فتن الإنسان بالمعرفة منذ فجر الخليقة، وتعددت سبله إليها ومحاولاته في سبيلها.
فما زالت معارفه تتسع باتساع مداركه وتجدد اكتشافاته، إلا أن محدودية العقل البشري المحكوم بعوامل محيطه من جهة، وثورات المعرفة، ذلك البحر الزاخر الذي تتغير ثوابته وتتناقض براهينه بين عصر وآخر، من جهة أخرى، فرضت عليه التعامل مع حصيلته من المعارف بشكل يتيح له تبريرها وتمريرها إلى الآخرين من دون كبير عناء، وهذا تحديدا ما لجأ إليه أجدادنا لنقل معارفهم لينا!
قراءة: علي السبعان
فهناك وصفات غير مبررة وتحذيرات غير منطقية يحفل بها القاموس الشعبي في وطننا العربي، لكن إذا تتبعناها وجدنا الكثير منها يتفق مع عصرنا في النتائج، وإن اختلف في المسببات، تبعاً لفكر أصحابه ومعطيات عصرهم ومستواهم التعليمي والفكري الذي استخلصوه من المدرسة الكبرى والمعلم الأول للإنسان : الحياة.
لحسها الشيطان
في الزمن البعيد القريب قبل أن تنفجر آبار الذهب الأسود تحت أقدامنا لتتوالى بعدها الانفجارات والتفجيرات من كل شكل ونوع، كان العيش ضيقاًكما كانت سبله، ولذلك لم تكن حاويات المخلفات مزروعة أمام أبوابنا تلتهم الكثير مما يفيض عن موائدنا العامرة بما نشتهي ولا نشتهي، ولكن تقتضيه المظاهر وجرت به العادة.
في ذلك الزمن لم يكن سهلاً أن تقنع صبياً سقطت لقمته بتركها، وسيكون ظلماً- في نظره - أن تمنعه من التقاطها، ومن هنا تنبع حيرة والدة حنون لا تعلم شيئاً عن الميكروبات والبكتيريا وغيرها من الجراثيم المجهرية، لكنها تعلم بالتجربة أن تناول هذه اللقمة مضر بصحة ابنها، ولا تجد سبيلاً لنقل هذه المعلومة إلى صغيرها سوى تقريبها له أو تجسيد هذا الضرر، وهناتسعفها الذاكرة الشعبية بحجة قوية فهذه اللقمة لا تصلح للأكل لأنه (لحسها الشيطان)!! وأي طفل بعد ذلك سيقبل أن يأكل لقمة لحسها الشيطان، وإن كانت من أطيب الطعام أو أعز الحلويات على قلبه؟! وبعدها بسنوات سيضحك مع أترابه على (جحا) الذي سقطت أمه في حفرة فرفض أن يمد يده لإخراجها، وعندما سألوه لماذا أجابهم لقد لحسها الشيطان!!
الجاثوم
يكاد يكون لهذا (الجاثوم) الفضل الأكبر في مسألة النظافة المسائية؛ فهو سيف مسلط على رقاب الصغار - والكبار أحياناً - الذين يذهبون إلى النوم من دون أن يغسلوا أيديهم وفواههم جيداً، فهذا (الجاثوم) لا عمل له سوى اعتلاء صدور هؤلاء الملطخين ببقايا الطعام، أو أولئك النائمين بملابسهم القذرة، وهو بذلك مسؤول حتى عن المحافظة على النظافة اليومية في زمن لم يتلوث بضجيج الغسالات الأوتوماتيكية!!
مساكن الجن
عندما كانوا يحلقون شعر رؤوسنا بالموس أو (على الزيرو)، بناء على التوصيات الصارمة لمدير المدرسة، كانت سلوتنا إحصاء الخدوش والإصابات التي تغطي صلعاتنا اللامعة، وكنا نتبارى في سرد قصصها وملابسات التصاقها برؤوسنا الحليقة وكأنها أوسمة ظفرنا بها من بين غبار المعار ومنافحة الأعداء، إلا أنها كانت على الأغلب من فعل أصدقاء إذا لم تكن بفعل أيدينا نحن! فقد كنا أصدق الشواهد على أنه (لا تقذف إلا الأشجار المثمرة) حيث لا تكاد تلوح بشائر الثمر في شجرة إلا وارتفعت في ظلها غابة الأذرع الصغيرة في استجداء عدواني نقايض فيه الثمر بالحجارة!!
كيف شاهدوا الميكروبات المجهرية؟!
اكتشاف الأمونيا في تهامة عسير!!
الجن تسكن الأشجار لتحرمنا منها!!
ميزات اليتامى ودموع البصل!!
وقد كانت أفياء شجر السدر والدوم والتين مسرحاً للعديد منالإصابات وشاهداً عليها، فما أن تنطلق أحجارنا إلى الأعلى حتى ننسى مصيرها في غمرة فرحنا بالثمر المتساقط الذي نتسابق للظفر بأكبر جزء من غنيمته التي تهبط مصطحبة أحجارنا في إثرها لتقع على الرؤوس التي أصرت على قذفها قبل قليل!! وحيث إن أغصان الشجرة تحتفظ أحياناً ببعض حجارتنا من غارات سابقة فإنها ترد لنا الصاع صاعين والحجر حجرين!! وغالباً ما نعود حاملين أحد أصدقائنا صريع حجر مجهول المنشأ، وحين نؤكد لأهلنا أننا كنا جميعاً تحت الشجرة ولا نعلم من أين أتى هذا الحجر المعتدي!! يفتحون قاموسهم الشعبي ليستخرجوا لنا تفسيرا مرعباً يضمن لهم ابتعادنا عن هذه الشجرة شهوراً طويلة وربما سنوات!! حيث يخبروننا أن عائلة من الجن سكنت هذه الشجرة، وقد قذفونا بهذا الحجر انتقاماً منا لإزعاجنا إياهم!! وحتى لا نكرر الأمر مع شجرة أخرى ونشج رأساً صغيراً فإنهم يؤكدون لنا أن الجن يسكنون في أعلى كل شجرة مثمرة!!
العد ينقص البركة
(لا تخرج ما في جيبك من نقود لأنك سوف تضيعها) إن مثل هذا التحذير إذا صدر من الأهل سيواجه باللامبالاة من الطفل، أو على الأقل بأخذ بعض الاحتياطات البسيطة، لكنه لن يمنعه من إخراج ما يحمله من نقود لعدها التباهي بها أمام أقرانه أو في طريقه إلى السوق، إذاً لابد من تحذير يحمل رادعاً قوياً يضمن امتثال الطفل له (عد الفلوس ينقص بركتها) فالبركة أمر غير محسوس ولا مجال للاحتياط من حدوثه إلا بالامتثال لهذا التحذير، خصوصاً إذا تعلق الأمر بمصروف مدرسي يتمنى الطفل أن يطرح الله فيه البركة حتى يشتري بهذه البركة بعض الحلوى أو اللعب أو غيرها من الممنوعات الأزلية!
أمونيا!!
في تهامة عسير - جنوبي السعودية - يستخدم البدو - القطران - الذي يستخلصونه من أشجار معينة (السمر والقرض والقمّر) حيث يقومون بتقطيعالأغصان اليابسة إلى قطع صغيرة، وتوضع بداخل (التنكة)، وهي وعاء معدني، ثم تدخل إلى الموقد وتشعل النار تحتها لفترات طويلة، وبذلك يستخلصون سائلاً شديد السواد واللزوجة يشبه مادة القار يسمّونه القطران، حيث يقومون بتخفيفه عن طريق مزجه بالماء ثم يطلون به المواشي لقتل الحشرات العالقة بها ومعالجة بعض الأمراض التي تصيب الأغنام والإبل مثل الجرب وغيره.
ومن المتعارف عليه إذا صادف أن دخل شيء من القطران عين شخص في أثناء عملية الطلاء أن يبصق عدة مرات على الخرقة التي يستخدمها لطلاء الماشية حتى يتوقف الألم!! والغريبأن الألم يتوقف فعلاً عندما يقوم بذلك (وقد جربت هذه الطريقة بنفسي)!!
وعندما سألت أحد الأطباء، قبل سنوات، عن تفسيره لهذه المسألة قال: إن مثل هذه المواد تحتوي نسبة عالية من الأمونيا، وهي لاذعة، لكن مفعولها سريع الزوال ولا تسبب أذى للعين ما لم يتم فركها! حيث إن فرك العين يؤدي إلى انتشار هذه المادة على سطحها وبالتالي يتسبب في المزيد من الألم، وربما يضر بالعين!!
إذاً لا علاقة للبصق على الخرقة ولكنها الطريقة الشعبية لإلهاء الشخص عن فرك عينه كرد فعل طبيعي على الإحساس بالألم، ما قد يزيد الطين بلة، خوصاً وأن يده ستكون بالضرورة ملوثة بالمزيد من القطران.
أي دمعة.. لا!
لا يزال البصل إلى اليوم يستثير دموعنا من دون أن تنبري التكنولوجيا لتجد له حلاً، بل تفرغت لتقدم لنا ألف سبب آخر للبكاء ليس آخرها الفضائيات، لكن الذاكرة الشعبية تختزن لنا نصيحة طريفة في هذا الصدد، فبعيداً عن إبقاء البصلة تحت حنفية الماء أو وضعها لدقائق في (فريزر الثلاجة) - والحلان يعدان من ترف التقنية حتى وقت قريب - تقول النصيحة الشعبية إن على الشخص الذي يقطع البصلة أن يضع بصلة أخرى على رأسه حتى لا تدمع عيناه!! طبعً لا فائدة للبصلة التي على الرأس، إلا أنها ستسقط لو أحنى الشخص رأسه، وبذلك تمنعه من استنشاق أبخرة البصلة التي يقشرها فلا يبقى سبب للدموع!
الرمانة المباركة
قبل دعوات تحديد النسل، وقبل تناسل (الخادمات) في منازلنا، كان من الصعب على ربة بيت وأم ل(دزينة من الأطفال) أن تؤدي واجباتها العديدة وتراقب أطفالها الضاجين بالنشاط والمرح وصخب الطفولة، لكن الأم لا تعدم وسيلة من وسائل الجدات تسعفها في هذه الحالة؛ فالوصفة بسيطة ومضمونة النتائج، فثمرة واحدة من الرمان كافية لإلهاء أطفالها لعدة ساعات!! قط لو أخبرتهم أن إحدى حباتها الصغيرة مكتوب عليها لفظ الجلالة وعليهم أن يقلبوها حبة حبة ليظفر أحدهم بها ويأكلها لأن فيها بركة الرمانة كاملة!! وفي هذا الحل ضمان آخر لنظافة المكان، فلا مجال لسقوط حبة واحدة من هذه الرمانة لأنها قد تكون هي الحبة المباركة!
لبان اليتامى!
عندما كان اللبان اختصاص جداتنا، يسكن سحاراتهن متخذا مكانه ومكانته بين (المر) و(الحلتيت) وبخور (الجاوي) قبل أن يتلون و(يتقرطس) ويتحول إلى (علكة سائبة) تملأ رفوف السوبر ماركت وتذوب في اليد قبل الفم، كان الحصول عليه عد ترفاً بالنسبة للأطفال، فإما أن نسطو على (قائمة السرير) حيث تلصقه معظم جداتنا إذا كلت نواجذهن من مضغه، وإما أن نفوز بقطعة صغيرة من بين أسنان أحدهم بعد أن نعجن توسلاتنا الملحة بلعابنا وذل المسألة!! في حينها كان أسمى تعابير التضحية وأصدق معايير الود أن يكشر صديقك عن أسنانه المبرقشة بحفر السوس الداكنة ليخرج لك قطعة صغيرة من (غنيمته) تقتطفها بإبهامك وسبابتك ضاغطاً ما استطعت إلى الداخل مستغلاً ثغرة تركتها (ثنية) غادرت أو (ناب) في طور الظهور، متجاهلاً تحذيرات العدوى التي تنبئ بها ابتسامة صديقك المرتسمة على ثر يبدو ما بداخله وكأنه سوس مصاب بالأسنان!!
وهنا يأتي التحذير الشعبي (من فم لفم تموت الأم) وأي صبي يقايض أمه بقطعة (لبان)؟؟ لعل تلك كانت إحدى الميزات النادرة التي يتيه بها اليتامى على أقرانهم من ذوي الأمهات!!
المصدر http://www.alsada.co.ae/
المفضلات