الفقهاء هل هم كفار ويقاتلون قتال الكفار لهم أحكامهم ، أم يقاتلون قتال البغاة ولهم أحكام قتال البغاة ، ثم ذكر نوعا آخر ، فقال : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيوش فهؤلاء الذين نذكر في هذا الباب حكمهم ثم ذكر جملة أحكامهم وقال : ولا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم من يسألهم ويكشف لهم الصواب ، إلا أن يخاف كلبهم ( يعني عدوانهم ) فلايمكن ذلك في حقهم ، فأما إن أمكن تعريفهم عرفهم ذلك ، وأزال ما يذكرونه من المظالم وأزال حججهم ، فإن لجّوا قاتلهم حينئذ لان الله تعالى بدأ بالأمر بالإصلاح قبل القتال ) انتهى .
ثم ذكر اتفاق العلماء على انهم لا يتبع لهم مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل لهم أسير ، ولا يغنم لهم مال ، ولا تسبى لهم ذرية ، وأن من قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه ، وذكر شيخ الإسلام أن عدالتهم لاتسقط إن كان بغيهم بتأويل .
والمقصود أن الفرق بين الخوارج والبغاة على الإمام الواجب الطاعة ، فرق كبير جدا ، وإن كان يخلط بينهما من يخلط لجهله أو طمعا في موافقة السلطان في هواه بالظلم والطغيان والخروج على أحكام الشرعية نسأل الله تعالى أن يعافينا من الأهواء .
والقسم الثالث البغاة بغير تأويل .
أما القسم الرابع :
ـ فهم الذين يخرجون على من لا إمامة له لظهور الكفر البواح منه ، فهؤلاء قد يصيبون من جهة اجتهادهم في القدرة والوقت المناسب لإزاحة من لا تحل إمامته على المسلمين ، فينصرون ، ويكون لهم بذلك أجر عظيم ، إذ كانت إزالة الكفر البواح من أعظم الجهاد ، ومن إنكار المنكر ، وقمع الفساد في الأرض . ،.
وقد يخطئون فيحبس عنهم النصر وتدور الدائرة عليهم ، فإن أخطأوا فهم من جنس من يخطئ من المجاهدين ، إن علم الله منهم اتباع الهوى ، وطلب الملك ، والجنوح إلى الانتقام لأنفسهم ، فعليهم من الله تعالى ما يستحقه أمثالهم ممن يطلب الدنيا بالدين من أهل الأهواء .
وإن علم الله منهم أنهم اجتهدوا يبتغون وجه الله ، فالله تعالى يغفر لهم خطأهم، ويثيب على حسن قصدهم ، وما بذلوه في نصر الدين ، والله يعلم المفسد من المصلح .
أما من يقاتل الكفار ، ثم قد يتجاوز حدود الشريعة ، أو يعتدي في القتل ، أو يصيب من لا يحل قتله ، فهذا من جنس العدوان في القتال ، كما قال تعالى ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) ، وكما حصل لخالد بن الوليد رضي الله عنه ، فقد أصاب دماء محرمة في فتح مكة ، وتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ، مع أنه سماه سيفا من سيوف الله تعالى . وبسبب أن القتال الذي يحدوه الغضب ، ويجلله العنف البالغ، هو مظنة الوقوع في العدوان ، قال تعالى ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) .
والواجب على المجاهد ، أن يغلّب النظر الشرعي على غضبه ، ويراعي حدود الشريعة في قتاله ، وينضبط بدلالة النصوص ، ولا يحمله حنقه على عدوه ، ورغبته في الانتقام منه ، في التساهل في اختيار مواضع القتال المشروع ، وتميزها عن غيرها .
وإلاّ يفعل ذلك فقد تقع فتنة وفساد ، وقد يرتد عليه ضرر القتال ، أو على المسلمين ، أكثر مما ينكى في عدوه ، ومعلوم أن كثيرا من خيار المجاهدين في تاريخ الإسلام ، خسروا في معارك كثيرة ، وأصاب المسلمين من ذلك شر ، بسبب سوء تقديرهم للمواقف ، أو استعجالهم الورود بالجند في مواضع لا تصلح ، أو إلى عدو لاطاقة لهم به ونحو ذلك والله أعلم .
وهذه هي الفتوى الثانية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد : ـ
قال الإمام ابن قدامة في المغني ) : إذا ثبت هذا فإنه لاتجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير مدة ، لانه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية ) 8/469
وقال : ( لانه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ، ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين ، إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم ، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم ، أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة أو غير ذلك من المصالح ) المصدر نفسه
وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز مهادنة الكفار أبدا ، أي وضع القتال معهم أبدا ، لان ذلك يقتضي تعطيل الجهاد ، وهو ذروة سنام الإسلام ، وفي تعطيله إعانة على هدم الدين ، وإذلال المسلمين .
كما اتفقوا على أن العهد المعتبر شرعا هو الذي يكون مبنيا على النظر للمسلمين ، أما إن كان مبنيا على النظر للكافرين ، أو تحقيق أطماعهم وأهدافهم ، فلا يصح ولا يعتبر ، وهو باطل شرعا ، إذ كيف تكون أحكام الشريعة منوطة بتحقيق أهداف الكفار في بلاد المسلمين ، وهي في الحقيقة أهداف الطاغوت الذي أمرنا بالكفر به ومجاهدته ، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم .
وينبغي أن يعلم أن العهد مع الكفار إنما يعتبر شرعا إن وافق أحكام الشريعة وانطلق منها ، ولم يتضمن شروطا تبطل العقد ، وقد قسم العلماء شروط عقد الهدنة إلى قسمين : صحيح مثل أن يشترط عليهم مالا ، أو معونة المسلمين عند الحاجة إليهم ، والثاني شرط فاسد قال ابن قدامة : (مثل أن يشترط رد سلاحهم أو إعطائهم شيئا من سلاحنا ، أو من آلات الحرب ، أو يشترط لهم مالا في موضع لا يجوز بذله ) .
وبهذا يعلم أن العهد إن كان مبنيا على غير أحكام الشريعة ، أولم ينظر فيه إلى مصالح المسلمين ، بل وضعه الكفار بحيث يحقق أطماعهم ، وتضمن اشتراط الكفار إعانة المسلمين لهم على قتال مسلمين ، أو تمكينهم في أرض المسلمين ، أو حماية أعداء الإسلام من بأس المسلمين ، أو تعطيل الجهاد ، أو ملاحقة وقتل المجاهدين ، أو إقرار الولاء للكافرين ، أو السماح للكافرين أن يفعلوا ما شاءوا في بلاد المسلمين ، ظاهرين بأمرهم ، ينتهكون ما حرم الله ، ويجاهرون بالكفر والمنكرات، أنه لايفتي باعتبار هذا العهد ـ حتى لو كان الذي عقده مع الكفار عقده على أساس الشريعة فكيف لو لم يكن مقرا بوجوب التحاكم إليها في كل شيء أصلا ـ ألا من هو جاهل بشريعة الله القائل ( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله ... الآية ) والقائل سبحانه ) ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) . [/align]
المفضلات