رآني صدفةً في إحدى المحلات التجارية , هو عَرفني وأنا أنكرته حينها , لكنه بادر بالإقترابِ مني , وهو باسمٌ , إبتسامة الواثق مِن أنه يعرفُني . مِما دعاني وفي كل خطوةٍ يخطوها نحوي , أن أُعيد بالذاكرةِ خطواتٍِ الى الوراء , علني أجِد ملفاً يخص هذا الرجل .
علِمت أن الذاكرةَ في وضعٍ عاجز , حين وقف أمامي وقال .. أأنت فايز ؟! قلت نعم ! أنا هو بعينهِ وأنفهِ .. ومن أنت ؟
فذكرني بنفسهِ . وحدد لي زماناً من الأزمنه , ومكاناً من الأمكنه , حيثُ كُنا فيها أقربُ مِن أَخوين , وأَشدُ مِن صَديقين , كُنا لِبعضينا مُكملينِ ومُتَمِمين . لا نفترق إلا فيما يجب علينا فيهِ أن نفترق , فقد كان هو الجسد المؤثر , وكنت فيهِ العقل المُدبر . لقد جَدد ذِكرياتٍ قد مضت وعفا عنها الزَمن , أيامٌ كانت ألذَ من العسل , أيامٌ كان الناس يقولون , إذا رأيتم فايز فبالجوار .. سعد .
لم أعتقد وهو أيضاً , أن يأتي يوماً يَنسى أحدنا الآخر , لكن وكَما يُقال , تِلك هي الحياة .. وما تَفعل . أصَر على أَن يدعوني إلى العَشاء , وما كان لإصراره أي سبيلٍ يردعُه أو يرُده أو حتى يُضعِفُه , فما كان مني إلا أن .. أقبَل !
فجَلسنا في أحد المطاعِم , وأخذنا نَتَذكرُ تلك الأيام التي مَضَت , مُرها وحلوها , أُنسها ومآسيها , وكل مافيها من مواقفَ قد خلت . ثم أخذت اسأله عن أحواله التي وصل إليها بعد كل هذه السنين . أهي على وضعٍ غث ؟ أم سمين ؟
بدأتُ بالسؤال عن وظيفتِه , كيف هي ؟ وما مدى حُبه لَها ورِضاهُ بِها ؟
قال , أُصدقك القولُ يا فايز , فإنني لستُ بها راضياً ولا مِنها مرتاحاً , فقد أتعبتني وأجهدتني بل إنها قد أهلكتني . ثم أنشدني , فقال ...
[poet font="Simplified Arabic,5,white,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أشغَلَتنا فنحنُ فيها مُكابِدينا = وأهلَكَتنا فكُنا نَحنُ المُتعَبينا
مُعاملاتٍ تَأتي ومِثلُها تَغدوا = لِلصادِرِِ نَبعثُها أو واردٌ تَأتينا
أقوامٌ يَفِدون عَلينا بِكل وَقتٍ = فنحنُ في جدٍ وكدٍ .. أَجمَعينا
[/poet]
قُلتُ , أَعانَك الله وأَغاثك ويَسر أمرُك و ... فقاطعني وقال , وأي راتبٍ يأتيني منها ؟
شهرٌ كامل , نَمضيهِ سوياً مابينَ حابلٍ ونابِل , وهي جولاتٍ نُجَدِدها كل شهر , فأنا معه مابين ودٍ وصد , يسُرني من الشهرِ في أولهِ , وأُسايرُه في آخرهِ , أفرح به حال إستلامه , ثُم أنعيهِ إن قَرُبت على نِهايتِها أيامه . فهو بالكاد يسد الرمق , وأنا في المحافظةِ على قوامهِ في قلق , وأيُ قلق ؟ فقليلٌ ما يَصمُد ! وكثيرٌ ما يتَراخى فيترنح , ليسقُط .
أتدري يا فايز ؟ فبِسبب هذهِ الحالةِ من عدم الثِقَةِ بهِ , فأنا أقطعُ منهُ جُزأً يسيراً , فأضعه في مكانٍ عليّ , وعن ناظريَّ خفيّ , ثم أُعاهِد نفسي أَن لا آتيه ولا أقرَبه , حتى إذا نَحَلَ الجِسمُ , وصَاح البَطنُ , وتَراخت الأقدامُ , وضعُفَ مني البَصَر .. تَمثلتُ كالِلصِ , حيثُ أسلبُ هذا الجُزء مِن مَكانه , فذلك هو حالي وحاله .. قد أَنشَدتَهُ يومَ أن أَتاني في لَحظةٍ كِدت فيها أن أفنا ...
[poet font="Simplified Arabic,5,white,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أهلاً وسهلاً ومرحباً بِمَن حَلَ = علينا بآخرِ الرَمقِ وكأنهُ مُعَادينا
أَقبِل يا أخَ الروحَ بَل .. ومُهجَتِها = فَلا بعدُكَ ولا قَبلُك كَان ما يُلهينا
[/poet]
كأن راتبي فريسةٌ وقَعَت بين الضِباع , ثُم حامت فوقَ مابقي منها النسور , فكلٌ يريدُ مِنه ما يَخُصُه , فلا يرحموه ولا لِبُكائي يَتركوه , وكأنني أراه وهو يَنظُرُ إلي فيقول .. أأنت من أَخَذَنا الشوقُ إلَيه ؟ أَهَكَذا أُضامُ وأَنَا بينَ يَديه ؟
فَما أن يَحلُ بينَ يَدي , حتى تتوالى فواتير الماءِ والهاتِف والكهرباء , فالأُولى تَصفَعُني , والثانيةَ تَركُلُني وأَبقى مع الأخيرةِ مابين كرٍ وفر , وإقبالٍ وإدبار , حتى أسقُط ولا أقوم . فمرةً بَقيتُ أياماً بِلا ماء , فَقُلتُ لِمَن قَطَعهُ عَني ...
[poet font="Simplified Arabic,5,white,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
يامانِع الماءِ بالله أن لا تَعجلِ = وامهِلنا لنَجلُوا الصَابونَ عَن أَيادينا
عَجولاً بِقطعِهِ أمولاً بِرَدعِنا = وبِفتحه مهملٌ ! تَبحثُ لَك عَن مُعينا
[/poet]
ثُم قالَ لي .. فايز !! أأنت عَجولٌ مِن أَمرك ؟ وَكَأنه يُريدُ أَن يُخرِجَ مآسي قَد أَسكَنَها جوفِه . قُلتُ لَهُ , إسترسِل يا سعد , فأنا مَعك مُستمعٌ ومتأثر ..
فقال , إنَ حالتي يا أخي , في كَلفٍ وصَخبٍ وتَعب , وخاصةً عِندما يحينُ خَريفُ الشهر , حيث يَتَساقطُ ما جَنيتهُ مِن مال , ويُقارب في أن يؤول إلى الزوال , فَأُحاول أن أقتصِد بما بقي مِنه , وأن أعيشُ منه في حالةٍ من الجفاف والتَقَشُف . أُعللُ النفسَ في فَترةِ الغَداء , وأُصبِرها بِما سيوهبُ لها من عَشاء . حيثُ إن كُنت كَريماً , وهبتُها وبلا منه .. شاورما , فإن لَم يكُن ذلك فهو إذاً الخُبزُ و الجُبن . ثُم قامَ وهو يُشيرُ الى كُتلةٍ مِن الشاورما خلفي ...
[poet font="Simplified Arabic,5,white,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
بالله يا مُعلِم الشَاورما أتقِنها = وعرِضها عَلى النَارِِ حَتى حِينا
وإن أَطلتَ فَلا تُشفِقُ لِما .. بِها = فَنحنُ مِما نُقاسي قَد كرِهنا اللينا
وارفِق معها مِن الخسِ والفجلِ = وحَبذا لو أن تُعرِفها على .. التينا
[/poet]
ثُم نحى بي لأمرٍ آخر وقال , هِيَ ! هِيَ ! قُلتُ ومَن هِيَ ؟ قَال , هِيَ مَن أهلَكَتني , هِيَ من قَتَلَتني , هِيَ المُزعِجةُ المُؤرِقَه . تُشارِكُني بِما لَدي , فنِصفٌ لَها ونِصفٌ إلي . قُلتُ لَه , ( معللاً ومُواسِياً ) كُلٌ النِسوةِ هكَذا يا رجُل , فَلا تَشتَكَي مِن أَمرٍ والرِجالُ مِنه في وَجَل . فَقَال , أَي نِسوةٍ وأَي زوجه !! إنَني أَتَحَدثُ عنِ السَّياره !!
ثُم آَشارَ مِن خَلفِ زجاج المَطعمِ , إلى قِطعةٍ مِن حَديد , شَكَلَت ما قد نُسميهِ سياره !! وهو يقول ...
[poet font="Simplified Arabic,5,white,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
يا عَابِسةُ الوَجهِ أَمَا حَانَ فِرَاقُنا = أَما أَتى هَذا اليومَ الذي بِه تُطْلقينا
تَباً فَلا أبقَيتي مِن مَالٍ نَحفظهُ = بَل وليتُكِ أَن عَلى الأضلُعِ تُبقِينا
[/poet]
وبعدَ صمتٍ دَامَ لِدقائِق , إقتَرَبَ بِكُرسيهُ إلى الطاوله . وقَالَ لِي هَامِساً جَزِعاً , أَترى ذَلِكَ الرَجُل ؟ قُلتُ أَهذا ؟ الطَّاعِنُ في السِن ؟ قَال , نَعم وهو الطاعون نفسهُ يا أخي !!
قُلتُ مَا بِهِ ؟ لا قَربنا الله إليهِ ؟ فقال , أتراه الرجُلُ الطَيب ؟ قُلتُ نَعم أَراه كَذلِك ! فَقَال كذبٌ ما تَرى . فَأَنا مُستأجرٌ لِإحدى الغُرف لديه , وَليتك تراهُ عِندما يحينُ الدفعُ , فَينقلبُ هَذا البائِس الطَيبُ الورِع ُ. إلى أسدٍ كَاسِر , وعَدوٍ مُجاهِر , لا يَرحم ولا يَعطِف , فهو الخَبيثُ اللئيمُ المجحِف .
خَرجتُ مرةً ( والقول لهُ ) من المنزل , وكأنني المُجرم , فَأخذتُ أتَلفتُ يُمنةً ويُسرَه . وكُنت في حَالِ عُسرَه , فَرأيتهُ وهو قادمٌ نَحوي شِبه مُهرول . كَأنني لَحظتها , جربوعٌ وقَفَ في طَريقِ جَاموس . فَأسرَعتُ إلى سَيارتي هذه العَبوس , وحاولتُ أَن أُشغِلها , وأَن أَلوذَ بالفِرارِ بِها . وكَما هو مُتَوَقع , أَبت إلا أن بِيديهِ أَقع , وكأَنها على إتفاقٍ معه , حتى أمسَكَني وقال .. سعد ! وأين المَفَر ؟ ولِمَ الجَزَع .
أَردتُ بعد هذا أَن أُبعِد مَجالَ الحديث إلى أَمرٍ آخر , فَقُلتُ وليتني لم أَفعل . هَل تزوجتَ يا سعد ؟
إلتَزَمَ الصمتُ ولم يُجِب . وكَأنَ لِسانِ حَالِهِ يقول ...
[poet font="Simplified Arabic,5,white,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
مَالي بِزوجٍ يزيدني هَمٍ وغم = يطلب مني وأنا .. مِن المُفلسينا
فلا ولا وألفُ ألفٍ من لا = فَلستُ بِهذا الأمرُ !! مِن العَازمِينا[/poet]
ثُم إنهُ أَخذ يَنظُرُ إلى الأعلى أَلفَ مرَه . كَأنهُ يُخفِي عَني شَيئاً مِن الحِرقَةِ والعبره . قُلتُ لَه , سعد مابِك ؟ سعد أَلا تَنطُق ؟ لَم يَفعَل ! فَعلِمتُ بعدها أنَني لَمستُ جِراحاً ومواجِعَ , وأنني حَركتُ ما فِي جَوفِهِ مِن فَواجِع . فقُمتُ , وربتُ على كَتفِهِ تَهويناً , وتَعزيةً لِهذا المُصاب . ثُم ذَهبتُ وعيناي تَنظُرانِ إليهِ أَلمَاً . حتى أتيت المحاسب , وقلتُ له ..
كم الحساب !!
سعد .. هو صديقٌ لي , وفايز إسم مستعار . رأيته قبل مده وتناقشنا في كثير من الأمور , علمت بحاله وبحال شريحة كبيرة العدد , مِن من سقطوا في أحد البنود الوظيفيه , أردت أن أعبر عن حاله وإن كان الأمر ساخراً بل ومبالغاً فيه كثيراً .
فإليك يا سعد , أعتذر .
المفضلات