أموون و ابي الاجر
====== منقول ======
قصة أم سلمة رضي الله عنها
ووقفتنا لهذا اليوم مع امرأة أخرى من النساء العظيمات في تاريخنا المجيد، وهي أم المؤمنين أم سلمة - هند بنت أبي أمية - رضي الله عنها، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وسميت بأم سلمة نسبة إلى ولدها سلمة. وزوجها مشهور في التاريخ، وهو عبدالله بن عبد الأسد، وأمّه برّة بنت عبدالمطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم.. فهي إذ تنحدر من أسرة شريفة عظيمة في مكة.
وقد آمنت أم سلمة مع زوجها بالنبي صلى الله عليه وسلم حينما بلغتهما رسالته، وبعد أن اشتد الأذى على المسلمين أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة، وكانت أم سلمة من العشر الأوائل الذين هاجروا إلى الحبشة، فولدت هناك سلمة ابنها، ثم عادت فيما بعد مع زوجها إلى مكة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة، أراد أبو سلمة الهجرة مع زوجته وابنه، فمنعه رجال من بني المغيرة أن يذهب بأم سلمة، ونزعوا خطام البعير من يده وأخذوا أم سلمة وابنها، فأغضب ذلك بني الأسد، وأمسكوا بابنها سلمة وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها؛ فتجاذبوا سلمة حتى خلعوا يده.
ثم هاجر أبو سلمة وحيداً إلى المدينة، وحبست أم سلمة عند المغيرة، وبقي سلمة عند بني الأسد، فتفرّق بذلك شمل هذه العائلة، وصارت أم سلمة تخرج كل غداة وتجلس بالأبطح، فما تزال تبكي حتى المساء، وذات يوم مرّ بها رجل من بني عمها فرأى ما في وجهها. فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرّقتم بينها وبين زوجها وابنها، فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، ورد بنو عبدالأسد عليها ابنها، فرحلت به إلى المدينة وحدها ما معها من خلق الله أحد.
ولما وصلت إلى التنعيم.. وهو مكان قرب المدينة، لقيت عثمان بن طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: أين يا ابنة أبي أمية؟ فقالت: أريد زوجي بالمدينة. قال: هل معك أحد؟ قال: لا والله إلا الله وابني هذا. فأخذ بخطام البعير فانطلق بها يقودها.
فقالت: والله ما صحبت رجلاً من العرب أراه كان أكرم منه، إذ نزل المنزل.. أناخ بي ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح.. قام إلى بعيري قدمه ورحله ثم استأخر عني وقال اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري.. أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى نزلت، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي المدينة، وقيل إنها أول امرأة خرجت مهاجرة إلى الحبشة، وأول ظعينة دخلت المدينة.
ثم بعد فترة توفي زوجها أبو سلمة متأثراً بجراحه، وبعد انقضاء عدتها خطبها أبو بكر فلم تتزوجه، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم يخطبها عليه، فقالت أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني امرأة غيرى، (أي تغار) وأني امرأة مُصيبة، (أي عندي صبي)، وليس أحد من أوليائي شاهداً، فقال: «قل لها: أما قولك غيرى.. فسأدعو الله فتذهب غيرتك، وأما قولك أني امرأة مصيبة.. فسلّي صبيانك، وأما قولك ليس أحد من أوليائي شاهداً.. فليس أحد من أوليائك شاهداً أو غائباً يكره ذلك». ويقال إن الذي زوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنها سلمة.
وقد كانت رضي الله عنها أكبر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم سناً، إلا أنها كانت موصوفة بالجمال البارع، والعقل البالغ، والرأي الصائب، وإشارتها على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها. حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية أن ينحروا هديهم ويحلقوا رؤوسهم، ليعودوا إلى المدينة، فتبرم الأصحاب بهذا، ولم يشاؤوا أن يعودوا دون دخول مكة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمته وهو يقول: «هلك أصحابي»، فأشارت عليه أم سلمة فقالت: يا رسول الله، لِمَ لا تبدأ فتحلق رأسك وتنحر هديك، فإذا رأوك فعلت ذلك اتبعوك.. فعمل بما أشارت عليه، ولما رأى الأصحاب فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامهم، ندموا على تقصيرهم وبادروا فحلقوا رؤوسهم ونحروا هديهم، حتى قيل: لقد كاد يقتل بعضهم بعضاً، لاستعجالهم ومبادرتهم.
وهذا يشير بوضوح إلى دور المرأة القيادي، فهي زوجة القائد لهذه المجموعة، وربما لولا هذا الرأي الحصيف، لكاد يقع خلاف وشقاق لا يتكهّن أحد بنتائجه، ولكن رأيها كان في مكانه تماماً، وانقشعت بهذا الرأي غمامة المعصية، واقتلعت جذور الخلاف.
فليتحدث بهذا أبناء هذه الأمة العظيمة، وليفخروا بما لديهم من هذا التاريخ العظيم، وليتحدثوا عن نساء نبيهم بكل فخر، فهذا هو الدور العظيم الذي تقوم به المرأة، حتى أنها تدخلت هنا في السياسة والقيادة، وأشارت بقرارات، وشرحت قوانين للدولة، كان لها الأثر المهم والخطير في مصير الأمة جميعها. فهل لقائل أن يقول بعد ذلك: إن الإسلام بخس المرأة حقوقها، وكمّم فمها عن المشاركة والمفاعلة في قضايا الأمة وسياساتها، أو عزلها عن الحياة الاجتماعية وغيرها؟!
وقد روي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: ما بال القرآن خصّ الرجال بالذكر دون النساء؟! فإني لا أجد ذكر النساء في القرآن! ومباشرة نزل قوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً} الأحزاب «35».
فنزل لأجل هذه المرأة قرآناً يتلى تأييداً ومساندة لرأيها، وإقراراً لا يقبل التأويل بأن المرأة قرينة الرجل في الدين، فانظر إلى الآية الكريمة كيف قرنت الرجال بالنساء دونما تفريق، أفلا يقرأ هذا المعنى أولئك الذين يتشدقون بحرية المرأة في الغرب؟! ألا يلاحظ أولئك أن هذا قانون إسلامي واضح وصريح ويغني عن كتب ومجلدات سطرت في حقوق المرأة شرقاً وغرباً؟!! ألا يكفي هذا القانون المرأة المسلمة لتفخر على ما سواها من نساء الأمم الأخرى بأنها نزلت فيها من الخالق البارئ ايات عظيمات تتحدث بكرامتها وحقوقها؟!
إن في قصة أم سلمة رضي الله عنها كفاية للباحث المتجرد ليعلم حقيقة مكانة المرأة في الإسلام، ونضيف إلى ذلك أنها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كانت لها مشاركة كبيرة في الحياة الاجتماعية والسياسية؛ فكانت تذهب إلى الذين تخلفوا عن البيعة للخليفة فتكلمهم في ذلك؛ مثل ما حصل مع عبدالله بن زمعة، وهذا دليل آخر على مشاركة المرأة المسلمة ميادين السياسة في أعلى مستوياتها.
قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها:
زينب بنت جحش رضي الله عنها واحدة من بنات سادات قريش؛ وهي ابنة عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأمها أميمة بنت عبدالمطلب، ونشأت كباقي بنات قريش، إلا أنها كانت من أحسنهن جمالاً وحسباً وشرفاً ومالاً.
أسلمت وهاجرت مع المهاجرين إلى المدينة، فلما بلغت سن الزواج.. أتاها من يخطبها من سادات قريش، فأحبت أن تستشير النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأرسلت أختها حمنة بنت جحش إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة: «أين هي ممن يعلمها كتاب الله تعالى، وسنة نبيه»؟!. فقالت حمنة: فمن؟ قال: زيد بن حارثة، فغضبت حمنة غضباً شديداً وقالت: يا رسول الله.. تزوج بنت عمك لمولاك؟ فقال: نعم، فذهبت حمنة فأخبرت زينب بما جرى، فغضبت زينب أشد من غضب حمنة، وقالت: يزوجني عبداً؟
ولكنها ترددت في هذه المسألة، فأرسلت بالاستخبار عن هذا الأمر بشكل أوضح، فجاءها الجواب الحاسم للأمر: قد زوجتك زيداً، ونزل قوله تعالى: {ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مُبيناً} «الأحزاب: 36».
غير أن المرأة التي تربت في مدرسة النبوة، وتحت مظلة الإسلام العظيمة، لم تكن لتخالف أمر القيادة النبوية، ولم تكن لتجمح بغرورها وتخرج من دائرة الطاعة لله ولرسوله، فأطاعت الأمر، ورضيت بما رضيه لها الله ورسوله.. وتزوجت زيداً.
وعاشت مع زيد، لكنها لم تكن لتستطيع أن تخفي عدم رضاها ومحبتها لهذه الزيجة، وكانت سيدة من سادات قريش، وزيد كان عبداً، وكان الإسلام حديث عهد بالقلوب، ولم يستطع زيد رضي الله عنه تقبل هذه الحياة، وما استطاع التواؤم معها فأراد أن يطلقها، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصبّره ولكنه لم يستطع فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: له: «أمسك عليك زوجك واتق الله» ولكن مشاكل بيت الزوجية هذه بدأت تزيد، وينفد معها صبر زيد، مع أنه كان من أكابر علماء الصحابة ومن أتقاهم، وكذا حال زينب أيضاً، رضي الله عنهما.
وهنا ينبغي الوقوف على درس هام، وهو أن للزواج أسساً وقواعد يحتاجها كل خاطب، فليس يبنى الزواج على علاقة حب فقط، كما أنه لا يمكن أن ينجح بناء على مصلحة ما بين طرفين، وقد قضى الله أن تحدث هذه القصة مع زيد وزينب رضي الله عنهما ليعلم الله المؤمنين كيف تكون الطاعة، ومن ثم كيف يكون بناء بيت الزوجية؟
وبقي زيد مصراً على الطلاق، فأنزل الله تعالى قوله: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذ قضوا منهن وطراً وكان أمرُ الله مفعولاً} «الأحزاب: 37»
فلما نزلت هذه الآية.. ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت زينب بعد مضي العدة، فدخل عليها البيت فإذا هي مكشوفة الشعر، جالسة تعمل في البيت فقال: «قد زوجني الله إياك» قالت: يا رسول الله بلا شاهد ولا ولي؟! قال: «زوجني الله والشاهد جبريل».
فكانت تظهر فيما بعد هذه المكرمة أمام ضرائرها من أمهات المؤمنين.. فتقول: زوجكن لأهاليكن، وزوجني الله من فوق عرشه. وكانت تقول لهن: أنا أكرمكن ولياً؛ لأن الله هو وليها في زواجها، وأكرمكن سفيراً؛ لأنه كان جبريل عليه السلام.
واستقرت حياتها بزوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعرت به أنها أسعد الناس وأكرمهن.
وكانت عائشة رضي الله عنها تشهد بفضل زينب وتقول: لم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله من زينب، وأصدق حديثاً وأوصل للرحم من زينب، وأعظم صدقة وأشد ابتذالاً من نفسها في العمل.
وفي يوم عرسها بالنبي صلى الله عليه وسلم.. نزلت آية الحجاب، وكان عمرها (35) سنة.
لقد كان في قصة زينب رضي الله عنها موعظة بالغة، ينبغي أن يلتفت إليها شباب اليوم بكل انتباه، وهي أن الإسلام لم يغفل جانب الحب والألفة، بل إنه جعله أساساً لبناء أي أسرة يكتب لها النجاح والسعادة، وقرر أن بناء الحياة المستقرة، مبني أصلاً على الحب والرحمة والمودة، فالإسلام لم يمنع الحب، ولم يشوه صورته كما يفعل بعض المتحمسين للإسلام اليوم، بل شجع عليه، ولكنه وضع له الضوابط والأسس التي تصون الشباب عن الرذيلة والمنكرات، وقد ثبتت قصة كعب بن مالك حين ألقى قصيدته أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومطلعها:
بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ
متيّم إثرها لم يُفد مكبول
واستمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعجب بشعره، حتى أنه أهداه بردته التي كان يلبسها، وفي بداية القصيدة ما فيها من الغزل وأشعار الحب، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعنفه على هذا الكلام، بل خلع عليه بردته وكافأه.
وهكذا يمضي الإسلام يضرب أروع الأمثلة، ويضع أسس أعظم نظام للجمع بين الرجل والمرأة تحت حصانة المظلة الزوجية، والتي تكفل للمرأة كرامتها وحقوقها، وتعطي الرجل كامل شرفه ورجولته التي يصونها له الدين أن يدنسها أحد من الناس.
وفي الختام، فإن في جعبتنا المزيد من القصص التي تدق مسامير هذه الحقيقة، وتثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأنه ما من نظام آخر كفل للنساء حياتهن الكريمة كما فعل الإسلام، ولعلنا في الحلقات القادمة نزيدك، - عزيزي القارئ الكريم - مما أفاض الله علينا من هذه القصص الرائعة، لنماذج عظيمة من نساء الأمة، ولتكون هذه القصص عبرة ونفعاً لبناتنا اليوم، وأمهاتنا غداً، كي يخرجن إلى الحياة التي طلبها منهن الإسلام، لا ليخرجن عن ثوب الحياء إلى الحرية المزيفة، بل ليخرجن في ثوب الحياء إلى الحياة الكريمة، ومن ثم لتقوم كل منهن بواجبها أحسن القيام، وتترك لها بصمة في التاريخ، وتضع لها هدفاً في الحياة، وفقنا الله جميعاً للعمل بأحكام ديننا العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الكاتب : د. طارق السويدان
المصدر : مجلة فواصل
المفضلات