[ALIGN=CENTER]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الفلوجة

مدينـة المـســـــاجد والمـقــــــــاومــــة



مدينة الجوامع والمقاومة مدينة المساجد يفضل أهلها الموت على الخضوع للأجنبي، والدين وعادات القبيلة محرك الثورة فيها. "ارفع رأسك إنك من أهل الفلوجة".. "سلاحك شرفك.. لا تلقي شرفك".. "مدينتنا مدينة الجوامع والمساجد، وجهادنا في سبيل الله والإسلام لا في سبيل الأشخاص".. "قائدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا صدام".. "صدام طاغية لكنه أفضل ألف مرة من قوات الغزو الكافرة".. "قتلنا الأمريكان وسنقتلهم، ولن نتركهم يهدؤون في العراق".. "ذبحناهم ذبحا، وأذقناهم الويل، وأخرجناهم من مدينتنا الطاهرة بالقوة".. "من جاء بلدك بالقوة لن يخرج منه بغير القوة".



هذه بعض الكلمات، التي قرأتها مكتوبة على جدران الفلوجة، أو سمعتها من أهلها، وأنا أتأمل الوجوه والأشياء والأماكن، وأحاول أن أفهم سر شهرة هذه المدينة، التي ملأت أرجاء الأرض قاطبة، وسر عنادها وصمودها في وجه قوات الاحتلال، وسر خوف الأمريكان منها، وارتعاش أطراف جنودهم، كلما ذكر اسم هذه المدينة، التي وصفها صحفي عراقي بارع بأنها "منطقة ملتهبة.. نقطة ساخنة.. بقعة حمراء، على خارطة رمادية"، هي خارطة العراق .



مدينة الجوامع ثائرة على الغزاة تنام الفلوجة بين أحضان الفرات، بل لعلها تضمه بحنان إلى قلبها.. وتضعه بين حنايا الضلوع.. هذا هو النهر، الذي يحمل اسما شهيرا، يعرفه كل عربي، من المحيط إلى الخليج، منذ الفطام، ويحلم سائر العرب بالشرب من مائه، حتى لا يظمأ الواحد منهم بعد ذلك أبدا.. هذا هو النهر، الذي شرب منه الشعراء والأمراء والعظماء، منذ آلاف السنين، وخلده الشعر: ديوان العرب، في آلاف من القصائد، التي لا تعرف النهاية، على مر الدول والعصور والأجيال .



يقسم الفرات الفلوجة إلى نصفين.. نصف يطلق عليه أهلها اسم المدينة، ويطلقون على النصف الثاني اسم القرية، ويربط بينهما جسران.. الجسر القديم، وبني في العام 1929، والجسر الجديد، أو جسر الوحدة، الذي يذكر لك كثير من أهل الفلوجة، حتى الأطفال وطلاب المدارس، متى أسس، ويتفقون على أنه أسس في العام 1965، ويذكرون لك من ساهم من الحكام العرب في تأسيسه، ومن صلى في الجامع الكبير من الزعماء العرب.



أهل الفلوجة كما يقول الشيخ زين الدين القاضي، شقيق الضابط صلاح القاضي، الذي عرّفه لي الأهالي بأنه من أشهر الضباط في تاريخ الجيش العراقي،هم عرب أقحاح محافظون مترابطون، الدين هو الحاكم الأول في حياتهم.. خصوماتهم يحلها الأئمة وعلماء الدين، ونادرا ما يلجؤون إلى المحاكم. ويعيش أغلب أهلها على الزراعة في البساتين القريبة التي يرويها الفرات، أو بالعمل في المعامل والمصانع القريبة منها، أو ينتشرون في سائر محافظات العراق، يعملون في تخصصات متنوعة. وتسكن الفلوجة عشائر البوعلوان والجبور والمحامدة والجميلية والبوعيسى، وتنتشر منها في سائر النواحي والأقضية، ويمتد بعضها حتى سورية والأردن وتركيا والسعودية.



ويضيف الشيخ القاضي، وهو من كبار وجهاء الفلوجة، واصفا أهلها بأنهم أناس طيبون، ومتدينون بعمق، لا يقبلون الأجنبي إذا جاء إليهم غازيا، ولو على رقابهم، مشددا على أن هذا ليس مجرد كلمات، بل حقائق يعيشها أهل الفلوجة بعمق وبساطة. ويستطرد محدثنا قائلا إن المدينة، التي تضم نحو 300 ألف نسمة، تحتضن بحنو ورفق بين أطرافها أكثر من 180 جامعا، وهو ما أميل إلى تصديقه. لكني قرأت في مصادر لم أستطع التأكد من مدى صحتها، وسمعت من بعض أهل الفلوجة ما يؤيدها، أن سكان المدينة يقدرون بنحو 700 ألف نسمة، وفيها ما بين 400 إلى 500 مسجد وجامع، وربما يكون سبب الاختلاف بين الروايتين اقتصار إحداها على المدينة في تعداد الأنفس والمساجد، وتوسيع الأخرى التعداد حتى يشمل الأقضية والنواحي التابعة للفلوجة. ويقول المهندس محمد العلواني، وهو رجل يقترب من الخمسين، إن أهالي الفلوجة متدينون ومثقفون، وينتشر بينهم أصحاب الشهادات العليا بكثافة، قد تفوق مناطق كثيرة في العراق والعالم، مؤكدا أن الدين هو الحاكم الفيصل في سلوك أهل المدينة، وأنه سبب جرأة أهلها وقدرتهم على تكبيد قوات الاحتلال خسائر لا تحصى، مشددا على أن المساجد والجوامع، التي جال بنا في عدد منها، وذكر لنا تاريخ تأسيس كل منها، هي روح الفلوجة، وهي التي تصبغ المدينة بصبغتها، حتى باتت تسمى مدينة الجوامع.



ويفخر المهندس العلواني بأن الدرجات العلمية لأكثر شباب الفلوجة تفوق بكثير الدرجات العلمية لسائر الجنود والضباط الأمريكيين، الذين يحاولون إخضاع المدينة الثائرة. ويسر لي المهندس الكهل، الذي بدا لي أكبر من عمره، الذي ذكره لي، بأنه واجه العديد من الضباط والجنود الأمريكان بالقول لهم إن عليهم أن يتعاملوا مع أهل الفلوجة بكل التقدير والاحترام، لأنهم يتفوقون عليهم في العلم والذوق والأدب.



جوامع الفلوجة ساحرة جميلة.. صوامعها تناجي السماء، وقبابها مزخرفة بأيد بارعة، ألوانها وأشكالها تأخذ بالألباب. أشهر جوامع الفلوجة الجامع الكبير، وأسسه الشيخ عبد العزيز السامرائي، في نحو عام 1899 على نهر الفرات، وتعتقل قوات الاحتلال إمامه، الذي دعا جهارا نهارا إلى الجهاد ضد الأمريكان. ويجل أهل الفلوجة الشيخ السامرائي، ويحتفون بذكراه، باعتباره أيضا مؤسس مدرسة الجامع الكبير، التي تخرج منها الكثير من علماء المدينة، وكثير من علماء الهند وباكستان ودول كثيرة، كما ذكر لي الأهالي.



ومن الجوامع الشهيرة جامع الخلفاء، وجامع أبي بكر الصديق، وجامع عمر بن الخطاب، وجامع عثمان بن عفان، وجامع علي بن أبي طالب، وجوامع أخرى كثيرة.. وأسماء الجوامع تكشف عن الانتماء المذهبي لأهل الفلوجة، فهم من أهل السنة والجماعة، وفيهم من يتطرف في محبة أهل السنة، والإشادة بهم، والتنكير على مخالفيهم.



وأشهر مطاعم الفلوجة مطعم زرزور، ومطعم البادية، ومطعم حجي حسين، وهي قريبة من بعضها البعض.. تقدم أطباقا لذيذة شهية، لكنها متشابهة، وأسعارها متشابهة أيضا، وأهمها الكباب، كما قال لي مرافقي. أدخلنا مضيفنا مطعم البادية، وكنت أميل بشكل غامض للأكل في مطعم زرزور، لأني جربت الأكل في فرعه في بغداد، والمرء يميل إلى ما يعرف، وينفر مما يجهل، دون معرفة الأسباب. لكن مطعم البادية لم يخذلنا، وقدم لنا طعاما لذيذا أكلناه بنهم، بعد جولة مطولة ومتعبة، لكنها كانت ممتعة، في أرجاء الفلوجة وأزقتها، وبين حواريها الجميلة .



والفلوجة خالية من مقرات الأحزاب. وأهلها ينظرون إلى مجلس الحكم المؤقت باعتباره مجلسا تابعا للأمريكيين، يخدم أعتاب الاحتلال. لكن ما لفت نظري هو وجود مقر فخم للحزب الإسلامي العراقي، الذي قيل لي مرات كثيرة في الفلوجة وخارجها، إنه بات يمثل مرجعية سياسية لأهل السنة في العراق، الذين باتوا يتخوفون من تنامي نفوذ الأحزاب المتطرفة في العراق، فمالوا لهذا الحزب، الذي يحاول أن يقف في منطقة وسط، تحت الخطوط الحمراء لقوات الاحتلال، وقريبا من نبض الشارع السني، معبرا عن أشواقه وتطلعاته كيف بدأت المقاومة؟



يذكر الشيخ زين الدين القاضي، وهو أحد اثنين مدّاني بمعلومات كثيرة عن الفلوجة، أن قوات الاحتلال، بعد سقوط بغداد، دخلت المدينة دون الكثير من القتال، مشيرا إلى أنها وضعت أيديها على مؤسسات الدولة الرسمية، وعلى مقرات حزب البعث الحاكم سابقا في العراق، وعلى سائر المدارس، ونشرت فيها قواتها، باعتبارها أماكن استراتيجية بالمنطق العسكري، للسيطرة على المدينة، والتحكم في سائر مجرياتها.



وأشار إلى أن ذلك آذى كثيرا أهالي المدينة المحافظين بطبعهم، فتطوع خيرون كثيرون من وجوه الفلوجة وقادة عشائرها ومثقفيها، كما قال، للحديث مع قوات الاحتلال، لإقناعها بالخروج بالحسنى من المدارس، التي تنتشر في معظم الأحياء، ويطل منها الجنود الأمريكان على بيوت الناس، ويهتكون ستر نسائهم، بحسب ما ذكر لنا.. لكن الأمريكان رفضوا ذلك بإصرار، مما جعل الأهالي يفكرون في الخيار العنيف لإخراجهم من المدينة.



ويتطوع شاب، متخصص في الترجمة إلى اللغة الفرنسية، عمره يناهز الثلاثين عاما، ليشرح لي الأمر بالقول "الأمريكان دخلوا بلدنا بالقوة.. كانوا يعمدون إلى إذلالنا.. قتلوا 13 وجرحوا 7، من خيرة شبابنا، في يوم واحد، حين طالبناهم، بشكل سلمي، بالخروج من مدينتنا، فلم يكن أمامنا سوى اللجوء إلى القوة، لأن من دخل بالقوة لا يمكن أن تخرجه من مدينتك إلا بالقوة، لأنه لا يفهم منطقا سواها".



الناس في شوارع الفلوجة وأزقتها، العامرة بكثير من الأوساخ والحفر ومياه المجاري، سوداء اللون، يجمعون على تأكيد هذه الرواية، حتى وإن اختلفوا في صياغتها، وفي طريقة التعبير عنها، لكنهم يؤكدون جميعا أن الأمريكان هم من خلق المقاومة، بجهلهم للطرق المناسبة للتعامل مع العراقيين عامة، وأهل الفلوجة خاصة. ويؤكدون لك بقول، يكاد يتطابق، أن ابن الفلوجة لا يقبل الضيم، وأن عادات الحشمة وخلق الدين والعشيرة، التي تميزه لا تجعله يقبل بالكافر الأجنبي يطلع على حرمات نسائه وبنات عشيرته أو حيه.

وقال لي أستاذ للغة العربية في المدينة، وهو كاتب وشاعر، كثيرا ما أسمعني، خلال الجولة، من عيون الشعر، مما يحفظ ومما ينظم، إنه يفضل الشهادة، وأن يجتز عنقه، أو يفصل رأسه عن جسده، على أن يقبل بأن ينتهك علج أمريكي كافر، كما يصف جنود الاحتلال، شرفه، أو يطلع على ستر نساء حيه أو مدينته، مشيرا إلى أن غرور القوة لدى الأمريكان وجهلهم بالعراقيين، هو الذي سيقودهم إلى حتفهم .



مما جمعته من معلومات، من مصادر مختلفة، بطرق متباينة، بتّ أميل إلى أن المقاومة في الفلوجة مقاومة لا ينتظمها هيكل محدد، فهي عمل تقوم به جماعات صغيرة مختلفة تنظيميا، قد تكون علاقات القرابة، أو علاقات الجيرة في الحي أو الشارع أو الزقاق، هي ما يربط أفرادها ببعض، لكن ثقافة تكاد تكون موحدة تجمع بين أطرافها، هي ثقافة الجهاد والمقاومة وحب الشهادة في سبيل الله ثم الوطن. وتحصل تلك المجموعات على السلاح بطرقها الخاصة.. أفرادها يعملون في النهار في مهن مختلفة، كثير منها مهن بسيطة، وينخرطون منذ بداية الغروب في المقاومة، لكن ثمة من الميسورين من تفرغ للمقاومة ليلا ونهارا، في حين تفرغ آخرون لتطوير السلاح وتصنيعه بوسائل محلية، استفادة من خبرتهم السابقة في القتال أو في التصنيع العسكري. أهل الفلوجة يحدثونك بإسهاب عن عمليات ناجحة للمقاومة ضد قوات الاحتلال.. الجميع يحدثونك وكأنهم أعضاء في المقاومة، أو كأنهم خبراء عسكريون متمرسون.. "في هذا المكان طحناهم طحنا".. "في هذا المثلث، بين الجسرين، أذقناهم الويل، وقطعنا رؤوس الكثيرين منهم".. "طائرات الشينوك الأمريكية المتطورة أسقطنا عددا كبيرا منها وتركنا (الرئيس الأمريكي جورج) بوش مذهولا".



هذه الكلمات، أو كلمات قريبة منها، سمعتها مرات ومرات في الفلوجة. وكان أكثر ما يجمع بين قائليها الشعور بالفخر والاعتزاز الكبير بما تحققه المقاومة من نتائج، والشعور بالرضا أن يكون المرء من أهل الفلوجة.. ألم أقرأ في أماكن عديدة مكتوبا على جدران المدينة "ارفع رأسك إنك من أهل الفلوجة".



سلاحك شرفك "سلاحك شرفك فلا تلقي شرفك".. "هبوا يا شباب العراق الشرفاء قاوموا الأمريكان".. "لا شرف بلا جهاد".. "عاش مجاهدو الفلوجة الأبطال الشرفاء".. شعارات كثيرة منتشرة في مدينة الفلوجة تقرن الجهاد والسلاح بالشرف.. فالغيرة على الشرف، وحب الشهادة طلبا للعزة والكرامة، ورفض الغرباء الغزاة، وهي مفاهيم دينية وقبلية في ذات الوقت، يمكن اعتبارها مفاتيح شخصية ابن الفلوجة، ويمكن من خلالها تفسير ثورة المدينة العارمة على المحتل، وإجماع أبنائها على المقاومة، كما يمكن من خلالها أيضا تفسير معاناة الاحتلال الأمريكي مع هذه المدينة الصغيرة الثائرة.



كان اللقاء بمقاومين في الفلوجة أحد أهم أهدافي من زيارة المدينة.. كنت أريد أن أتحدث إليهم من دون واسطة، وأسمع منهم، وأسألهم عن أشياء كثيرة تدور في خاطري، لكن من يثق في صحفي جاء من بلد بعيد.. قواته شريكة في احتلال العراق. كنت أتفرس الوجوه، وأحاول أن أخمن إن كان محدثي من المقاومة أم مجرد ناقل خبر من أخبارها، تختلط لديه الحقيقة بالوهم، وتحجب لديه المبالغة وجه الحقيقة. كنت أجمع المعلومات، وأسمع الكلمات، وأدونها في دفتر كان بيدي، حتى انقضى النهار.. غربت الشمس، وكانت أضواء المدينة خافتة ضعيفة، بالكاد تسمح لي برؤية الزقاق، وتبصرني بمسارات المجاري والحفر الكبيرة، حتى لا أقع فيها. وفي أزقة معينة يختفي نور الكهرباء تماما، وتتشابه الوجوه، ولا يستطيع المرء "تمييز وجه صديقه من عدوه".. في واحد من تلك الأزقة شعرت بيد تحط بحنو على كتفي، وقال صاحبها: - السلام عليكم ورحمة الله. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. - الأخ صحفي. - نعم صحفي. - أنا مصطفى من المقاومة. - يا مرحبا.. يا مرحبا.. كنت أبحث عنكم طيلة النهار، وجئتني عندما أسدل الليل ستاره. - أعذرنا فنحن في ظرف احتلال وملاحقات أمنية لا تهدأ. كانت هكذا البداية.. وغرقنا في حديث مطول عن المقاومة والإعلام وعن العمليات والأمريكان.. "نقتل مائة منهم كل شهر في الفلوجة ودوائرها على أقل تقدير".. "قتلنا منهم في عملية 10 جنود، فأعلنوا أن واحدا من جنودهم جرح.. لقد أحصى المجاهدون القتلى وسلبوا سلاحهم، لكن قوات الاحتلال أعلنت عن جرح أمريكي واحد".. "الأمريكان كذابون".. "الأمريكان يرمون جثث جنودهم في الأنهار، أو يلقونهم في الصحراء حتى تأكلهم الذئاب والجوارح للتخلص منه، بعيدا عن الإعلام".. هكذا قال لي مصطفى بكل ثقة. لم أصدق الأمر.. كان أكبر من أن أصدقه، لكن مصطفى أدرك ما يجول بخاطري فقال "قد لا تصدق ما أقوله لك، لكن يمكنني أن أوفر لك بعض الصور في وقت لاحق.. بل يمكن أن آخذك إلى بحيرة الثرثار، ويمكن أن تشاهد بنفسك بعض بقايا جثث الأمريكان، وقد بدأت تتحلل.. هم يرمون جنودهم في الوديان ومقالع الرمل والحصى أو في بحيرة الثرثار".



وذكر أسماء مواقع كثيرة توجد فيها جثث للجنود الأمريكان، لكنها غابت الآن عن ذاكرتي، إذ كان الظلام لا يسمح لي بتسجيل كل ما أسمعه على ورق. قال مصطفى إن ما يعلن الأمريكان عن قتله أو جرحه من قواتهم إنما هم الجنود الحاصلون على الجنسية الأمريكية، أما الذين لم يحصلوا عليها بعد، فيرمونهم في أماكن مختلفة، حتى صار الناس، في أماكن ذكرها لي ونسيتها الآن، يضجرون من روائح الجثث المرمية.. قال إنهم يرمون الجثث بالطائرات، أو يفرغونها من العربات في أكياس، دون أن يدفنوها، ويولون هاربين. وذكر أن أهالي بعض المناطق، حين اكتشفوا جثث العشرات من الجنود، ذهبوا للأمريكان لإعلامهم بما عثروا عليه، لكن قوات الاحتلال أنكرت أن تكون الجثث عائدة لجنودها. ومضى مصطفى يقول معددا عمليات المقاومة "في منطقة القرطاسي سرية بأكملها أبدناها.. نصبنا لها كمينا وأبدنا كل من فيها". ويضيف "أسقطنا 8 مروحيات على الأقل، منها طائرة نقل ضمت أكثر من 60 جنديا كانوا في عطلة، وقد قتلناهم جميعا، لكن الأمريكان اعترفوا بمقتل 15 جنديا فقط". وأضاف "نقتل ما لا يقل عن مائة جندي في الشهر". "معسكرات الأمريكان في الحبانية وفي معسكر طارق وقرب مصنع العامر، أو صدامية الفلوجة (بحسب ما أذكر) نرجمها كل يوم بالهاونات وبالصواريخ فنقتل من نقتل منهم، وننغص حياة الباقين".



ويتحدث مصطفى عن عملية نوعية، وقعت قبل نحو شهر، واصفا إياها بـ"الكارثة" على قوات الاحتلال. قال إن عدد القتلى الأمريكان فيها تجاوز الـ400 قتيل، وأشار إلى أن المقاومة استخدمت فيها أسلحة نوعية، وقد شعرتُ من حديثه عن الأسلحة النوعية بأنه يلمح إلى أن المقاومة استخدمت فيها أسلحة، قد تكون كيمياوية، وحين سألته عن ذلك رفض النفي أو التأكيد، وتركني أسبح في أوهامي وخيالاتي.



ويفخر مصطفى بأن المقاومة نجحت في إخراج قوات الاحتلال من مدينة الفلوجة، وأنها حصرتهم في معسكرات على أطرافها، تتعرض للقصف باستمرار، كما قال. وأضاف "جاؤوا لفرض حظر التجول على المدينة، ففرضناه عليهم، وسنخرجهم من العراق بأسره بالقوة"..



كانت تلك من آخر الكلمات، التي سمعتها من مصطفى، لكني سمعتها عشرات المرات من آخرين قبله. ودّعت الرجل الذي صافحني بيد خشنة، وسلكت طريق العودة، بعد أن سمعت انفجارا قويا لم أتبين كنهه.. فلعل المقاومة بدأت عملها، وطريق العودة إلى بغداد بات محفوفا بالمخاطر، من قنابل المقاومة على جنبات الطريق، ومن رصاص الأمريكان الطائش الهائج، لكنني اخترت مهنة المتاعب، وآن لي أن أتمتع بما في المغامرة من مشاعر متناقضة، من جرأة وخوف، وحب فطري للسلامة، وحب فطري لمعرفة المجهول.. وصلت بغداد وقد تقدم الليل.. مروحيات تجوب السماء، وطلقات رصاص ثقيل، وتفجيرات، تسمع من مكان بعيد، كانت تهدهدني، فنمت على أنغامها نوما عميقا.

صحفي اعلامي مسلم


أنا المسلم


[sound]http://www.lanaa.com/sounds/forsan/FALUGAH.RA[/sound]


[/ALIGN]